مديرة «فن أبوظبي»: «كورونا» سيغير طريقة عملنا للأبد

دورته القادمة افتراضية ومتنوعة تتواصل مع العالم ومبدعيه

مديرة «فن أبو ظبي» ديالا نسيبة
مديرة «فن أبو ظبي» ديالا نسيبة
TT

مديرة «فن أبوظبي»: «كورونا» سيغير طريقة عملنا للأبد

مديرة «فن أبو ظبي» ديالا نسيبة
مديرة «فن أبو ظبي» ديالا نسيبة

تنطلق الدورة 12 من فن أبوظبي هذا العام في عالم متغير وتحت سحابات من فيروس فرض وجوده على كل مناحي الحياة، لكن المعرض وجد في ذلك التغيير طرقاً جديدة للوجود والتواصل حيث تعود فعالياته (في الفترة ما بين 19 إلى 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، ضمن نسخة رقمية تفاعلية توفر تجربة استثنائية تجمع بين صالات العرض والفنانين من جميع أنحاء العالم ضمن عدد من المعارض وأقسام صالات العرض.
ديالا نسيبة مديرة فن أبوظبي تتبنى رؤية إيجابية لما يمكن للمعرض تحقيقه تحت ظل هذه الظروف. وعبر حوار مع «الشرق الأوسط» تتحدث عن أهم فعاليات المهرجان وأهمية الوجود الرقمي والاستفادة منه في توسيع دائرة التواصل مع العالم.
أسألها في بداية الحوار عن التحدي الذي يواجهه المعرض هذا العام؟ ترى جانباً مثيراً للاهتمام في التحول للمنصة افتراضية وتقول: «هل تعرفين ما هو الأمر المثير حقاً؟ عالم الفن كان دائماً متأخراً عن اللحاق بالصناعات الأخرى مثل الأزياء والفنادق وغيرها التي بدأت في تقديم نفسها عبر المنصات الافتراضية. العالم الفني كان دائماً متردداً في ذلك والسبب هو أهمية العرض الفعلي للأعمال الفنية والحاجة لوجود جمهور على الأرض لذلك. ولكن ما أدركه كثيرون هو أن هناك العديد من الأفكار والأشخاص الذين لديهم أفكار خلاقة ويمكنهم تحقيق الكثير عبر الإنترنت وبشكل أفضل».
تشير إلى أن المزادات الفنية أدركت أهمية ذلك و«نجحت في إقناع المقتنين وبالتالي أصبحت هناك نسبة 10 - 15 في المائة من المقتنين الذين اتجهوا للشراء على الإنترنت».
ولكنها تضيف: «بشكل واقعي لا أعتقد أن تزيد النسبة مثلاً لـ80 في المائة فهناك حد طبيعي لما يريد أي شخص شراءه أونلاين، ولكن في الوقت نفسه نستطيع إدراك أننا تواصلنا مع جماهير جديدة ومختلفة». ترى في التوجه الجديد ميزة إضافية وهي «التوصل لشرائح مختلفة وأجيال شابة لم نكن نستطيع التواصل معها من قبل. يمكننا تقديم أنفسنا بشكل أفضل على الساحة الافتراضية وهو ما أعتقد أنه أمر سيستمر».
ترى ديالا الأمر من جهتيه بواقعية شديدة، فمن ناحية تدرك أن العديد أصابهم الإرهاق من عقد اللقاءات على «زووم» وغيره من البرامج وأن هناك حاجة ماسة للعودة لعالم طبيعي يمكن زيارة المعارض الفنية فيه والاستمتاع بها بشكل تقليدي، ومن ناحية أخرى، ترى الفائدة التي توفرها المنصات الافتراضية «يمكن للإنترنت أن تكون حلاً مثالياً لاختصار الوقت فيمكن للمهتم مطالعة ما يريده في وقت يتحكم به ويكون غير مشتت بسبب عوامل أخرى، التجربة تصبح أكثر حميمية».
تشير إلى أن الأمر «ليس مرحلة مؤقتة»، بل ترسم صورة للمستقبل، تقول: «حتى بعد انتهاء المعرض، ما يجب علينا إدراكه هو أننا دائماً سيكون لدينا معرض فعلي على أرض الواقع ولكن هناك أشخاص لن يستطيعون الحضور للمعرض ونستطيع التواصل معهم بشكل أفضل افتراضياً، أعتقد أن الأعداد التي سنتواصل معها على المستوى العالمي ستكون أكبر بكثير، فيجب الوضع في الحسبان أن روزنامة العالم الفني مزدحمة جداً بالفعاليات الموزعة بين بلدان العالم والعالم الافتراضي يقدم لنا الحلول».
ورغم ذلك لا ترى أن العروض في أرض الواقع ستتأثر «لا شيء يمكنه حل محله، لا يمكن استبدال متعة التجول في معرض فني أو متحف ورؤية الأعمال الفنية وجهاً لوجه، تلك متعة خاصة وفريدة، العالم الافتراضي (متباعد اجتماعياً) أكثر مما نحتاج (تضحك)»

فعاليات فن أبوظبي 12

ننتقل للحديث عن أهم فعاليات الدورة القادمة وتختار الحديث أولاً عن برنامج «آفاق: الفنانين الناشئين» وتقول: «كلفنا ثلاثة فنانين شباب من الإمارات بمشروعات فنية وقمنا بتعيين منسقة فنية ضيفة من خارج الإمارات وهي مايا الخليل لتعمل معهم. مايا لديها تجارب في العمل مع فنانين شباب والإشراف على معارضهم من خلال عملها مع (أثر غاليري) بجدة فهي لها خبرة كبيرة في هذا المجال». تشير إلى أن عروض الفنانين الثلاثة ستكون على الأرض في جزيرة السعديات في مقر «فن أبوظبي»، حيث سيتمكن من يريد من أفراد الجمهور الحضور ورؤية الأعمال والتي سيكون أحدها في طور التنفيذ أمامهم.
القيّمة مايا الخليل اختارت تكليف كل من هند مزينة وعفراء الظاهري وعفراء السويدي لعرض أعمالهن الفنية في البرنامج الذي سيستكشف خلال نسخته هذا العام موضوع الذاكرة والهوية. تستعرض أعمال الفنانين الثلاثة وتبدأ بعمل الفنانة هند مزينة والذي يعتمد على مواد أرشيفية متعددة الوسائط، مثل الصور الفوتوغرافية والأفلام الأرشيفية، تحقيقاً لهدفها المنشود والمتمثّل في التعبير عن عناصر الذاكرة الجماعية وقضية الذكورة والتراث ودولة الإمارات. أما الفنانة عفراء الظاهري، وانطلاقاً نحو استكشاف تكوين الهوية، فتقوم ببعثرة جدائل الشعر مستخدمة شعرها المتساقط الذي تحرص على جمعه بعد سقوطه. وفي إطار محاولاتها لاستكشاف الهوية الذاتية. وستعمل الفنانة عفراء السويدي على إعادة تشكيل الذكريات البصرية المشتتة، بهدف تجسيد التجارب الصادمة بنفس طريقة التصميمات المعمارية المحلية. وستقدم عفراء السويدي أعمالها الفنية من خلال سلسلة من أعمال الكولاج، حيث سيتم تجسيد الزمن في حالة انفلاتية مع دفعه بعيداً إلى مكان آخر.
من الفعاليات الأخرى هناك برنامج عام لفنون الأداء بعنوان «على المنصة» تحت إشراف روز ليجون وستقام في أماكن مختلفة من العالم ويتم بثها عبر الإنترنت. يستكشف البرنامج كيف يمكن أن تدخل العروض الأدائية في مقتنيات المتاحف أو الأفراد، هل يمكن بيعها؟ تنظر إلى ما يمكن للمتاحف اقتناؤه، وكيف يمكن دعم هؤلاء الفنانين. عبر اختيار أربعة فناني، يقومون بتقديم فقراه من أماكن مختلفة في العالم وسيتم تصويرهم بتقنية 360 وسيتلقى الجمهور نظارات خاصة لرؤية العروض.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)