العلا السعودية تعيد التنوع البيولوجي إلى محمية شرعان الطبيعية

إطلاق المرحلة الثانية بأربعة أنواع من الحيوانات الفطرية

تتميز محمية شرعان بخصائصها البيئية والجيولوجية (واس)
تتميز محمية شرعان بخصائصها البيئية والجيولوجية (واس)
TT

العلا السعودية تعيد التنوع البيولوجي إلى محمية شرعان الطبيعية

تتميز محمية شرعان بخصائصها البيئية والجيولوجية (واس)
تتميز محمية شرعان بخصائصها البيئية والجيولوجية (واس)

في تاريخ العلا الطويل، التي تعاقبت عليها حضارات وممالك قديمة، تبرز نقوش ومنحوتات موجودة على جنبات الصخور والجبال، والمواقع الأثرية العديدة، حيث كانت ترمز إلى دلالات حينها.
ورغم أنّ العديد من هذه الحيوانات تواجه تهديدات عديدة بتناقص أعدادها، فإن الحكومة السعودية وعبر الهيئة الملكية لمحافظة العلا تسعى للمحافظة على هذه الحيوانات وإعادة توطينها، وهو ما عملت عليه منذ بداية انطلاقها على مراحل مختلفة شملت أنواعاً عدة من الحيوانات، ومن ضمنها إعادة توطين النمر العربي.
وأطلقت «هيئة العلا»، المرحلة الثانية من خطتها لإعادة توطين أنواع محلية من الحيوانات الفطرية التي تواجه تهديدات عديدة وتتناقص أعدادها في مواطنها الطبيعية، حيث تضمنت المرحلة الثانية إطلاق 25 وعلاً نوبياً و20 غزالاً جبلياً، و50 مـن ظـباء الريم، و10 من المها العربي في محمية شرعان الطبيعية، وهي محمية طبيعية تزيد مساحتها على 1500 كيلومتر مربع، صممت لحماية الموائل الطبيعية في العلا، وصون ما تحويها من تنوع بيولوجي.
وتأتي هذه المبادرة ضمن رؤية الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي نائب رئـيس مجلس الـوزراء رئيس مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافـظة العلا، للمحافـظة، التي افتتح من خلالها المرحلة الأولى فـي العام الماضي بإطلاق مجموعة مـن الكائنات الفطرية المهدّدة بـالانـقراض، وتهدف هذه المبادرة إلى إعادة تـوطـين الأنواع المهدّدة في مناطقها الطبيعية فـي محمية شرعان، حـيث شكلت المبادرة معياراً جديداً في المنطقة لإعـادة التـوازن بـين الـنظم البيئية.
وأطـلقت الـمبادرة بـالتعاون مـع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، ومنظمة «بانثيرا»، وهي منظمة عالمية معنية بحـمايـة الـقطط الـكبيرة، كـما ستشهد الـمرحـلة الـثانـية مـن الـمبادرة إطـلاق هذا الـجيل الجـديـد مـن الأنـواع الـفطريـة فـي محـمية شـرعـان الـطبيعية، وذلك للعمل على استعادة النظام البيئي في المنطقة والحفاظ على الأنواع المهددة.
مـن جهته، أشار الدكتور أحمد المالكي، مدير عام إدارة المحميات الطبيعية، إلى تهيئة الموقع بعناية لاستضافة هذه الأنواع المهدّدة بالانقراض، «إذ جرى تـأمـين الـماء والـطعام مـؤقـتاً لـلحيوانـات التي سـيجري إطلاقها، حـيث سيتابع ويرصد فـريـق مـن الجوالين، بمسانـدة من الـقوات الخاصة للأمن البيئي، الحيوانات الفطرية طـوال مدة البرنامج لضمان سلامة الحيوانات وتأقلمها مع بيئتها الجديدة».
وتـشكل محمية شرعان المحمية الأولى من ضمن خمس محميات تشـرف عليها «هيئة العلا»، بغرض حماية الحياة الـفطرية في المحافـظة، وقـد افتتحت «شرعان» من قبل الهيئة كمحمية طبيعية نـظراً لخصائصها البيئية والجيولوجية، حيث خُصّصت منطقة وادي شرعان كمحمية طبيعية للحفاظ على الجمال الطبيعي للبيئات الطبيعية في العلا وإعادة التنوع البيولوجي الغني للحياة النباتية والحياة البرية.
وقال المالكي: «نهدف في محمية شرعان لسلامـة النظام البيئي وازدهار الموائل الطبيعية في المنطقة، الأمر الذي سيعمل بدوره على تعزيز المحافظة على الحياة الفطرية».
ويـمثل هذا المشـروع جـزءاً مـن جهود التنمية المستدامة التي تقوم عليها الهيئة لـلتعريف بالعلا كوجهة عالمية للتراث والـثقافة والسياحة الـبيئية، كما تسترشد الخـطة طـويلة الأمـد بـمبادئ الاستدامة الـ12 للهيئة الملكية لمحافظة العلا وتهدف إلـى إعـادة تـوطـين الـنمر الـعربـي بـصفته أكـبر الـمفترسـات فـي الـمنطقة وغـيره من الحيوانات الأصيلة في العلا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)