جورج كلوني يعود في فيلم جديد فوق أرض لا تصلح للعيش

كلوني كما يبدو في «سماء منتصف الليل»
كلوني كما يبدو في «سماء منتصف الليل»
TT

جورج كلوني يعود في فيلم جديد فوق أرض لا تصلح للعيش

كلوني كما يبدو في «سماء منتصف الليل»
كلوني كما يبدو في «سماء منتصف الليل»

هناك العديد من الأحداث السينمائية التي تحتشد في شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وأحدها الفيلم الجديد «سماء منتصف الليل (The Midnight Sky)» الذي تتأهب محطة «نتفليكس» لإطلاقه في الثالث والعشرين منه.
أخرجه جورج كلوني عن رواية بالعنوان نفسه لمارك سميث الذي كان المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو صور له «الانبعاث» (The Revenant) قبل خمس سنوات. مثل الرواية السابقة تتعامل رواية سميث «سماء منتصف الليل» مع رحلة رجل واحد في الطبيعة القاسية سعياً لغاية لا مفر منها.
هي رواية مستقبلية تنتمي إلى حقبة زمنية ماضية (القرن التاسع عشر). كلوني يؤدي دور عالم اسمه أوغستين يحاول إقناع رواد فضاء بعدم العودة إلى الأرض لكونها أصبحت خطراً على سكانها. في هذا السبيل، عليه أن يقطع مسافات طويلة لاهثاً للوصول قبل فوات الأوان… إن لم يكن هذا كافياً، فما البال لو عرفنا أن أوغستين ملزم برعاية طفل يشاركه الرحلة؟

سيرة فيلمية
هذا هو الفيلم السابع لكلوني مخرجاً. كان في الحادية والأربعين من عمره، سنة 2002. عندما حقق أول فيلم له «اعترافات عقل خطير» (Confessions of a Dangerous Mind). وكان بدأ التمثيل في عدد من أفلام الرعب الشبابية سنة 1983. أحدها «عودة البندورة القاتلة (Return of the Killer Tomatoes)» سنة 1988، وأشهرها «من الغسق إلى الفجر (From Dusk till Dawn)» سنة 1996.
أدى نجاح «من الغسق إلى الفجر» إلى لفت اهتمام هوليوود إليه كمشروع نجم جديد. هذه النظرة الجادة أدت به إلى دوره العاطفي الكبير الأول تحت عنوان «في يوم ممتاز (One Fine Days)» الذي قام ببطولته (سنة 1996) أمام ميشيل فايفر.
هذا قاد لانتخابه في دور «باتمان» في فيلم جويل شوماكر «باتمان وروبِن» في العام التالي، وفي العام ذاته لعب بطولة فيلم تشويقي جيد هو «ذا بيسماكرز» أخرجته ميمي لَدر ووقف فيه لجانب نيكول كيدمان.
فيلمه الأول مع المخرج ستيفن سودربيرغ تلا ذلك سنة 1998. كان ذلك في «مخفي (Out of Sight) الذي جاور التشويق مع الكوميديا. الفيلم الثاني بين كلوني وسودربيرغ ورد بعد عامين في «يا أخ، أين أنت؟» (O Brother‪، ‬ Where Art Thou‪?‬).
قبله فيلمان مهمان: «الخط الأحمر الرفيع» (The Thin Red Line) لترنس مالك (1998) و«ثلاثة ملوك» (Three Kings) لديفيد أو راسل (1999). بعدهما خمسة أفلام أخرى في الفترة ذاتها لحساب سودربيرغ هي «أوشن 11» (2001) و«سولاريس» (2002) و«أوشن»: «أوشن 12» (2004) و«الألماني الجيد» (2006) ثم «أوشن 13» (2007).
«ثلاثة ملوك» كان تجربة في الفيلم ذي النبرة السياسية. منهج عاد إليه جورج كلوني لاحقاً وباختياره. حكاية ثلاثة مجندين (كلوني، ومارك وولبرغ وآيس كيوب) يكتشفون وجود حمولة من الذهب يودون الحصول عليها والهرب بها، لكن المأساة العاصفة (والفيلم يقع في العراق بعد الحرب الأولى) يجبر الجميع على الاهتمام بمآسي المواطنين البسطاء.
بعد عامين من «ثلاثة ملوك»، وجدنا كلوني يقرر التحول إلى الإخراج وموضوعه الأول كان شائكاً: سيرة حياة تشاك باريس الذي كان نجماً لبرامج الألعاب التلفزيونية، لكنه اعترف لاحقاً بأنه كان محترف قتل لحساب وكالة المخابرات الأميركية.
يتعامل الفيلم مع أمرين لافتين. الأول أنه، مثل فيلم كلوني اللاحق «تصبحون على خير، وحظ سعيد» (Good Night‪، ‬ and Good Luck)، يتعامل مع أحداث حقيقية ذات إطار تلفزيوني من دون أن ننسى أن جورج هو ابن المقدم التلفزيوني الناجح نك كلوني. الثاني هو أن الفيلم كان إطلالة كلوني الأولى، كمخرج، على الموضوع السياسي ولو ضمن السياق التشويقي للفيلم.
من هذا السياق انتقل في «تصبحون على خير، وحظ سعيد» (2005)، إلى السياسة نفسها. هذا لأن الفيلم يتعاطى مسألة الثقل الذي تركته حملة مكارثي على الإعلام من الخمسينات وحتى الستينات عندما تصدى الإعلامي إدوارد مورو (قام بإداء دوره ديفيد ستراثيرن) للسيناتور جوزف مكارثي نفسه منادياً باستعادة حرية التعبير الأميركية.
في العام ذاته كان لجورج كلوني عودة إلى موضوع الشرق الأوسط في فيلم يشبه «ثلاثة ملوك» من حيث تعامله مع سياسات الشرق الأوسط. الفيلم من إخراج ستيفن غاغان وقائم على أحداث تقع في بلد خيالي (لو أن الاسم قريب جداً من سوريا) ويتعامل مع السياسة الأميركية حيال النفط في المنطقة وسعي الشركات المتنافسة لاستحواذها. الموضوع قديم الآن وكان قديماً حين إنتاج الفيلم كذلك، لكنه يفي برغبة صانعيه الحديث عن السياسات الخارجية للولايات المتحدة حيال المنطقة ودور المخابرات الأميركية فيها.

سياسي بمبادئ
فيلم آخر لجورج كلوني، ممثلاً ومنتجاً هذه المرة، ارتبط بأوضاع الشرق الأوسط هو «الرجال الذين يحدقون بالماعز» (2009). هذا الفيلم الساخر عرضه مهرجان فينيسيا (وكان سبباً لواحد من عدة لقاءات تمت بيني وبين كلوني في المدينة). خدماته، حسب الفيلم، دخلت عماد الحرب العراقية آنذاك.
في «سوبربيكون» (الذي عرضه كذلك مهرجان فينيسيا سنة 2017)، استدار صوب السياسة الأميركية الداخلية ملقياً الضوء على أحداث خيالية موزعة على وضعين متوازيين: زوج يتخلص من زوجته ليرث تأمينها لتخلو له شقيقتها (التي تعلم ما فعل)، وعائلة أفرو - أميركية تنتقل للعيش في هذه البلدة الصغيرة المشمسة التي اختارها سكانها (والأحداث تقع في الخمسينات) مكاناً لعيش نظيف، مريح، مشمس و... من دون أفرو - أميركيين.
وعلى نحو متوازٍ، يقدم كلوني خطي الأحداث كما لو كان يتعامل مع موضوعين مختلفين، لكنهما في الواقع موضوعاً واحداً متصلاً عند الصرة الاجتماعية. واحداً محدداً بحكاية تشويق عائلية والآخر محدد بإطار اجتماعي واسع.
الموضوع الذي يحيط بجنوح الزوج (مات دامون) الإجرامي مستأجراً رجلين بلا قيم اجتماعية للقيام بالجريمة، هو من كتابة الأخوين كووَن قبل عدة سنوات. عندما أخرجا «فارغو» سنة 1996 الذي احتوى أيضاً على مؤامرة زوج للتخلص من زوجته باستقدام قتلة، ركنا هذا المشروع جانباً إلى أن اشترى كلوني حقوقه مضيفاً إلى السيناريو الذي كتبه مع شريكه في الإنتاج غرانت هسلوف الموضوع الاجتماعي الذي يصب مباشرة في رحى ما يحدث في عام 2017 (ثم لاحقاً) من هزات عنصرية وشغب عرقي في الولايات المتحدة معيداً الموضوع الذي تسبب بنشوب الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر إلى الطرح.
إمعاناً في رغبة كلوني الحثيثة طرح المواضيع السياسية، من جملة ما أنتجه ومثله أو أخرجه، نجده في سنة 2011 عمد إلى تحقيق فيلم «منتصف شهر مارس (آذار)» (The Ides of March). يؤدي كلوني هنا دور رجل سياسي بمبادئ لا يساوم عليها. في مطلع الفيلم نستمع إلى بعض تلك المبادئ: «أنا لست مسيحياً، ولست ملحداً. لست يهودياً ولست مسلماً. أنا أؤمن بالدستور الأميركي».
خلال الفيلم سنستمع إلى مبادئ أخرى تعكس آراء الرجل ومواقفه من المشاكل التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية. يخطب ضد القلة من الأثرياء التي تهيمن على المقدرات الاقتصادية للبلاد، ومع حق الطلاب في تعليم مجاني كامل. ينتقد تراجع الولايات المتحدة عن مكانتها السابقة ويدعو إلى بداية عصر جديد من الثورة التكنولوجية تكون الرائدة فيه. الأهم: «علينا أن نجلس وأعداء أميركا على طاولة المفاوضات، عوض أن نلقي على العراق القنابل».
الفيلم بأسره، ورغم محدودية ميزانيته، هو تحية للسينما الرصينة. لدى كلوني القدرة على تحريك الأحداث بفاعلية من دون افتعالها أو افتعال إيقاعها. لا يفوته في الوقت ذاته التوقف لفحص الشخصيات ومن خلالها مواقفها المتباينة. المصالح التي تتوزعها ولماذا - في نهاية كل مطاف - لا يفوز من يحمل أراءً تشبه تلك التي يحملها موريس.

مشاريع اليوم والغد
يأتي «سماء منتصف الليل» بعد فترة انقطاع عن العمل السينمائي تمتد من سنة 2017 حال إخراجه «سوبربيكون». لكنه انقطاع مرحلي. ففي هذه الفترة كان تزوج من اللبنانية أمل علم الدين وأنجبا توأماً وأسسا صندوق دعم للقضايا الاجتماعية.
على ذلك، أمضى كلوني الكثير من الوقت معاينا المشاريع التي تثير اهتمامه وقسمها إلى مشاريع يود إنتاجها وأخرى يود إخراجها من دون أن يغفل عن رغبته في تمثيل بعضها. كمخرج فإن فيلمه التالي هو «سانت جون»، واللاحق عنوانه «هاك أتاك» ولديه كذلك «صدى» الذي خطط ليكون فيلمه لعام 2023.
أما منتجاً فلديه ثلاثة تنتظره: «الفيلق الأحمر» (Red Platoon) الذي يدور حول الحرب الأميركية في أفغانستان و«رائد» (Pioneer) المستوحى من فيلم نرويجي بالعنوان ذاته، ثم «مات هلم (Matt Helm) وهي شخصية بوليسية لعبها دين مارتن في بعض أفلام السبعينات.
أما «سماء منتصف الليل» فكان أنهى تصويره في مارس الماضي، واستغل حالة الركود الذي تسبب به وباء كورونا، لكي ينجز توليفه وإعداده في راحة بيته في لوس أنجيلس. لكن المشروع في الأساس هو لـ«نتفليكس» التي كانت اتصلت به لكي تعرض عليه القيام بتمثيل الدور الرئيسي فيه. يقول في محادثة سريعة: «عندما قرأت السيناريو قررت أن أخرج الفيلم بنفسي. وجدت فيه ما استرعى انتباهي. وجدت أجواءه قريبة من فيلمين لي أحبهما كثيراً «سولاريس» لسودربيرغ و«جاذبية» لألفونسو كوارون».
نتيجة ذلك، اتصل كلوني برئيس إنتاجات «نتفليكس»، وقال له إنه يود إخراج الفيلم أيضاً. يقول:
«اشترطت بعض التغيير. الشخصية التي أؤديها تقوم بالرحلة مع فتاة صغيرة لا تتكلم. لكنه كثير الكلام. الفيلم مليء بالحوار ووجدت أن الوضع لا يمكن أن يكون واقعياً هكذا. أقصد إذا كنت تقوم برحلة مع شخص صامت فإنك لن تشعر بالرغبة في الحديث طويلاً إليه. اشترطت أن يُحيد هذا الحوار المكثف وبالتالي الاعتماد على الصورة. وجدت أنها تكفي وحدها».
تم التصوير في آيسلندا حيث لم يتطلب الأمر الكثير من ابتداع الجو البارد في شتاء مطلع 2020:
«نعم كان التصوير صعباً. الرياح كانت شديدة وإذا وضعت يدك أمام وجهك لن تراها. رُبطت والفتاة بحبال غير مرئية، لكي نضمن بقاءنا سوياً وصاحبنا عدد قليل من الفنيين في هذه الظروف الصعبة. لكني كنت مصراً على تصوير واقعي في مقابل التصوير في استوديو مثلاً».
لم يحاول كلوني اعتماد الطريق السهل، ليس فقط بالنسبة للتصوير في أماكن طبيعية، بل بالنسبة كذلك إلى علاقته بالكاميرا خلفها وأمامها. فدوره كمخرج كان ينص على أن يهتم بتفاصيل العمل لكل لقطة ومشهد. هذا طبيعي لأي مخرج يريد إنجاز فيلم جيد، لكن عند كلوني هو حرص شديد لا يوازيه سوى حرصه للظهور أمام الكاميرا متعاملاً مع تفاصيل الدور جيداً.
كمثال، يذكر كلوني التالي: «ألعب دور العالم الذي لا يشعر بأن لديه الكثير من الوقت قبل أن يموت، لكنه يريد تحقيق غايته قبل ذلك. خسرت الكثير من الوزن. وربيت لحية بيضاء، وبقي أن أفحص علاقته بالتفاصيل، حين يمسك بالمسدس. كيف يُمسك العالم بالمسدس؟ لا يُمسك به كما يُمسك به إنسان آخر. هو أداة جديدة عليه. تعامله معه يختلف. وهناك تفاصيل أخرى كنت على ثقة بأنني أحتاج العمل بمقتضاها لكي يأتي الفيلم متكامل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)