من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية

الانتماءات العرقية والدينية تلعب دوراً رئيسياً في الاستقطابات الحزبية

من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية
TT

من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية

من ريغان إلى ترمب... تسييس الدين ضخّم تأثيره في السياسة الأميركية

تُجمع كل الدراسات والأبحاث على أن الدين يلعب دوراً كبيراً في السياسة الأميركية، الأمر الذي يضع الولايات المتحدة في المرتبة الأولى لناحية حضور الدين في الحياة السياسية، مقارنة مع أي دولة غنية أخرى في العالم.
ورغم أن التعديل الدستوري الأول يمنع تشكيل أي حكومة أميركية على أساس ديني، فإنه يضمن حرية ممارسة الدين. كذلك فإن الدين لا يزال يشكل عنصر الاستقطاب الرئيسي لدى الحزبين الكبيرين، في حين يعلن الأميركيون بلا تردد أنهم متدينون. وبحسب إحصاءات أخيرة، فقد أعلن 55 في المائة من الأميركيين أنهم «يصلّون» بانتظام، مقارنة بنحو 10 في المائة في فرنسا و6 في المائة في بريطانيا. كذلك يقول 87 في المائة إنهم يؤمنون بالله، و56 في المائة يقولون إنهم يؤمنون بالله «تماماً كما هو موصوف في الكتاب المقدّس».

تاريخياً، خلال القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، استقطب الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية أنصارهما على أسس عرقية ودينية. وعموماً، في الشمال كان معظم البروتستانت من الجمهوريين، في حين أن معظم الكاثوليك كانوا من الديمقراطيين. أما في الجنوب ومنذ ستينات القرن 19 إلى ثمانينات القرن الماضي، كان معظم البيض ديمقراطيين (بعد عام 1865) وكان معظم السود جمهوريين، قبل أن تتغير الحال في العقود الأربعة الأخيرة.
أيضاً، كثيراً ما يناقش السياسيون دينهم أثناء الحملات الانتخابية، فيما العديد من الكنائس والشخصيات الدينية نشطة سياسياً. ورغم ذلك كان توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، هو أول مَن شق الطريق للفوز بمنصب الرئاسة عبر أفكار مثيرة للجدل حول الدين، معلناً «لا دينيته»، بعدما تمكّن من تغيير العلاقة بين الفوز في الانتخابات على أساس الدين إلى إعلان تسامحه مع الحرية الدينية.
ولعل من بين جميع السياسيين الذين ترشحوا للرئاسة الأميركية خلال العقود الأخيرة، فإن بيرني ساندرز الأقل تديناً؛ فهو يعرّف نفسه على أنه يهودي علماني ويربط المعتقدات الدينية بالعدالة الاجتماعية، ولا يشارك في أي دين، ويدافع عن الفصل بين الكنيسة والدولة. لكن ظهور سياسات الهوية ونجاحها يشير إلى أن العرق أو الدين قد تكون لهما أهمية أكبر من العدالة الاقتصادية.
مع ذلك وبغية حفاظ الجمعيات الدينية والكنائس على وضعها كمؤسسات ومبرّات معفاة من الضرائب، فقد منعها الدستور الأميركي من اعتماد مرشح رئاسي رسمي. فالمسيحيون المتدينون موجودون في كل من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. لكن المسيحيين الإنجيليين المتشددين (أو «المولودين من جديد») يميلون إلى دعم الحزب الجمهوري، بينما يميل المسيحيون الأكثر ليبرالية والكاثوليك والعلمانيون إلى دعم الحزب الديمقراطي. ولقد وجد استطلاع أجراه مركز «بيو للأبحاث» عام 2019 أن 54 في المائة من البالغين يعتقدون أن الحزب الجمهوري «ودود» تجاه الدين، بينما قال 19 في المائة فقط من الشريحة المستطلعة الشيء نفسه عن الحزب الديمقراطي.
من ناحية ثانية، يعرّف غالبية الأميركيين أنفسهم بأنهم مسيحيون بنسبة 71 في المائة، بينما الأديان غير المسيحية (بما في ذلك الإسلام واليهودية والهندوسية وغيرها) تشكل مجتمِعةً نحو 6 في المائة من السكان البالغين. وأعلن 23 في المائة من السكان البالغين أن ليس لديهم انتماء ديني. ووفقاً لمسح الهوية الدينية لدى الأميركيين، يختلف المعتقد الديني بشكل كبير في جميع أنحاء البلاد، حيث يقول 59 في المائة من الأميركيين الذين يعيشون في الولايات الغربية إنهم يؤمنون بالله، لترتفع هذه النسبة إلى 86 في المائة في الجنوب.

إعادة تعريف الانتماء
عندما أسّست الولايات المتحدة، كانت تُسمّى بـ«الأمة البروتستانتية»، لكن «البروتستانتية» اكتسبت في الآونة الأخيرة تعريفاً أضيق. إذ بات يعني المتشددين أو البروتستانت «الإنجيليين» الذين يؤمنون بضرورة «الولادة من جديد»، ويؤكدون على أهمية الكرازة وعلى التعاليم البروتستانتية التقليدية حول سلطة الكتاب المقدس وتاريخيته. وفق هذا التعريف الضيق، يمكن القول إنهم ما عادوا يشكلون غالبية، بحسب مصادر متعددة. ووفق هذه المصادر، فإنهم يشكلون اليوم ما يقرب من ربع سكان الولايات المتحدة، وهم يأتون من مجموعات مأخوذة من خلفيات طائفية متنوعة، بما في ذلك الكنائس المعمدانية والنظامية (الميثودية) والإصلاحية وغير الطائفية.
«الإنجيلية» لعبت دوراً مهماً في تشكيل الدين والثقافة الأميركية، وشكلت «صحوتهم» الأولى الكبرى في القرن الـ18، بمثابة ظهور «الدين الإنجيلي» في أميركا الكولونيالية. ووحّدت هذه «الانجيلية» الأميركيين في جميع أنحاء المستعمرات 13 الأولى (التي أصبحت الولايات التي أسس اتحادها نواة الولايات المتحدة الـ50 حالياً) حول إيمان مشترك. ولاحقاً، أدت «الصحوة» الكبرى الثانية في القرن 19 إلى ما أطلق عليه المؤرخ مارتن مارتي «الإمبراطورية الإنجيلية»، وهي الفترة التي سيطر فيها «الإنجيليون» على المؤسسات الثقافية الأميركية، بما في ذلك المدارس والجامعات.
كان «الإنجيليون» في شمال الولايات المتحدة من دعاة الإصلاح بقوة، وشاركوا في حركة الاعتدال، ودعموا إلغاء الرق (العبودية)، بالإضافة إلى العمل من أجل إصلاح التعليم والعدالة الجنائية. في حين انفصل «إنجيليو» الجنوب عن نظرائهم الشماليين بشأن قضية الرق، وأسسوا طوائف جديدة لم تطالب بإلغائه. ويجمع المحللون على أن العامل الرئيسي الذي يقف وراء الدعوة لإلغاء الرق، تعود أسبابه إلى عوامل اقتصادية بحتة. ففي أواخر أربعينات القرن 19 كان للهجرة الكثيفة والتدفق المفاجئ وغير المسبوق للمهاجرين الألمان والآيرلنديين على الولايات المتحدة، أبلغ الأثر على الانخفاض السريع والحاد في أجور اليد العاملة، الأمر الذي هدّد بخفض عدد «الرجال الأحرار البيض» لمصلحة العبيد، وذلك لدى إقدام الأثرياء البيض بزيادة عدد العبيد لاستثمار الأرض. وبسبب هذا الخوف من أن الرق سيدمر الآفاق الاقتصادية للعائلات العاملة البيضاء، نما وتوسع حزب لم يعمر طويلاً كان يسمى «لا نعلم شيئاً»، أو «نو نوثينغ»، لكنه شكل الأرضية لتعزيز قوة الحزب الجمهوري الذي دعم ترشح أبراهام لينكولن وقاد الحرب لإلغاء الرق.

مشهد ديني متغير
حضور الدين في الخطاب السياسي الأميركي تزايد بعد «تسييسه»، لا سيما بين «الإنجيليين» البيض منذ سبعينات القرن الماضي، وسلّط هذا التسييس الضوء على الانقسام العنصري الموجود في الولايات المتحدة. وبحسب «المعهد العام لأبحاث الدين» وهي منظمة غير ربحية وغير حزبية، «لا توجد اليوم جماعة دينية أكثر ارتباطاً بالحزب الجمهوري من البروتستانت الإنجيليين البيض». ومع ذلك، فإن تسمية «إنجيلية» قضية معقدة؛ فهي حركة عابرة للطوائف في الغالب داخل المسيحية البروتستانتية على أساس مجموعة من المعتقدات الأساسية الشخصية: الكتاب المقدس هو مركز الإيمان، والتكفير عن الخطايا بصلب المسيح، والاهتداء الشخصي والخلاص، والمشاركة في الإنجيل الذي منه أخذت هذه الحركة اسمها.
لكن ليس كل «الإنجيليين» اليوم هم من البيض والمحافظين. بل هناك نسبة صغيرة من «الإنجيليين» غير البيض (نحو 25 في المائة) بالإضافة إلى بعض «الإنجيليين» البيض التقدميين (نحو 15 في المائة) يميلون إلى التصويت للديمقراطيين. ومع ذلك، تظهر الإحصائيات تآكلاً بطيئاً في عدد الأميركيين الذين يُعرّفون بأنهم بروتستانت «إنجيليون» منذ تسعينات القرن الماضي، وخاصة لدى الأجيال الشابة. أيضاً، انخفض عدد الكاثوليك ببطء، في حين انهار عدد البروتستانت التاريخيين.
بعض الأكاديميين يناقشون أن هناك زيادة ملحوظة في عدد الأميركيين الذين لا ينتمون إلى أي دين، وهؤلاء باتوا يساوون عدد «الإنجيليين» إن لم يكونوا أكثر عدداً. لكن باحثين آخرين، مثل لوريك هينيتون، يقولون إنه لا يوجد شيء مشترك سوى أنهم لا يريدون أن يُحسبوا على أنهم ينتمون إلى مجموعة دينية أو لتقاليد راسخة. وأظهر استطلاع أجراه مركز «بيو» عام 2014 أن الملحدين و«اللاأدريين» Agnostics آخذون في الازدياد، لكنهم ما زالوا يمثلون أقل من ثلث اللامنتمين، مما لا يثير الدهشة أن بيرني ساندرز هو المفضل عندهم.
من ناحية أخرى، تظهر بعض الدراسات أن الأجيال الشابة لا تنتسب بشكل متزايد إلى دين أو كنيسة، لكنهم أيضاً من أقل الأجيال إقبالاً على التصويت، ما يقلل من تأثيرهم على الانتخابات. بل حتى لو تزايدت نسبة تصويتهم، كما جرى في الانتخابات النصفية عام 2018، فإن النظام الانتخابي والتقسيم السياسي لأميركا يضخّم قوة الناخبين البيض والريفيين والمسيحيين المحافظين، عبر تقسيمات إدارية للمقاطعات تمكن الأقلية في الولايات القليلة السكان من التحكّم بنتائج الانتخابات. ومن ثم، يُرجّح أن يستمر الدين في لعب دور رئيسي في الانتخابات الأميركية لسنوات مقبلة، وأن ستستمر «الآلة القومية المسيحية» في دفع دونالد ترمب لجعل الهوية الدينية عنصراً أساسياً في حملته، على حد قول الباحثة كاثرين ستيوارت، وفي المقابل، يسمح لمنافسه جو بايدن باستخدام «تسامحه الديني» لاستقطاب القاعدة المؤمنة.

مرحلة رونالد ريغان
خلال العقود الأخيرة أصبح التديّن أكثر وضوحاً في البيت الأبيض. لقد كان رؤساء الولايات المتحدة يتذرّعون بالإيمان والله منذ أن أعرب جورج واشنطن عن «توسلاته الحارة لهذا القدير الذي يحكم الكون» في خطابه عام 1789. غير أن استخدام اللغة الدينية وحتى الإشارات الصريحة إلى الله قد ازدادت في الخطاب الرئاسي منذ الثمانينات. ويرى باحثون أن عبارة «بارك الله في أميركا»، وهي العبارة الأكثر وضوحاً التي تربط بين الله والوطن، تزايدت بشكل كبير، وباتت متوقعة في جميع الخطابات الرئيسية، بينما كانت شبه غائبة قبل رونالد ريغان. وبحسب دراسة حديثة أجراها الباحث سيري هيوز، يبدو أن هذا الاتجاه أكثر وضوحاً مع دونالد ترمب... الذي رغم ادعائه الانتماء إلى الطائفة البروتستانتية المشيخية، هناك أدلة كثيرة تشير إلى أنه أقل الرؤساء التزاماً دينياً في العصر الحديث. وفي هذا السياق، فإنه يستدعي الدين أكثر من غيره، في استراتيجية استخدمها بشكل ناجح عام 2016؛ فقد صوّت 81 في المائة من «الإنجيليين» البيض لصالح ترمب، ووعد بالدفاع عنهم في الحروب الثقافية، لا سيما في مواضيع الإجهاض وحقوق مجتمع المثليين والصلاة المدرسية.
وبخلاف ترمب، حدد جميع رؤساء العصر الحديث أنهم «مسيحيون بروتستانت»، باستثناء جون كينيدي (الرئيس الكاثوليكي الوحيد) الذي ظهر أن «كاثوليكيته» كانت قضية حملته الانتخابية. من ناحية أخرى، لم ينل أي شخص يهودي ترشيحاً رئاسياً من أي حزب كبير (فقط حصل جوزيف ليبرمان على ترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في عام 2000)، في حين لم يخلُ من جدل انتماء ميت رومني المرشح الجمهوري في عام 2008 إلى طائفة المورمون.
في أي حال، ولئن كان لا يزال هناك تشكيك في أهمية الدين والدور الذي يلعبه في السياسة الأميركية، فإن تركيبة الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، تعطي صورة واضحة عن هذا الدور. ومع أن الكونغرس الحالي الـ116 يُعتبر الأكثر تنوّعاً على المستوى الديني، فإنه يظل مسيحياً بأغلبية ساحقة قياساً حتى لعدد سكان الولايات المتحدة؛ فهناك 88 في المائة من أعضائه من المسيحيين، مقابل 71 في المائة من السكان الأميركيين البالغين. وهناك مشرّع واحد منتخب فقط في مجلس الشيوخ: السيناتورة كيرستن سينيما (ديمقراطية من ولاية أريزونا)، تعلن أنها لا دينية، في حين لا يوجد أي مشرّع يصف نفسه بالملحد. وحتى النائبة اليسارية النيويوركية إلكساندريا أوكاسيو كورتيز دائماً ما تذكّر بإيمانها الكاثوليكي وتقتبس تعابير من الإنجيل وتنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.

المتدينون أنشط اقتراعاً
وإذا كان من الصعب معرفة اتجاهات التصويت لدى المتدينين الأصوليين، خصوصاً من «الإنجيليين»، وهو ما لعب دوراً كبيراً في فشل استطلاعات الرأي التي توقعت فوز هيلاري كلينتون على ترمب عام 2016، فإنهم «يميلون إلى الانخراط في النشاط السياسي بمعدلات أعلى من متوسط الأميركيين».
كذلك، رغم أن الاعتقاد السائد بأن الناخبين المتدينين يصوتون دائماً للجمهوريين، فهذا لا يصح دائماً. فالتصويت لمصلحة هذا الحزب أو ذاك يعتمد بشكل ملحوظ على الوضع الاجتماعي والاقتصادي. وبالنسبة للأشخاص المتدينين ذوي الدخل المنخفض، لا يوجد تقريباً أي ارتباط بين معتقداتهم الدينية وقرارهم في التصويت. إذ حقق جورج بوش الأبن (الطائفة النظامية) فوزا ضئيلاً جداً على منافسه جون كيري، حين لم يلعب الاستشهاد «بالقيم الأخلاقية» دوراً كبيراً في حض القاعدة الانتخابية المتدينة على التصويت بكثافة لبوش. ونسب فوزه مباشرة إلى الجماعات الأصولية المسيحية الذين أطلق عليهم تسمية «المحافظون الجدد»، وليس للمتدينين عموماً. من جهة أخرى، أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» عام 2019. إلى أن 60 في المائة من الأميركيين على استعداد للتصويت لرئيس ملحد. في حين أن أبحاثاً كثيرة تظهر أن الأميركيين ينظرون للمرشحين الذين يُعتبرون متدينين بأنهم جديرون أكثر بالثقة.

الواقعان السياسيان لليهود... والمسلمين

> يشكل تعداد اليهود في الولايات المتحدة ما يصل إلى 2.1 في المائة من السكان. ولقد سجل هذا التعداد انخفاضاً كبيراً من أكثر من 3 في المائة في الخمسينات، ويرجع السبب أساساً إلى انخفاض معدل المواليد نسبياً بين اليهود الأميركيين وارتفاع معدلات الزواج المختلط من غير اليهود.
مع هذا، ما زال اليهود يلعبون دوراً مؤثراً في الحياة السياسية الأميركية لأسباب عدة متشعبة، يتداخل فيها العامل الآيديولوجي مع السياسي والاقتصادي. وبينما كان المهاجرون اليهود الأوائل من ألمانيا يميلون إلى أن يكونوا محافظين سياسياً، كانت موجة يهود أوروبا الشرقية التي بدأت في أوائل ثمانينيات القرن 19 أكثر ليبرالية أو يسارية بشكل عام، وأصبحت الغالبية السياسية. لقد جاء العديد من هؤلاء إلى أميركا من ذوي الخبرة في الحركات الاشتراكية والفوضوية والشيوعية بالإضافة إلى حزب العمال، المنبثق من أوروبا الشرقية. وصعد العديد من اليهود إلى مناصب قيادية في الحركة العمالية الأميركية في أوائل القرن العشرين وساعدوا في تأسيس نقابات لعبت دوراً رئيسياً في سياسة اليسار ثم بعد عام 1936، في سياسات الحزب الديمقراطي.
بعد تلك الفترة كانت الغالبية العظمى من اليهود في الولايات المتحدة متحالفة مع الحزب الديمقراطي. وقبيل نهاية القرن 20 وبداية القرن 21. أطلق الجمهوريون مبادرات بدأت تؤتي ثمارها لجذب اليهود الأميركيين بعيداً عن الحزب الديمقراطي. ولعل العلاقة الخاصة التي باتت تربط ترمب بإسرائيل وسلسلة القرارات السياسية المهمة التي اتخذها سواء في ملف السلام أو في قضية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقله السفارة الأميركية إليها واعترافه بحقها في ضم أراضي الجولان السورية المحتلة، شكلت كلها علامات فارقة، كان بالإمكان رؤية تأثيرها في الخطابات التي ألقيت في الاجتماعات السنوية للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية «أيباك».

ماذا عن المسلمين؟

أما عن المسلمين، ففي عام 2006. أصبح كيث إليسون أول مسلم ينتخب في مجلس النواب الأميركي، كممثل عن الدائرة الخامسة في ولاية مينيسوتا، وأصبح لاحقاً رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي. وعند إعادة تصوير أدائه اليمين استخدم نسخة من القرآن كان يملكها الرئيس توماس جيفرسون.
بعدها، أدت انتخابات مجلس النواب عام 2018 إلى دخول نائبتين مسلمتين مجلس النواب هما إلهان عمر (من أصل صومالي) ورشيدة طليب (من أصل فلسطيني). ولكن حتى الساعة لا يمكن الحديث عن دور كبير يلعبه المسلمون في الحياة السياسية الأميركية، خاصة، أنهم يشكلون أقلية لا تزيد نسبتها على 2 في المائة، سوادهم الأعظم من المهاجرين وأطفال المهاجرين. من ناحية ثانية، معظم منظماتهم التي تشكلت في العقود الأخيرة، وهي لا تزال تسعى إلى الموازنة بين لعب دور سياسي من ناحية، ورفع صفة الإرهاب عنهم من ناحية ثانية. وراهناً توجد عدة منظمات إسلامية أميركية متعددة التوجهات، بعضها يوصف بالمعتدل وبعضها الآخر يتهم بالتشدد والارتباط بقوى سياسية في العالم الإسلامي.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.