انتشار ظاهرة الحياة في القوارب بدلاً من المنازل

الوباء تسبب في إحداث قفزة نحو البحر اعتبرها البعض متهورة وغير مسؤولة

أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)
أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)
TT

انتشار ظاهرة الحياة في القوارب بدلاً من المنازل

أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)
أتاحت الحياة في قارب لأسرة تشابمان التجوال في أنحاء العالم (نيويورك تايمز)

ابتاعت أليسون وزوجها لوك، قبل عامين من الآن، قارباً بطول 44 قدماً من طراز «مودي بلو» كي يحققا حلمهما بالإبحار به حول العالم برفقة أطفالهما الثلاثة. بيد أن العديد من الالتزامات الأسرية كانت تزيد من وجودهم على الأرض، وتبتعد بهم رويداً عن حلم الإبحار الجميل: وظيفتان بدوام كامل، مع أرتال من الديون المستحقة، فضلاً عن مدرسة الأطفال الواقعة في مقاطعة نيو ساوث ويلز في أستراليا.
ثم غلبت على العالم جائحة الوباء الأخير. ومن ثم فقد لوك ويليامز، البالغ من العمر 43 عاماً، وظيفته لدى شركات تعمل في تنسيق الحدائق، وتحولت الدراسة من المدرسة إلى شبكة الإنترنت، وصارت الحياة اليومية مقصورة على الأنشطة التي لا يمكن ممارستها إلا داخل المنزل.
ولمعت في أذهانهما فكرة الإبحار من جديد، وتساءلا: «إن لم يكن الآن، فمتى؟»، قام الزوجان ببيع المنزل مع أغلب الممتلكات، وانتقلا برفقة أطفالهم الثلاثة (وتتراوح أعمارهم بين 7 و12 و13 عاماً)، مع كلبين صغيرين من سلاسة لابرادودل وقطتهما الأليفة، للعيش على متن منزلهما العائم الجديد. تقول السيدة أليسون ويليامز، التي تبلغ من العمر 39 عاماً، وكانت قد تركت وظيفتها معلمة في رياض الأطفال: «لقد منحنا الفيروس المستجد دفعة إلى الأمام بدلاً من أن يعيق حياتنا ويجذبها إلى الخلف». إنهما يحاولان استعادة شيء مهم للغاية كانوا يفتقرون إليه جميعاً منذ سنوات: «أخيراً لدينا وقت يجمعنا كأسرة واحدة».
بالنسبة إلى العديد من العائلات، سبب فيروس «كورونا المستجد» اهتزازاً للتوازن الدقيق القائم ما بين العمل من المنزل، والتعليم في المنزل، ورعاية الأطفال. غير أنه ،بالنسبة إلى عدد متزايد من الأسر، تسبب حلول الوباء في إحداث قفزة ربما تبدو لدى البعض متهورة وغير مسؤولة: نحو البحر.
تقول السيدة بيهان غيفورد - وهي مدربة العائلات الساعية إلى الإبحار بالقوارب: «لم نكن مشغولين مثل الآن من قبل. لقد ارتفع معدل الاستفسارات والعملاء الجدد لدى الشركة بصورة مضاعفة، منذ بدء انتشار وباء (كورونا المستجد) في البلاد. حيث تزيد رغبة الناس في الابتعاد عن حياة المدن المغلقة».
وأضافت السيدة غيفورد تقول: «تواصل العائلات الدراسة في المنزل والعمل من بُعد على أي حال؛ فلماذا لا نستفيد من أموال بيع المنازل أو المدخرات ونحولها إلى مغامرة عائلية بحرية لا تُنسى؟». يُشار في أستراليا إلى العائلات التي لديها أطفال على متن القوارب بمسمى «قوارب الأطفال»، داخل مجتمع الإبحار. وتقدر السيدة غيفورد أن هناك ما لا يقل عن 1000 منهم يعيشون على متن القوارب في البحر راهناً.
ومن خلال 13 عاماً كاملة من الإبحار (وهو اصطلاح آخر يشير إلى الإبحار بغرض الترفيه) طافت السيدة غيفورد رفقة زوجها وأطفالها الثلاثة حول العالم على متن القارب، وتمكنت من زيارة 48 دولة وإقليماً، وسبحت عبر حطام طائرة مقاتلة يابانية قديمة تقع في غرب المحيط الهادئ، وبحثت عن شبح نابليون بونابرت في جزيرة سانت هيلانة حيث كان منفياً في آخر أيام حياته.
ولقد استفاد ابنها الأكبر كثيراً من طريقة التنشئة غير التقليدية هذه، وهو الآن طالب بالسنة الأولى في كلية لويس كلارك في ولاية أوريغون الأميركية. تقول السيدة غيفورد، التي ترسو بقارب أسرتها على سواحل بحر كورتيز في الآونة الراهنة: «لقد أصبحت شخصيات أطفالنا واضحة، وممتعة، ومختلفة تماماً. وأن تكون مختلفاً فهذا من الأمور الجيدة للغاية لأنه يعني أنك مميز عن الآخرين في شيء ما».
ومع عودة المدارس عبر شبكة الإنترنت، فإن استخدام المصطلح سالف الذكر بمعناه الحديث غير الساحلي يعني أن العديد من الأطفال سوف يقضون الساعات الطويلة داخل جدران المنازل يحملقون طوال الوقت أمام شاشات الحواسيب الخاصة بهم. ولكن بالنسبة إلى أطفال القوارب، فإن فصولهم الدراسية البحرية الجديدة هي أوسع مجالاً كمثل اتساع العالم بأسره أمام أعينهم.
يرسو قارب الزوجان ناتالي ومايكل نيف رفقة أطفالهما الثلاثة قبالة أحد الشواطئ المهجورة الذي تحيط به مياه المحيط الفيروزية الجميلة على مرمى البصر غير بعيدين عن تلال موريا الاستوائية في جزر بولينيزيا الفرنسية، في جنوب المحيط الهادئ. وعندما ينجحون في اصطياد سمكة، يقوم الوالد مايكل مع ابنه نوح البالغ من العمر 12 عاماً بفتح بطن السمكة من أجل دراسة عملية لنظامها الهضمي المقرر على نجله في المدرسة، وذلك قبل إعدادها من أجل طعام العشاء. وكانا يفحصان أمعاء السمكة، وغالباً ما اكتشفا بعض الأسماك الصغيرة، أو الحبار الصغير، أو ربما قطعة من المرجان في جوف السمكة.
يقول السيد مايكل نيف، الذي ترك وظيفته الهندسية في ولاية أوريغون الأميركية من أجل الخروج في رحلة بحرية في عام 2018: «هذا ليس من الأمور التي نعتاد القيام بها في البيئة المدرسية النموذجية على أي حال». يعتبر قارب «أوبي» أحادي الهيكل الذي تملكه أسرة السيد مايكل نيف ويعمل بالطاقة الشمسية مثالاً يُحتذى به في حد ذاته، وتقول السيدة ناتالي نيف - وهي أستاذة الهندسة الميكانيكية التي تستمتع بتدريس الابتكارات الجديدة لأطفالها: «دائماً ما نعود إلى الشاطئ من أجل التزود بالوقود وقضاء بعض الوقت – فلا بد من تأمين ضرورويات الحياة على متن القارب من الكهرباء والمياه العذبة بين الحين والآخر. كذلك لا بد من إفساح المجال أمام الأطفال كي يمارسوا أنشطتهم المحببة، بدلاً من قصر حياتهم على مساحة القارب المحدودة مهما كان اتساعه». وبالإضافة إلى كتب التعليم في المنزل، يستعين الأطفال بموقع «ويكيبيديا»، وهي موسوعة المعلومات الحرة غير المتصلة بشبكة الإنترنت، التي قام أحد الأصدقاء بتنزيلها كاملة على قرص صلب من أجل الأطفال، فضلاً عن مكتبة رقمية متواضعة. ومن المعروف أن إشارة الإنترنت غير مستقرة طوال الوقت في الأماكن البعيدة مثل مقاطعة بولينيزيا الفرنسية في جنوب المحيط الهادئ، الأمر الذي يقلل من عراك الأطفال على الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات. وبدلاً من ذلك، يحتفظ الأطفال على الدوام بقائمة من الأسئلة التي لا بد من إيجاد الإجابات عنها قبل أن يتمكنوا من الدخول على الإنترنت وذلك من أجل توفير الوقت والمجهود. تقول السيدة ناتالي عن ذلك: «هناك أمر ما يتعلق بالتأكيد بعدم توافر الاتصال بشبكة الإنترنت مما يجعل التجربة وكأنها شيء مميز في حد ذاته».
تستميل فكرة قوارب الأطفال أولئك الذين يبحثون دوماً عن الحياة السهلة والبسيطة الأكثر ابتعاداً عن التعقيد، تلك الحياة التي تؤسس للاستقلال شبه التام مع سهولة حل مشكلات الحياة اليومية. في صباح أحد الأيام، اندفعت سيدة مذعورة صوب جيس تشابمان (13 عاماً) ووالدته كاسي، اللذان كانا قد وصلا لتوهما إلى رصيف القوارب في خليج سان دييغو بولاية كاليفورنيا. وكانت مشكلة السيدة المذعورة أن زوجها قد خرج بالزورق خاصته إلى البحر ثم اكتشف فجأة أن مجاديف الزورق قد سُرقت. ومن ثم، قفز جيس إلى زورقه وتوجه مسرعاً إلى الرجل الذي كان يصارع الرياح بشراسة بالغة، ثم قام بربط زورقه بزورق الرجل المنكوب وقام بسحبه سالماً إلى الشاطئ. وقال جيس مازحاً: «شعرت للحظات وكأنني من قوات حرس السواحل في مهمة خاصة للإنقاذ».
وبالعودة إلى موطنه في مدينة لوس أنجليس، كانت أيام جيس تشابمان تدور حول الانتقال من تجربة أداء إلى أخرى رفقة والديه (حيث يقوم بدور تمثيلي في مسلسل من إنتاج شبكة «نتفليكس» الترفيهية بعنوان: «ذا هيلينغ باورز أوف ديود»، الذي قد أذيع في يناير (كانون الثاني) من بداية العام الحالي.
لكن الأمور تغيرت لا سيما مع انتقال مكاتب اختيار واختبار الممثلين إلى العمل عن بُعد، ومن ثم ارتأت أسرة تشابمان فرصة جديدة وسانحة للفرار ليس فقط من وباء «كورونا المستجد»، وإنما من العناصر ذائعة الانتشار للأنماط الثقافية عبر شبكة الإنترنت.
تقول السيدة تشابمان، البالغة من العمر 35 عاماً: «لم نرغب لأطفالنا أن تمسخهم ثقافات الحياة المادية الجامدة في المدن، والانطلاق مهرولين من غير تفكير وراء آخر صيحات الموضة، أو الحملقة طوال الوقت لمتابعة أحدث رقصات تيك توك التافهة، أو ملاحقة أخبار المشاهير العابرة عبر صفحات يوتيوب». واستطردت تقول: «إنما أردنا لهم الاهتمام والعناية بقضايا الحياة الحقيقية الواقعية مع العمل على إحداث تغيير ملموس». تحمل أسرة تشابمان اسم «أسرة الرحالة»، وهو عنوان قناة «يوتيوب» الخاصة بهم، ولقد انتقلوا للإقامة على متن قاربهم الذي يبلغ طوله 46 قدماً ويحمل اسم «سايرن»، اعتباراً من شهر أبريل (نيسان) الماضي برفقة أطفالهم الخمسة، ولقد أمضوا أغلب فترة الإغلاق العام بسبب الوباء وهم يبحرون حول مختلف موانئ العالم.
وفي حين يستمتع أولياء الأمور بقضاء أوقات إضافية مع العائلة، فإن الأطفال لا يزالون في حاجة إلى أصدقائهم، وهو أمر يصعب توفيره في البحر، مما يتطلب نوعاً من التخطيط، والمرونة في الإبحار من أجل إعادة ترتيب أولويات السفر. تقول السيدة غيفورد: «لا بد من إفساح المجال أمام التنشئة الاجتماعية للأطفال، بمعنى محاولة البحث عن العائلات الأخرى التي تعيش على متن القوارب من أجل التواصل وإنشاء الصداقات الجديدة. ومجرد توقع حدوث ذلك هو من الوسائل الجيدة للغاية عوضاً عن حالة الوحدة أو الملل البارد الذي يصيب حياة الأطفال».
ولقد نجح أطفال السيدة غيفورد في تشكيل مجموعة قوية من الأصدقاء مع أطفال القوارب الآخرين من ستة بلدان حول العالم، وذلك خلال فترة وجودهم في جنوب المحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا، مع الاستمرار في التواصل فيما بينهم عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي المتاحة.
يتمكن العديد من عائلات قوارب الأطفال من العثور على بعضهم عبر منصة «فيسبوك» في منتدى يحمل اسم «كيدز فور سيل» (أطفال الإبحار)، الذي أسسته السيدة إريكا ليليفري منذ 10 سنوات بغرض العثور على رفاق وأصدقاء جدد لأجل طفلتها الوحيدة. وقالت السيدة ليليفري، التي تبلغ من العمر 40 عاماً، وتعيش على متن قاربها الخاص في مدينة ستامفورد بولاية كونيتيكيت الأميركية برفقة زوجها وابنتها لوسي التي تبلغ 11 عاماً من عمرها الآن: «في ذلك الوقت قبل عشر سنوات لم يكن هناك منتدى معروف لأطفال القوارب في أي مكان حول العالم. وكنا نأتي إلى مرسى القوارب في زورق صغير لنجد الناس على الشاطئ يقولون لنا: (لقد فاتكم كذا وكذا من الفعاليات خلال الأيام الماضية)، مما كان يبعث في قلوبنا كثيراً من الحزن والإحباط».

- خدمة «نيويورك تايمز»

 


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».