آخر ما كان يريده نيكول باشينيان، رئيس وزراء أرمينيا، حرباً جديدة في جنوب القوقاز تضعه أمام خيارات صعبة ومعقدة، وتعرقل مسيرة إنجازات مهمة تم تسجيلها خلال سنتين أمضاهما في السلطة، ونجح خلالهما في إطلاق عمليات إصلاحات شاملة في الجمهورية السوفياتية السابقة. ولكن، يبدو الامتحان عسيرا، ليس فقط على المستوى الداخلي، فالصحافي الشاب الذي واظب التمرد على الظروف المحيطة به، لم يكن قد تمرس في عالم السياسة العليا، عندما برز نجمه بقوة قبل سنتين، خلال احتجاجات واسعة ضد الفساد، وغدا رمزاً شعبياً للتغيير، ما قاده إلى مقعد رئاسة الوزراء وهو الذي كان حلمه أن يغدو نائباً في البرلمان.
لقد وجد باشينيان نفسه في منصبه الجديد، مضطراً للتراجع عن الكثير من الأفكار «الثورية» وتخفيف حدة اندفاعه، فسعى إلى كسب ود روسيا التي نظرت إليه بكثير من الريبة. وعمد في الوقت ذاته إلى انتهاج سياسة الانفتاح على الغرب وتنويع الخيارات، آملا في دعم واسع لمشاريعه الإصلاحية. وكاد أن يثبت مسار سياسته وينجح في إقامة هذا التوازن الصعب، لولا الحرب التي باغتته، ووضعته أمام خيارات، أحلاها مر.
لم يكن نيكول باشينيان، الذي ولد في العام 1975 في مدينة إجيفان القريبة من الحدود مع جمهورية أذربيجان، قد أكمل تعليمه المدرسي عندما انخرط في تنفيذ إضرابات مدرسية ومسيرات ومظاهرات، بعد اندلاع المواجهات في إقليم ناغورني قره باغ (قره باغ العليا) في العام 1988. ولقد طبعت تلك الفترة مراحل تطوره لاحقا، فظلت صفة التمرد والانخراط في النشاطات الاحتجاجية تلازمه لسنوات طويلة.
ثم عام 1991. بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق باشينيان بقسم الصحافة في الكلية اللغوية بجامعة يريفان الحكومية في مدينة يريفان عاصمة أرمينيا. إلا أنه ورغم أن درجاته الدراسية كانت ممتازة... طُرد من الجامعة بعد أربع سنوات بسبب انتقاده آليات عمل إدارة الجامعة وانخراطه بتنظيم فعاليات وصفت بأنها تخريبية. وبالتوازي مع دراسته عمل في الأنشطة الصحافية. وبين العامين 1993 و1997 تنقل بين عدد من الصحف المهمة في يريفان قبل أن يؤسس في العام 1998 صحيفة «أوراجير»، التي غدا رئيسا لتحريرها. وفي العام ذاته، ولج إلى عالم السياسة ضمن فريق لتنسيق حملة المرشح الرئاسي آنذاك، أشوت بليان.
كان عنوان الحملة يومذاك مكافحة الفساد، وبدلا من النجاح فيها والتمهيد للانخراط في السياسة، وجد باشينيان نفسه في العام اللاحق في السجن. وفي العام 1999، بدأت محاكمة باشينيان، الذي اتُهمت جريدته بنشر مواد تشهير ضد شخصيات برلمانية وأكاديمية اتهمها بالفساد. وكانت النتيجة تغريم صحيفة «أوراجير» بـ25 ألف دولار أميركي ثم إغلاقها لاحقا. كذلك، وجدت المحكمة نيكول باشينيان مذنباً بثلاث اتهامات وجهت إليه، هي الإهمال وإهانة مسؤول حكومي أثناء أداء واجباته الرسمية ورفض الامتثال لحكم المحكمة الابتدائية. وهكذا أمضى عامه الأول في السجن الذي سيعود إليه أكثر من مرة.
الصحافي الناشط الغاضب
بعد خروج باشينيان من السجن في العام التالي، واصل الصحافي الغاضب نشاطه، ليشغل منصب رئيس تحرير صحيفة واسعة الانتشار في يريفان، وظل في هذا المنصب حتى العام 2008. لكن تلك الفترة أيضاً لم تخلُ من مشاكل، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2004. انفجرت سيارة باشينيان في وسط يريفان وكانت متوقفة على مقربة من المبنى الذي يقع فيه مكتب تحرير صحيفة «أرمينيان تايم».
لم يكن هناك أحد في السيارة في تلك اللحظة. واعتبر الصحافي الحادث محاولة لاغتياله، اتهم رجل الأعمال جاجيك تساروكيان بتدبير محاولة قتله. وفقًا لباشينيان، كان تساروكيان غير راضٍ عن سلسلة تحقيقات صحافية أظهرت أنه قام بتخريب منتجع وقطع الأشجار فيه من أجل بناء فيلا. ولقد نفى تساروكيان تورطه في الحادث، ولم تظهر نتائج التحقيقات في «محاولة الاغتيال» أبداً.
سار الصحافي المثير للجدل أولى خطواته في عالم السياسة خلال الانتخابات البرلمانية لعام 2007. وبالفعل، احتل باشينيان المرتبة الأولى على قائمة كتلة «الإقالة» التي انحصر برنامجها الانتخابي في الدعوة لإطاحة الرئيس روبرت كوتشاريان ورئيس الوزراء سيرج سركسيان. غير أن هذه الكتلة احتلت المركز الثاني عشر في ترتيب الكتل المتنافسة... ولم تحصد، بالتالي، سوى أكثر بقليل من واحد في المائة من أصوات الناخبين. ودفعت النتائج إلى تنظيم احتجاجات جديدة تطالب بإعادة العملية الانتخابية.
وفي العام التالي، واصل باشينيان نشاطه المعارض عضواً في مقر الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي ليفون تير بتروسيان. ومع خسارة المرشح وبعد تجدد أعمال الشغب في ربيع العام، بات اسم باشينيان مدرجا على قائمة المطلوبين في يريفان. ولذا اضطر إلى الاختفاء عن الأنظار لمدة سنة كاملة، قام بعدها بتسليم نفسه إلى السلطات. وفي بداية العام 2010. حُكم عليه بالسجن 7 سنوات بتهمة تنظيم أعمال شغب جماعية. وفي وقت لاحق، خفضت المحكمة المدة إلى النصف، وفي مايو (أيار) 2011 أطلق سراحه بموجب عفو بمناسبة الذكرى العشرين لاستقلال أرمينيا.
نائب في البرلمان الأرميني
لم يكد باشينيان يغادر سجنه حتى استأنف نشاطه السياسي. وفي العام 2012 حقق أول اختراق جدي، عبر انتخابه نائبا في الجمعية الوطنية (البرلمان) لأرمينيا بفضل نظام الانتخاب النسبي. وهكذا، غدا واحداً من أبرز أعضاء كتلة «المؤتمر الوطني الأرمني» النيابية، وعضواً في اللجان البرلمانية الدائمة للعلاقات الخارجية وقضايا الإدارة الإقليمية والحكم الذاتي المحلي.
أيضاً، ترأس باشينيان فترة لجنة الأخلاقيات المؤقتة. إلا أن طبيعته المتمردة قادت إلى خلافات جدية داخل الكتلة التي سعت إلى إعلان نفسها حزباً سياسيا يحمل الاسم نفسه «المؤتمر الوطني الأرمني». إذ رفض باشينيان الانضمام إلى التنظيم الجديد بسبب خلافات مع قيادة الحزب، ليتضح فيما بعد أن سبب الخلاف الأساسي حقيقة أن الحزب الجديد قرر عدم تسمية مرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. وهو أمر اعترض عليه باشينيان بقوة.
ولكن رغم مغادرته الحزب بقي نائباً في البرلمان، حتى شارك عام 2015 في تأسيس حزب «العقد المدني»، الذي خاض بعد سنتين انتخابات نيابية ضمن إطار تحالف واسع حمل باشينيان مرة أخرى إلى عضوية البرلمان. لكن السياسي والصحافي الطموح لم يكتف بذلك، بل خاض في سبتمبر (أيلول) من عام 2017. المنافسة على منصب عمدة يريفان واحتل المركز الثاني، بنحو 21 في المائة من الأصوات.
نقطة تحول مهمة
أما نقطة التحول الأساسية في حياة باشينيان السياسية، فجاءت يوم 13 أبريل (نيسان) 2018. عندما نظم وقاد احتجاجات واسعة ضد انتخاب سيرج سركسيان. وفي 22 أبريل استقبل سركسيان وفداً من المحتجين يرأسه باشينيان، في محاولة لامتصاص نقمة الشارع. بيد أن المحادثات فشلت، وغادر الرئيس المنتخب حديثًا الاجتماع بعدما قال زعيم المعارضة إنه مستعد لـ«مناقشة استقالة سركسيان فقط». وفي اليوم نفسه أثناء مسيرة في وسط يريفان، اعتقلت الشرطة نيكول باشينيان.
ولكن سجنه هذه المرة لم يدم طويلا، إذ أثار الإعلان عن احتجازه غضباً عارماً في الشارع الأرميني الذي انضم بغالبية واسعة لمطالب مواجهة الفساد وإطاحة النخبة السياسية. وفي اليوم التالي، الذي كان حاسما، اضطرت الأجهزة الأمنية التي حاصر المتظاهرون مقراتها إلى إطلاق سراح باشينيان. وفي اليوم ذاته، استقال سركسيان، معلنا أنه اتخذ القرار بهدف حقن الدماء ومنع انزلاق الموقف نحو تصعيد أوسع. وهنا يقول مقربون منه إنه قال «كان نيكول باشينيان على حق. لقد ارتكبت خطأ. للوضع الحالي عدة حلول، لكنني لن أذهب إلى أي منها. لن أسمح بانفجار حقل الألغام. سأترك منصب رئيس البلاد».
في تلك اللحظة، تحول باشينيان إلى الزعيم الأوحد للمعارضة. وأثارت التطورات قلق القوى الإقليمية بقوة، وخصوصا روسيا التي ربطتها بسركسيان علاقات وثيقة. إذ كانت موسكو تنظر بكثير من الشك، إلى السياسي الشاب الذي برز فجأة من خلال ثورة شعبية، ولا سيما، أن بين أنصاره من رفع شعارات تنادي بإدارة الظهر لروسيا وتقويض التحالفات معها.
لم يحتج باشينيان إلى أكثر من ثلاثة أيام من النقاشات العاصفة في البرلمان لإقرار ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء. غير أنه واجه صعوبات كثيرة فيما بعد. وفي الفترة بين مايو (أيار) وأكتوبر (تشرين الأول) كان عليه خوض معارك كبرى مع البرلمان الذي يضم في غالبيته نواباً يمثلون النخب التي ثار ضدها. وهو ما دفعه إلى تقديم استقالته من رئاسة الوزراء، بهدف حل الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات نيابية مبكرة.
الواقع، أن باشينيان استفاد من نص دستوري يقضي بحل مجلس النواب إذا ما فشل في تعيين رئيس وزراء جديد في غضون أسبوعين بعد تقديم الاستقالة. وبالفعل، هذا ما حصل، إذ قد فشل البرلمان خلال جلستين عاصفتين في ترشيح بديل عنه، ما دفع رئيس أرمينيا أرمين سركسيان لتوقيع مرسوم بشأن حل البرلمان وتحديد موعد انتخابات برلمانية مبكرة في أرمينيا. وفي هذه الانتخابات التي أجريت قبل نهاية العام، اكتسحت كتلة باشينيان البرلمان بحصولها على أكثر من 70 في المائة من الأصوات، ولم يلبث أن عاد رئيس الوزراء ظافرا إلى موقعه في الشهر التالي.
برامج إصلاح داخلية واسعة
كان الفساد أحد الأسباب الرئيسية للثورة في أرمينيا. وعد باشينيان بمحاربة الفساد بكل الوسائل. رغم أنه تمكن من كسر العديد من الاحتكارات التي كانت قائمة لمدة 30 عامًا، إلا أن معظم أصحاب الملايين وممثلي النخب الأوليغارشية مالت للتعاون مع السلطات لحماية مصالحها. وعموما، خلال عامها الأول في السلطة، جعلت حكومة باشينيان الرعاية الصحية مجانية للمواطنين دون سن الـ18. كذلك أطلق برنامجا لعلاج السرطان بالكامل على نفقة الدولة ما أكسبه تعاطفا واسعا في الشارع.
لقد كان الهدف الأول لباشينيان تحسين سمعة بلاده على صعيدي الفساد ومؤشر الديمقراطية. وفي السنة الأولى من حكمه، صنفت مجلة «الإيكونيميست» البريطانية أرمينيا بكونها «بلد العام» لإنجازاتها في مجال بناء الديمقراطية. واتضح أن يريفان حققت أكبر تحسن في أدائها على هذا الصعيد على المستوى الإقليمي. وفي دراسة مماثلة لعام 2019. صعدت أرمينيا 17 نقطة، لتتصدر مؤشرات الإصلاح الديمقراطي في المنطقة وفي الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
وعلى صعيد محاربة الفساد حقق باشينيان نجاحات مماثلة، وفي المنشور السنوي لمؤشر مدركات الفساد لعام 2019، حققت أرمينيا أكبر قفزة بين بلدان رابطة الدول المستقلة والمنطقة لتنتقل من المركز 105 إلى المركز 77. وأيضًا، بعد عام من حكم باشينيان، في تصنيف منظمة حقوق الإنسان الذي يتولى «تصنيف البلدان حسب مستوى حرية الوصول إلى الإنترنت» احتلت أرمينيا المركز الأول في «رابطة الدول المستقلة» ودخلت البلدان العشر الأولى التي تتمتع بأكبر قدر من حرية الإنترنت. وأشار التقرير إلى أن «رئيس الوزراء الإصلاحي نيكول باشينيان بدأ في الحد من القيود المفروضة على المحتوى وانتهاكات حقوق المستخدم».