«العلا» تستكشف حلقات مفقودة من تاريخها البشري

في أحد أكبر مشروعات التنقيب الأثري في العالم

عمليات الحفر والتنقيب كشفت عن جوانب وعناصر جديدة من المملكتين الدادانية واللحيانية (الشرق الأوسط)
عمليات الحفر والتنقيب كشفت عن جوانب وعناصر جديدة من المملكتين الدادانية واللحيانية (الشرق الأوسط)
TT

«العلا» تستكشف حلقات مفقودة من تاريخها البشري

عمليات الحفر والتنقيب كشفت عن جوانب وعناصر جديدة من المملكتين الدادانية واللحيانية (الشرق الأوسط)
عمليات الحفر والتنقيب كشفت عن جوانب وعناصر جديدة من المملكتين الدادانية واللحيانية (الشرق الأوسط)

تمتلئ مدينة العلا (شمال غربي السعودية) بكثير من الكنوز التاريخية والآثار؛ حيث مرت على هذه المنطقة ممالك في عصور مختلفة، شكلت هوية العلا، ورغم ذلك لم يكتشف منها إلا القليل فقط، لكن الهيئة الملكية تسعى لاستكشاف مزيد من الآثار عبر فرق متخصصة محلية ودولية متعددة تعمل تحت سقفها.
اليوم وبعد الإغلاق الذي فرضته جائحة «كوفيد 19»، يبدأ خبراء الآثار العمل على استكشاف أسرار محافظة العلا، التي قامت في العصور القديمة؛ حيث تعد إحدى المناطق التي لم تحظَ بدراسة مفصّلة تفيها حقها، الأمر الذي استدعى إطلاق مشروع ضخم، يعد من أكبر مشروعات التنقيب الأثري في العالم تزامناً مع اقتراب حلول فصل الشتاء والاستعداد لاستقبال الزوار مجدداً؛ حيث استأنف الخبراء أعمال التنقيب الأثري في المحافظة، ما مكّنهم من التوصّل إلى بعض الحلقات المفقودة في فهم التاريخ البشري للمنطقة، ومن المخطط إعلان عن التطورات الإضافية تباعاً بهذا الشأن.
وعلى الرغم من ارتباط اسم العلا بموقع الحِجر، الذي يعد أول موقع سعودي يدرج ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، فإنها تحتوي على أكثر من 27 ألف موقع أثري آخر، ومن المتوقع اكتشاف وتوثيق مواقع أخرى خلال الأشهر المقبلة.
وبفضل جهود فرق الخبراء من شركاء الهيئة كالجامعات السعودية والدولية ومعاهد البحوث والمتاحف، فضلاً عن فرق الوكالة الفرنسية لتطوير محافظة العلا (AFALULA)، بات بالإمكان حل ألغاز بعض الحلقات المفقودة في تاريخ المحافظة ومعرفة مزيد عن الأجيال التي عاشت فيها. وباقتراب عام 2021، سيتم الكشف عن مزيد من كنوز العلا التراثية من خلال عدد من الأفلام الوثائقية والتلفزيونية، بالإضافة إلى إعادة افتتاح المنطقة ليتمكن زوارها من الاستمتاع بأحد أهم المواقع الأثرية في المنطقة، والتعرف على طبيعة الإنسان الذي سكنها لأكثر من 200 ألف عام.
- تاريخ الإنسان المبكر
أثبتت الاكتشافات الأثرية التي توصلت إليها فرق «هيئة العلا» أن شعوب العلا القديمة كانت تصطاد وترعى في منطقة العلا؛ حيث امتازت الأرض آنذاك بمزيد من الخضرة والخصوبة، كما أن الاكتشافات التي تم التوصل إليها في بعض المناطق الغامضة التي لم يسبق استكشافها أكدت أن ثقافة الشعوب التي سكنت المنطقة كانت أكثر تعقيداً مما سبق اعتقاده.
وباستخدام صور الأقمار الصناعية والتصوير الجوي والمسوحات الأرضية وعمليات التنقيب والحفر بات بالإمكان تقدير عدد الهياكل الحجرية التي بُنيت في أواخر حقبة ما قبل التاريخ (5200 - 1200 ق.م) عبر مختلف المواقع في العلا؛ حيث تؤكد أحجام وأعداد تلك الهياكل، إضافة إلى أماكن انتشارها، امتلاك القبائل التي بنتها درجة من التعاون المجتمعي الذي لم يُسجل من قبل، كما تشير الأدلة إلى أنه قد تم استخدام بعض هذه المواقع في عدد من الطقوس المختلفة، الأمر الذي قد يغير التصور لطبيعة حياة هذه الشعوب القديمة كلياً.
ومن الهياكل المنتشرة في محافظة العلا ما يعرف بالمستطيلات؛ حيث يعتقد أنها أقدم أنواع الهياكل في المنطقة ويبلغ طول بعضها مئات الأمتار. كما يطلق على نوع آخر من المذيلات الحجرية اسم القلائد وتتميز باحتوائها على مدفن رئيسي يرتبط بعدد من الهياكل المتصلة معاً، «ما يجعلها تبدو كالقلادة المعلقة».
وفي تعليق لها على أعمال التنقيب في العلا، قالت الدكتورة ريبيكا فوت، مديرة قطاع البحوث الأثرية والتراث الثقافي في الهيئة: «تعود هذه الأشكال والهياكل إلى عصور ما قبل التاريخ، وتساعدنا دراستها في الحصول على لمحة على تاريخ المنطقة قبل 7 آلاف عام، حتى عدة آلاف سنة بعد ذلك. لو عملت الهياكل الصخرية كعلامات حدودية بصورة أساسية أو ثانوية لمناطق الصيد أو الرعي على سبيل المثال، فقد يعني ذلك أن الشعوب آنذاك تمتّعت بتصوّر حول مفاهيم مثل الملكية أو التملّك، فنحن في صدد الشروع في رحلة خاصة عبر الزمن من خلال جمع عينات من هذه المواقع وتسجيلها لتحديد التسلسل الزمني لهذا التاريخ القديم، فمن خلال إجراء المسوحات المكثفة وعمليات التنقيب المستهدفة في المواقع الأكثر أهمية سنحصل على معلومات قيمة ومهمة للغاية حول وظيفتها أيضاً، إذ لم يسبق أن تم اتباع هذا النهج الشامل والمستهدف في العلا».
بعد نحو 4 آلاف عام من الفترة التي شُيّدت فيها المستطيلات، وقبل أكثر من 2000 عام من الآن، جاءت نهضة المملكتين الدادانية واللحيانية في العلا بين السنة 900 ق.م و100 ق.م تقريباً؛ حيث كانت العلا آنذاك على مفترق عدد من الطرق التجارية، فتم من خلالها نقل البخور من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى مصر وسوريا وبلاد ما بين النهرين.
وحول العلاقة التي ربطت بين المملكتين الدادانية واللحيانية، يقول الدكتور عبد الرحمن السحيباني أستاذ الآثار المشارك بجامعة الملك سعود والقائم بأعمال مدير المتاحف والمعارض في الهيئة: «ليست لدينا إجابة مؤكدة حتى الآن، لكن ربما كان ذلك نتيجة زلزال أو كارثة طبيعية دفعت اللحيانيين إلى الاندماج مع الشعوب الأخرى في مكان آخر، أو ربما حدث ذلك نتيجة تحوّل سياسي نشأ أو تفاقم بعد وصول الأنباط من الشمال، الأمر الذي يثير عدداً من التساؤلات الأخرى، فنحن نعلم أن بعض قبائل اللحيانيين عاشت تحت حكم الأنباط، إذ يمكن مشاهدة نقوش وتفاصيل من العمارة اللحيانية تتكرر في العمارة النبطية».
- العصر الإسلامي
كانت العلا بعد سقوط المملكة اللحيانية العاصمة الجنوبية للمملكة النبطية؛ حيث تدل النقوش، التي توصلوا من خلاها إلى اسم «الحِجر» إلى هجرة الأفراد والعائلات من البتراء إلى العلا، كما كان حاضرها ومستقبلها جزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي الجديد، واللافت في ذلك أن البلدة القديمة للعلا تضم قلعة باسم القائد موسى بن نصير، خلال القرن الثامن الميلادي.
يقول مايكل جونز، وهو مدير الحفاظ على التراث الثقافي في الهيئة، مع المجتمع المحلي والخبراء الدوليين في مجال الترميم والحفظ: «البلدة القديمة في العلا أشبه بما يسمى كبسولة زمنية، إذ يمكن للمرء فيها مشاهدة ومضات من التاريخ بمجرد السير في شوارعها؛ حيث بنيت بعض المباني فوق الأخرى، وتمت إعادة بناء نسيج البلدة وتجديده جيلاً بعد جيل، ولا يقتصر التاريخ في البلدة على الحقب القديمة، إذ تحتوي المدينة أدلة على أساليب حياة سكانها حتى مغادرتهم لها في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، كآلات الخياطة وصناديق الشاي والعملات المعدنية التي تعود لأيام تأسيس السعودية. والآن، ومع تسجيلنا للتاريخ الشفوي للمنطقة يمكننا إعادة النظر في الحلقات المفقودة بين العلا الحديثة وماضيها».
وتعد العلا مكاناً لالتقاء التاريخ والتراث، ويتم حفظها بالتشارك مع المجتمع المحلي وبالتعاون مع سكانها؛ حيث يتمثل الهدف الرئيسي للأعمال التراثية والتنموية التي تقوم بها الهيئة في تنمية المنطقة وترويجها «كمتحف حي» يمكّن الزوار من التعرف على الحضارات والثقافات المختلفة التي عاشت في المنطقة، واعتبرتها وطناً لها أو بوابة تمر منها، وتستعد الهيئة لإطلاق موقع إلكتروني للمتحف الحي ليكون بوابة تصل الحاضر بالماضي، فمن خلال رابط إلكتروني سيتمكن زوار العلا من مشاهدة هذه الحلقات المفقودة بأنفسهم حتى لو لم يتمكنوا من زيارتها شخصياً، كما سيكون موقع المتحف الحي وسيلة تتمكن من خلالها فرق الآثار وحفظ التراث في الهيئة من إطلاع الناس على النتائج أول فأول بعد اجتيازها مرحلة المراجعة الأكاديمية.


مقالات ذات صلة

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

يوميات الشرق المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج بجنوب مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

«اليونيسكو» تحذر إسرائيل من استهداف آثار لبنان

أثمرت الجهود اللبنانية والتعبئة الدولية في دفع منظمة اليونيسكو إلى تحذير إسرائيل من تهديد الآثار اللبنانية.

ميشال أبونجم (باريس)
يوميات الشرق هضبة الأهرامات في الجيزة (هيئة تنشيط السياحة المصرية)

غضب مصري متصاعد بسبب فيديو «التكسير» بهرم خوفو

نفي رسمي للمساس بأحجار الهرم الأثرية، عقب تداول مقطع فيديو ظهر خلاله أحد العمال يبدو كأنه يقوم بتكسير أجزاء من أحجار الهرم الأكبر «خوفو».

محمد عجم (القاهرة )

الذكاء الصناعي يهدد مهناً ويغير مستقبل التسويق

روبوتات ذكية تعزّز كفاءة الخدمات وجودتها في المسجد النبوي (واس)
روبوتات ذكية تعزّز كفاءة الخدمات وجودتها في المسجد النبوي (واس)
TT

الذكاء الصناعي يهدد مهناً ويغير مستقبل التسويق

روبوتات ذكية تعزّز كفاءة الخدمات وجودتها في المسجد النبوي (واس)
روبوتات ذكية تعزّز كفاءة الخدمات وجودتها في المسجد النبوي (واس)

في السنوات الأخيرة، أثّر الذكاء الصناعي على المجتمع البشري، وأتاح إمكانية أتمتة كثير من المهام الشاقة التي كانت ذات يوم مجالاً حصرياً للبشر، ومع كل ظهور لمهام وظيفية مبدعةً، تأتي أنظمة الذكاء الصناعي لتزيحها وتختصر بذلك المال والعمال.
وسيؤدي عصر الذكاء الصناعي إلى تغيير كبير في الطريقة التي نعمل بها والمهن التي نمارسها. وحسب الباحث في تقنية المعلومات، المهندس خالد أبو إبراهيم، فإنه من المتوقع أن تتأثر 5 مهن بشكل كبير في المستقبل القريب.

سارة أول روبوت سعودي يتحدث باللهجة العامية

ومن أكثر المهن، التي كانت وما زالت تخضع لأنظمة الذكاء الصناعي لتوفير الجهد والمال، مهن العمالة اليدوية. وحسب أبو إبراهيم، فإنه في الفترة المقبلة ستتمكن التقنيات الحديثة من تطوير آلات وروبوتات قادرة على تنفيذ مهام مثل البناء والتنظيف بدلاً من العمالة اليدوية.
ولفت أبو إبراهيم إلى أن مهنة المحاسبة والمالية ستتأثر أيضاً، فالمهن التي تتطلب الحسابات والتحليل المالي ستتمكن التقنيات الحديثة من تطوير برامج حاسوبية قادرة على إجراء التحليل المالي وإعداد التقارير المالية بدلاً من البشر، وكذلك في مجال القانون، فقد تتأثر المهن التي تتطلب العمل القانوني بشكل كبير في المستقبل.
إذ قد تتمكن التقنيات الحديثة من إجراء البحوث القانونية وتحليل الوثائق القانونية بشكل أكثر فاعلية من البشر.
ولم تنجُ مهنة الصحافة والإعلام من تأثير تطور الذكاء الصناعي. فحسب أبو إبراهيم، قد تتمكن التقنيات الحديثة من إنتاج الأخبار والمعلومات بشكل أكثر فاعلية وسرعة من البشر، كذلك التسويق والإعلان، الذي من المتوقع له أن يتأثر بشكل كبير في المستقبل. وقد تتمكن أيضاً من تحديد احتياجات المستهلكين ورغباتهم وتوجيه الإعلانات إليهم بشكل أكثر فاعلية من البشر.
وأوضح أبو إبراهيم أنه على الرغم من تأثر المهن بشكل كبير في العصر الحالي، فإنه قد يكون من الممكن تطوير مهارات جديدة وتكنولوجيات جديدة، تمكن البشر من العمل بشكل أكثر فاعلية وكفاءة في مهن أخرى.

الروبوت السعودية سارة

وفي الفترة الأخيرة، تغير عالم الإعلان مع ظهور التقنيات الجديدة، وبرز الإعلان الآلي بديلاً عملياً لنموذج تأييد المشاهير التقليدي الذي سيطر لفترة طويلة على المشهد الإعلاني. ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه مع تقدم تكنولوجيا الروبوتات، ما يلغي بشكل فعال الحاجة إلى مؤيدين من المشاهير.
وأتاحت تقنية الروبوتات للمعلنين إنشاء عروض واقعية لعلاماتهم التجارية ومنتجاتهم. ويمكن برمجة هذه الإعلانات الآلية باستخدام خوارزميات معقدة لاستهداف جماهير معينة، ما يتيح للمعلنين تقديم رسائل مخصصة للغاية إلى السوق المستهدفة.
علاوة على ذلك، تلغي تقنية الروبوتات الحاجة إلى موافقات المشاهير باهظة الثمن، وعندما تصبح الروبوتات أكثر واقعية وكفاءة، سيجري التخلص تدريجياً من الحاجة إلى مؤيدين من المشاهير، وقد يؤدي ذلك إلى حملات إعلانية أكثر كفاءة وفاعلية، ما يسمح للشركات بالاستثمار بشكل أكبر في الرسائل الإبداعية والمحتوى.
يقول أبو إبراهيم: «يقدم الذكاء الصناعي اليوم إعلانات مستهدفة وفعالة بشكل كبير، إذ يمكنه تحليل بيانات المستخدمين وتحديد احتياجاتهم ورغباتهم بشكل أفضل. وكلما ازداد تحليل الذكاء الصناعي للبيانات، كلما ازدادت دقة الإعلانات وفاعليتها».
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الصناعي تحليل سجلات المتصفحين على الإنترنت لتحديد الإعلانات المناسبة وعرضها لهم. ويمكن أن يعمل أيضاً على تحليل النصوص والصور والفيديوهات لتحديد الإعلانات المناسبة للمستخدمين.
ويمكن أن تكون شركات التسويق والإعلان وأصحاب العلامات التجارية هم أبطال الإعلانات التي يقدمها الذكاء الصناعي، بحيث يستخدمون تقنياته لتحليل البيانات والعثور على العملاء المناسبين وعرض الإعلانات المناسبة لهم. كما يمكن للشركات المتخصصة في تطوير البرمجيات والتقنيات المرتبطة به أن تلعب دوراً مهماً في تطوير الإعلانات التي يقدمها.