الشارقة تدعم قطاع النشر اللبناني

من خلال تسهيلات ومنح مالية للمتضررين من انفجار مرفأ بيروت

تسهيلات ومنح مالية وسلسلة خدمات تساند الناشرين المتضررين جرّاء انفجار مرفأ بيروت (وام)
تسهيلات ومنح مالية وسلسلة خدمات تساند الناشرين المتضررين جرّاء انفجار مرفأ بيروت (وام)
TT

الشارقة تدعم قطاع النشر اللبناني

تسهيلات ومنح مالية وسلسلة خدمات تساند الناشرين المتضررين جرّاء انفجار مرفأ بيروت (وام)
تسهيلات ومنح مالية وسلسلة خدمات تساند الناشرين المتضررين جرّاء انفجار مرفأ بيروت (وام)

خصصت إمارة الشارقة بتعاون مشترك بين «مكتب الشارقة العاصمة العالمية للكتاب للعام 2019» وهيئة الشارقة للكتاب، حزمة دعم متكاملة لقطاع النشر في بيروت، تتضمن تسهيلات ومنحاً مالية وسلسلة خدمات تساند الناشرين المتضررين جرّاء الانفجار الذي ضرب مرفأ العاصمة بيروت مطلع أغسطس (آب) الماضي.
وقالت الشارقة، أمس، إن «مكتب الشارقة العاصمة العالمية للكتاب 2019» يسعى إلى تعزيز وتمكين سوق النشر اللبنانية من خلال تعويض انخفاض مبيعات الكتاب الذي شهدته سوق الكتاب اللبناني؛ وذلك جراء الأوضاع التي تمر بها البلاد، حيث رصد المكتب منحتين ماليتين، تشمل الأولى منحة مالية للمساهمة في تنظيم معرض بيروت الدولي للكتاب، في خطوة تخفف من أعباء التكاليف اللوجيستية التي تحتاج إليها ليتجدد الحراك في سوق النشر اللبنانية، ويلتقي صنّاع الكتاب بالقراء في الحدث الذي يعد أقدم معارض الكتب العربية.
وجاءت المنحة الأخرى بهدف العمل على تخفيف الأضرار والخسائر التي تعرضت لها دور النشر اللبنانية جراء انخفاض المبيعات وتأجيل بعض المعارض العربية، حيث ستشكل هيئة الشارقة للكتاب لجنة متخصصة لتقييم أوضاع الناشرين المستحقين لهذه المنح والتنسيق المباشر معهم.
كما توجهت الحزمة لدور النشر الجديدة والناشرين الراغبين في توسيع سوق أعمالهم والانفتاح على سوق النشر العربية والعالمية، حيث أصدرت هيئة الشارقة للكتاب قراراً بإعفاء الناشرين اللبنانيين من رسوم افتتاح أعمالهم في المنطقة الحرة لمدينة الشارقة للنشر لمدة عام كامل، وخصصت عشرين مكتباً مفروشاً لهم، وعملت على تسهيل إجراءات الاستفادة من هذه المبادرة.
وكان «مكتب الشارقة العاصمة العالمية للكتاب 2019» تولى مهام ترميم ثلاث مكتبات عامة تضررت جراء الانفجار تديرها «جمعية السبيل»، وتشمل ترميم وتأهيل مكتبة مونو وتحسين بيئتها الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى تحديث التجهيزات في مكتبتي الباشورة والجعيتاوي، إلى جانب تقديم الدعم المؤسساتي لجمعية السبيل التي تأسست في عام 1997، وتعد واحدة من المؤسسات غير الحكومية الناشطة في دعم المكتبات العامة في لبنان لتكون مجانية.
وقالت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، نائب رئيس الاتحاد الدولي للناشرين رئيس اللجنة الاستشارية للشارقة العاصمة العالمية للكتاب للعام 2019 «يشكل دعم صناعة النشر في الوطن العربي والنهوض بأدوار العواصم والمدن الثقافية العربية والعالمية من الأوليات التي وضعتها الشارقة العاصمة العالمية للكتاب، والمحاور الرئيسية التي قامت عليها فعاليات الاحتفاء بعام اللقب، فالناشرون مركز صناعة المعرفة في سوق الكتاب العربية، والنهوض بدور الكتاب في نهضة المجتمعات ينعكس إيجاباً على الحراك الإبداعي كاملاً، ويقود إلى مزيد من جهود الاستثمار بالقطاع الثقافي عربياً وعالمياً».
وأضافت الشيخة بدور القاسمي، أن حزمة دعم الناشرين اللبنانيين المتضررين من انفجار مرفأ بيروت تأتي استكمالاً لسلسلة جهود قادها مكتب الشارقة العاصمة العالمية للكتاب، والتي تهدف إلى تمكين الناشرين عربياً وعالمياً لمواصلة مشاريعهم والارتقاء بجودة أعمالهم، خاصة أن سوق الكتاب اللبنانية واحدة من الأسواق الكبيرة والرائدة في الشرق الأوسط، وما تمر به اليوم من ظرف استثنائي يتطلب من المؤسسات الثقافية وقادة الفعل الثقافي التعاون والتضامن لتجاوز هذه التحديات، وتحويلها إلى فرص جديدة يمكن أن نجني ثمارها مستقبلاً.
بدوره، أشار أحمد العامري، رئيس هيئة الشارقة للكتاب، إلى أن الشارقة لم تتوانَ يوماً عن دورها كحاضنة للثقافة والمثقفين وداعمة للقضايا الإنسانية والثقافية، مؤكداً أن هذه المنح تأتي ترجمة لرؤية الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في مساندة ودعم الحراك الثقافي والإبداعي العربي بمختلف السبل؛ من أجل ضمان استمراريته في مختلف الظروف.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)