«كورونا» يفرض نفسه على «الموسيقى العربية»

لا أزياء رسمية ولا حفلات في الهواء الطلق

جانب من حفل الافتتاح في دار الأوبرا المصرية
جانب من حفل الافتتاح في دار الأوبرا المصرية
TT

«كورونا» يفرض نفسه على «الموسيقى العربية»

جانب من حفل الافتتاح في دار الأوبرا المصرية
جانب من حفل الافتتاح في دار الأوبرا المصرية

فرض وباء «كورونا» نفسه على الدورة التاسعة والعشرين من مهرجان الموسيقى العربية، الذي انطلقت فعالياته مساء أول من أمس، في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، وتسبب في حدوث تغييرات جذرية على مستوى التنظيم والحضور.
وتخلى المهرجان عن نظامه الصارم الذي ظل يمارسه طوال الدورات الماضية منذ انطلاقه في عام 1992 عن شرط ارتداء الملابس الرسمية، لأول مرة، بعدما كان يَلزم به الحاضرين من الرجال والسيدات، كما خرجت الحفلات الغنائية الكبرى التي تستضيفها دار الأوبرا في القاهرة من المسرح الكبير الذي أقيمت على خشبته معظم حفلات الدورات الماضية واستضاف كبار نجوم العالم العربي، إلى مسرح النافورة الجديد المكشوف لأول مرة، ضمن إجراءات مجابهة عدوى «كورونا».
ووضعت إدارة المهرجان 7 شروط من أجل حضور الحفلات الغنائية والاستمتاع بها، وهي ارتداء الكمامات، والدخول من أبواب التعقيم، والالتزام بإجراءات قياس درجة الحرارة، وضرورة الحفاظ على التباعد الاجتماعي، والجلوس على المقعد المخصص حسب التذكرة، ومنع دخول الأطفال أقل من 7 سنوات، وعدم استخدام الهاتف في التصوير. كما لبت إدارة المهرجان تعليمات وزيرة الثقافة المصرية الدكتورة إيناس عبد الدايم، بتكريم رموز الموسيقى المصرية والعربية الذين ما زالوا على قيد الحياة بدلاً من الإكثار من تكريم الراحلين، فكُرّم كلٌ من الفنانة منى عبد الغني، والمطرب علاء عبد الخالق، والمطربة حنان، والمؤلف والموزع الموسيقي وعازف الوتريات يحيى مهدي، وعازف الكمان الدكتور محمد القطب، وعازف الكمان الدكتور محمود عثمان، وعازف الناي الدكتور محمد عبد النبي، والباحثة الدكتورة ماجدة عبد السميع، والمطرب ماهر العطار وتسلمه عنه نجله أحمد، وفنان الخط العربي مصطفى عمري، والشاعر بخيت بيومي الذي ألقى قصيدة مميزة بمناسبة تكريمه، ومن الراحلين تم تكريم اسم الموسيقار عمار الشريعي فقط.
وأطلقت إدارة المهرجان أسماء محمد سلطان وجمال سلامة وحلمي بكر على الدورة الحالية.
وقال الدكتور مجدي صابر، رئيس دار الأوبرا المصرية لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «الدورة الـ29 تعد استثنائية في تاريخ المهرجان، بسبب جائحة (كورونا) التي تسببت في تعليق النشاط الغنائي والموسيقي في مصر والعالم العربي لعدة أشهر»، مضيفاً: «صارعنا الوقت والزمن والصعوبات من أجل خروج المهرجان للنور، فالهدف من إقامة المهرجان كان عبارة عن تقديم رسالة قوية للعالم بأنّ مصر قادرة على تحدي أي صعوبات ومشكلات حتى لو كانت جائحة (كورونا)، وساعدنا على ذلك رغبة نجوم الغناء المصري والعربي في المشاركة وعدم التخوف من الفيروس»، مشيراً إلى أنّ «مسرح النافورة المكشوف كان بمثابة طوق النجاة للمهرجان لأنه يتحمل عدداً كبيراً من المقاعد».
وافتتح المهرجان فعالياته بحفل موسيقي شارك فيه عدد من مطربي دار الأوبرا المصرية، وعن ذلك تقول جيهان مرسي رئيس مهرجان الموسيقى العربية، لـ«الشرق الأوسط»، «فضلنا في هذا العام أن يكون افتتاح المهرجان على يد أبنائه من المطربين الشباب حتى نلقي عليهم الضوء، وأشركنا معهم اسمين من الكبار وأصحاب الخبرة الكبيرة على غرار الفنانة نادية مصطفى والفنان أحمد إبراهيم».
وشهد حفل الافتتاح تحت قيادة المايسترو سليم سحاب، تقديم عمل غنائي جديد بعنوان «تحيا الموسيقى» كلمات الشاعر هاني عبد الكريم، وألحان الموسيقار زياد الطويل، وتوزيع الموسيقار يحيى الموجي، وتخللته لقطات مسجلة لكبار الملحنين.
واستكمل الحفل بتقديم عدد من الأغنيات التراثية لكبار الموسيقيين الذين تم تكريمهم خلال حفل الافتتاح (محمد سلطان وجمال سلامة وحلمي بكر) بأصوات عدد من نجوم الأوبرا المصرية، على رأسهم الفنانة الكبيرة نادية مصطفى وسوما وإيمان عبد الغني وأحمد عفت وأحمد إبراهيم وآخرون.

وتضم الدورة الجارية، 29 حفلاً غنائياً وموسيقياً بمشاركة 93 فناناً من 5 دول عربية، هي مصر، ولبنان، والأردن، والعراق، وتونس، وتقام الحفلات في مسارح النافورة والمسرح الصغير والجمهورية ومعهد الموسيقى بالعاصمة المصرية القاهرة، بجانب مسرحي الأوبرا بالإسكندرية والبحيرة (شمال القاهرة).
وتشهد الدورة الـ29 من المهرجان غياب بعض الفنانين الذين اعتادوا إحياء ليالي المهرجان العام الماضي، على غرار الفنانة أنغام والفنانة السورية أصالة نصري، والفنان اللبناني مروان خوري، والفنان المغربي فؤاد زبادي، والسوري صفوان بهلوان، بالإضافة إلى تقليص عدد ليالي المهرجان لتكون 10 ليالٍ بدلاً من 12 أو 15 ليلة مثلما حدث خلال الدورات السابقة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)