نظرة فوتوغرافية جديدة لجماليات المعمار المصري

معرض فني لفادي قدسي يضم 41 صورة تبرز مكانة الضوء

فوتوغرافيا تسرد حكايات معمارية تحتضنها المدن
فوتوغرافيا تسرد حكايات معمارية تحتضنها المدن
TT

نظرة فوتوغرافية جديدة لجماليات المعمار المصري

فوتوغرافيا تسرد حكايات معمارية تحتضنها المدن
فوتوغرافيا تسرد حكايات معمارية تحتضنها المدن

تزخر كتب العمارة بمعلومات ومصطلحات حول نظرياتها وطرزها وفلسفتها قديماً وحديثاً، لكن ربما لا شيء يجذب الجمهور العادي للتواصل مع عمارة مدنهم بقدر الفوتوغرافيا التي تسرد الحكايات المعمارية التي تحتضنها منذ تشكل ملامحها وتراكيبها العمرانية، بل قد تجسد شواخص بصرية شاهدة على تطور العمارة أيضاً؛ وذلك ما يلمسه المتلقي عند زيارة معرض الفنان المصري فادي قدسي المقام حالياً بغاليري «نوت» بالزمالك تحت عنوان «المعمار والضوء».
يحتفي فادي قدسي بالتصوير المعماري الأبيض والأسود والتجريدي، وتتجاوز أعماله الرصد المرئي لتعكس العناصر الجمالية والفكرية والثقافية للمعمار بحثاً عن المعنى والروح الكامنة في البناء، وتصاميمه، فيقدم فوتوغرافيا ترتبط بالبيئة والهوية، يقول لـ«الشرق الأوسط»، «تستطيع الفوتوغرافيا أن تتوغل في ذاكرة الشعوب، وتحتضن عناصرها كافة، كما تمثل مرآة تعكس كافة مناحي الحياة والبيئة المحيطة بالإنسان، ومن هنا هي وثيقة مهمة للتحقيق الجمالي في المعمار والبحث في مكنوناته وفهم تركيبته».
من يتأمل صور قدسي يشعر بروح المعمار التي تعبر عنه وعن تاريخه وقوته، سواء كانت أعمالاً توثيقية أو «فاين أرت» أو تصميماً داخلياً، ويقول «عمارة مصر ثرية بطرزها المختلفة المنتمية لثقافات وحضارات كثيرة، وقد وجدت في مبانيها الإيقاع المعماري الفريد والملهم»؛ لذا يصل المشاهد إلى روح المعمار المصري وشخصيته وفق وجهة نظره التي يقوم في إطارها بالتقاط الصور، ومن ذلك صورة تجسد «تيجان عواميد مسجد الرفاعي» فنجد الضوء يتسلل بين الأعمدة الثلاثة، يقول «لفت نظري في ذلك التكوين زخم التفاصيل، فعملت على إبرازها بزوايا مختلفة، وعبر استخدام الإضاءة مزجت الكلمات بأشكال الورد».
وفي عمل آخر جسد «قبة مسجد الرفاعي» بعد تجريدها من معماريتها، لإبراز التفاصيل المزخرفة للقبة، فبدت بعد التجريد كما لو أنها تحولت لـ«لا» متعددة ومتشابكة بفضل تفاعلها مع الضوء. ومن مبنى المتحف المصري بالتحرير التقط صورة الملك الفرعوني وكأنه يسير في طوابق دائرية، صاعداً نحو السماء أو قبته النورانية. وهكذا سائر أعمال فادي قدسي بالمعرض التي تتماهى مع المقولة الشهيرة للمعماري العراقي الراحل رفعت الجادرجي، إن «العمارة ليست طرز مبانٍ نسكنها، إن مفهومها يدل على كونها كياناً يشاركنا العيش والوجود والمعرفة، وأثرياً هو قابل للتغيير والتقدم والتجدد وابتكار عالم ممكن، يبدأ من التاريخ ليطل على المستقبل».
يلعب الضوء دور البطولة في أعمال معرض قدسي المستمر حتى 30 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وعن ذلك يقول «الفوتوغرافيا هي الرسم بالضوء، وأرى أن المعمار يتجسد بقوة ويتشكل وتظهر معالمه عبر تفاعله مع زوايا الضوء الساقطة عليه، ومن هنا كان اختياري للشقين المعمار والضوء كمحورين لعنوان معرضي؛ ذلك أن المعمار والضوء يتوافقان مع اتجاهي في أعمالي في التصميم والتكوين».
لذلك؛ فإن صور المعرض التي يبلغ عددها نحو 41 صورة فوتوغرافية، تعد بمثابة إعادة صياغة لرؤية عناصر المكان مع الضوء وظلاله بل إنها في بعض الصور بمثابة إعادة تشكيل للمكان عبر اللعب بالتجريد والدمج مع الضوء، إذ تقدم رؤية جديدة للمكان، ويساعد على ذلك اختياره زوايا غير معتادة، ربما تختلف من توقيت إلى آخر أو من فترة إلى أخرى «معرفة التوقيت المناسب، أو استغلال الوقت المتاح بطريقة مناسبة لصورة معينة مع المعالجة الرقمية المناسبة هو عشقي وشغفي».
استخدام قدسي تقنية التصوير أحادي اللون يأتي متسقاً مع اعتبار كثير من المصورين أن التصوير بالأبيض والأسود بمثابة عمل فني في حد ذاته، كما يعتبرونه من بين أنقى أشكال التصوير الفوتوغرافي، وفي مجال التصوير المعماري على وجه الخصوص يزداد الأمر أهمية؛ إذ يُعد اللون مصدر إلهاء يجذب الانتباه بعيداً عن لبنات البناء المرئية، والتباين اللوني، بالأشكال، والتماثل، والإضاءة، والتي تعد أهم مقومات هذا النوع من التصوير، ووفق قدسي «فإن هذا الأسلوب مع توظيف الضوء يساعد على تجسيد التفاصيل، كما أنه يمنح الأبنية رونقاً خاصاً».
بدأ فادي قدسي طريقه في عالم الفوتوغرافيا مصوراً هاوياً عام 2010، وسار في طريق الاحتراف مدرباً للفوتوغرافيا والإضاءة، وأصبح مصوراً حراً منذ عام 2013، وحصل على مجموعة من الجوائز، وشارك في الكثير من المعارض المحلية والدولية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)