«النوبة»... فن صناعة البهجة

كتاب جديد يضيء خصوصية تراثها الثقافي والحضاري

من الرقصات الشعبية النوبية
من الرقصات الشعبية النوبية
TT

«النوبة»... فن صناعة البهجة

من الرقصات الشعبية النوبية
من الرقصات الشعبية النوبية

تمثل «النوبة» بتراثها الثقافي والحضاري العريق وجه مصر العريق في ربوع القارة السمراء. ورغم أن كتاب «النشاط الاقتصادي والاجتماعي للنوبيين، 1805 – 1923» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في القاهرة ضمن سلسلة «تاريخ المصريين» يركز بلغة أكاديمية محضة على تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهذا الإقليم ضمن حقبة تاريخية محددة، فإنه يضيء أيضاً جوانب أخرى تتعلق بالتاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والفنون لسكان هذا الإقليم المدهش والذي أثار خيال الرحالة على مر الزمان.
في البداية تشير مؤلفة الكتاب الباحثة الأكاديمية حليمة النوبي إلى أن المؤرخين اختلفوا حول أصل تسمية النوبة؛ فقد عرفها المصريون القدماء باسم «نوب» أو «نوبو» بمعنى الذهب، أي أنها «بلاد الذهب»؛ نظراً لأن قرى النوبيين مجاورة لمناجم الذهب، بينما يرى البعض أنها كلمة قبطية «Notpt» بمعنى «يضفر» أي ذي الشعر المجعد، وهناك الكثير من الأسماء التي أطلقت على النوبة عبر العصور، ومنها «تا - ستي» «sti - Ta» بمعنى «أرض القوس»، أو أرض رامي السهام، حيث إن هناك الكثير من الشواهد التي تربط بين القوس والنوبة بسبب مهارة النوبيين في استعمال القوس وبراعتهم كرماة وشهرتهم الكبيرة في الرمي بالسهام فقد عملوا في الجيش طيلة العصور التاريخية المختلفة وأطلق عليهم أثناء الفتح العربي «رماة الحدق» لمهارتهم في التصويب. والنوبيون شعب نهري عاشوا ملاصقين لنهر النيل من أسوان في مصر وحتى بلدة الدبة وكورتي في السودان.
على مستوى المناخ العام، وكما يشير الكتاب، يتميز هذا الإقليم بشدة الحرارة في فصل الصيف وشدة الجفاف الذي يجعل الحياة صعبة على مدار العام. ويصف الرحالة السويسري يوهان بوركهارت (1784 – 1817) مناخ النوبة بأنه صحي جداً على شدة حرارتها في الصيف، لا سيما في البقاع الصخرية الضيقة نظراً لجفاف الهواء. هكذا نلاحظ مدى قسوة الأحوال الطبيعية لبلاد النوبة؛ مما دفع سكانها للهجرة من أراضيهم الفقيرة متتبعين مجرى النهر بحثاً عن الرزق.
وتلاحظ المؤلفة أن النوبيين لم يعتنقوا الإسلام عند زحف الجيوش العربية على بلادهم عام 641م، بل ظلوا على دينهم حتى القرن الرابع عشر عندما اعتنق ملك النوبة الإسلام وأسلمت جميع رعيته، وفي أثناء هذه الفترة دخلت بعض بطون من قبيلتي «ربيعة» و«جهينة» المنطقة النوبية، وانتشرت في الإقليم الشمالي واستقرت به وكانت قبيلة «بني كنز» أكبر القبائل وأقواها، وحدث اندماج بينهما وبين النوبيين المقيمين في قرى هذا الإقليم عن طريق المصاهرة فانتشرت اللغة العربية.
ظلت اللغة النوبية زمناً طويلاً متداولة شفاهياً دون أن تُكتب إلى أن تحولت البلاد إلى الديانة المسيحية في منتصف القرن السادس فكتبت النصوص الدينية بالحروف القبطية، كما استخدمت هذه الحروف في كتابات أخرى، وبذلك أصبحت اللغة النوبية مكتوبة، أما النصوص السابقة لذلك العهد فإنها كانت باللغة المصرية القديمة ولعلها كانت اللغة الرسمية للبلاد، بينما كانت النوبية هي لغة الناس مع ما بين اللغتين من التشابه. وتوضح الباحثة، أنه تم العثور على بعض المخطوطات النوبية ترجع إلى العصر الإسلامي، وهي مدونة بالحروف اليونانية، في حين اختلف الباحثون في أصل اللغة النوبية، فهناك من رأى أنها إحدى اللغات الخاصة دخلتها مؤثرات خارجية كثيرة. وهناك من يرى أنها لغة نيلية جنوبية تعرضت لمؤثرات حامية شديدة على مدى العصور. وعلى الأرجح، فإن اللغة النوبية من اللغات الحامية، وهو ما يتفق مع التطورات العرقية التاريخية، وقد دخلت تلك اللغة مفردات من مصادر أخرى بعضها من شمال إثيوبيا كما استعانت بكلمات عربية شكلت ما يقرب من ثلث مفرداتها.

فنون نسائية
برع النوبيون في صناعة الفخار دون غيرهم وشكّل توافر الطين الصلصالي في بلادهم أحد العوامل المساعدة على قيام هذه الصناعة الشعبية في تلك المنطقة. وكان على الضفة الشرقية للنيل باتجاه أسوان جبل يعرف باسم «جبل الطَفل» يصنع منه العرب والنوبيون هذه الأواني الفخارية. إنها صناعة تقوم على مهارة وفنون النساء النوبيات اللواتي يتولين جميع مراحل صناعة تلك الأواني باستثناء مرحلة الحرق والتي يتولاها الرجال.
عن هذه الصناعة يوضح الكتاب، أنه في المرحلة الأولى يتم عجن الطين لإكسابه المرونة الكافية وعندئذ تقوم النساء بتشكيل الجزء السفلي من الإناء المطلوب عن طريق ضغط الطين بواسطة قطعة من الصدف، حيث يضاف إلى الطينة بعض الماء، وما إن يتم جفاف الإناء حتى تباشر النساء تلوينه وصقله، ويستعان في التلوين ببعض أكاسيد الحديد الحمراء التي تكثر في النوبة؛ وذلك للحصول على اللون الأحمر الداكن الذي يطلين به الفخار.
أما طريقة إعداد الألوان فبسيطة للغاية؛ إذ تقتصر على طحن أكسيد الحديد، ثم إذابته بالماء ودهن الإناء بمحلوله، ثم حكه بقطعة من الحجر الأملس فيكتسب بريقاً ثم يأتي الحرق كمرحلة أخيرة.
وتتوقف المؤلفة عند فن نسائي آخر يتمثل في صناعة الأطباق والسلال من سعف النخيل التي يوضع بها الخبز على المائدة، وكلها مصنوعة باليد غير أن في صناعتها أناقة وإتقاناً يوهمان بأنها مصنوعة بالآلات. تتسم صناعة «الحصير» في النوبة أيضاً بالجودة والدقة والمتانة، إضافة إلى تنوع أشكالها. وتعتبر تلك الصناعة من أقدم الصناعات التي مارسها الإنسان البدائي، وهي عبارة عن تضفير الألياف عبر تداخلها بعضها في بعض باستخدام الطرق اليدوية. تعتبر النوبة من المناطق الغنية بالفنون الشعبية؛ فيوجد لدى النوبيين هوس بالزخارف والحلي، وشغف بالألوان المتباينة الجذابة ما بالمعابد والمقابر الفرعونية التي كسيت جدرانها بمناظر من حياة المصريين القدامى. ومن الواضح أن ثقافة المجتمع النوبي ومناخ المنطقة وطبيعتها لها تأثير في كل ما يتعلق بالعمارة، فالبيوت في قرى النوبيين «الكنوز» تغطيها القباب، أما بيوت «الفاديجا» فيعلوها سعف النخيل مع مراعاة أن تكون الأسقف على ارتفاع كبير والجدران من الطين، لكنها مطلية باللون الأبيض للتخفيف من أشعة الشمس الحارقة.
وترصد المؤلفة بعضاً من فنون أهل النوبة في الرقص والغناء، لا سيما فيما يتعلق بطقوس الزواج والميلاد والتي عني المؤرخون والرحالة الأوروبيون باستكشافها، ومنها رقصة يلتف فيها الراقصون حول نار موقدة بينما يقف شبان القرية وفي أياديهم الحراب في جانب، أما النسوة فيقفن في الجانب الآخر ويرقص الجميع على أنغام الدفوف في خطوات إيقاعية حول النار. وهناك رقصة إيقاعية أخرى يجلس فيها شيخ القرية على العنجريب «السرير»، في حين يجلس على الأرض أمامه مجموعة من الشبان في أيديهم الحراب يقابلهم الفتيات بجلاليبهن الناصعة. وهذه الرقصة ترتبط بمواسم زراعية محددة تتوافر فيها الغلال.
ويلفت الكتاب إلى أن النوبة تملك عدداً من أعظم المعابد الأثرية في العالم، منها معبد «أبو سمبل» الذي يطلق عليه البعض «سيد المعابد»، وهو أعظم معابد النوبة تأثيراً في النفس لإعجازه المعماري وروعته الفنية ومناظره التاريخية. عثر ضمن نقوشه على نقش يؤرخ بالسنة الخامسة والثلاثين من حكم رمسيس الثاني، أي نحو 1227 قبل الميلاد، أي أن عمره نحو 3200 عام، ولعل أروع أجزاء المعبد واجهته والتي تعد من أبدع ما نفذه المهندس المصري القديم.
وتؤكد الباحثة أن قصة اكتشاف هذا المعبد في العصر الحديث تدور حولها الكثير من الروايات والقصص أشهرها للرحالة يوهان بوكهارت عند زيارته لبلاد النوبة 1812 حيث شاهد أربعة تماثيل عملاقة منحوتة في الصخر وهي مدفونة في الرمال، ولا يكاد يظهر منها إلا رأس التمثال وجزء من صدره وذراعيه. قام بوركهات بكتابة تقرير مفصل عن كشفه للمعبد بعد عودته للقاهرة 1815 وقدمه للقنصل البريطاني.
وفي عام 1816 قدم إلى أبي سمبل المكتشف جيوفاني بلزوني الإيطالي الجنسية على رأس بعثة لاكتشاف المعبد يمولها القنصل البريطاني في مصر، لكن قابلته مشكلة تتمثل برفض الأهالي التعاون معه لفتح المعبد الذي كان مطموراً في الرمال وفي زيارته الثانية نجح في تطهير واجهته ودخل لغرفه الداخلية وبذلك يعتبر أول الأوروبيين الذين نفذوا إلى داخل المعبد.
وعن صفات النوبيين وطرق معيشتهم يذكر بوكهارت، أن الرجال ذو أجسام قوية مفتولة وتقاطيع وسيمة، وهم أقصر من نظرائهم المصريين في العاصمة. أما النساء فلهن قامات بديعة ووجوه طلقة، مشيراً إلى أنه رأى بينهن حساناً بارعات الجمال، لكن العمل الشاق الذي يقمن به من الطفولة يجعل هذا الجمال يزوي وينطفئ مبكراً.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي
TT

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

سردار عبد الله يحاول ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي

صدر عن دار «نوفل - هاشيت أنطوان» كتاب «موجَز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَيْن» للكاتب والسياسي العراقي الكردي سردار عبد الله. في هذا الكتاب، الذي نال تنويهاً من جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلات، يحاول سردار عبد الله، من خلال رحلتين قام بهما في عام 2018 إلى الهند، ملء الفراغ في سيرة الشيخ النقشبندي.

هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً في منتصف القرن التاسع عشر، أسهمت تلك السنة في تعزيز دور الشيخ لإحداث تغييرات بعد عودته؛ إذ تبنى الطريقة النقشبندية التي باتت تسمى فيما بعد باسمه «النقشبندية الخالدية». تقودنا هذه الرحلة إلى أحداث تاريخية مهمة حينها مثل سقوط ولاية بغداد والطريقة الصوفية البكتاشية. فكانت طريقته الصوفية بمثابة البديل الروحي أولاً؛ ما أحدث تحولاً كبيراً في تركيبة الزعامة الكردية، التي انتقلت من طبقة الأمراء والإقطاع إلى رجال الدين المتنوّرين.

اتخذ الكاتب قراراً جازماً بألا يعود من الهند ما لم يعثر على ذلك المكان المجهول، غير أنه في رحلة بحثه تلك، يخوض في التاريخ تارة وفي العجائب والطرائف التي يصادفها في تلك البلاد تارة أخرى.

«كيف لنملةٍ أن تطارد نسراً؟»، يتساءل الكاتب، كيف لمريدٍ أن يقتفيَ آثارَ شيخٍ حملَ الشريعةَ على جناحٍ والحقيقةَ على آخر، وجابَ بهما أصقاع الدنيا مُحلِّقاً؟

في هذه الرحلة الممتعة في الزمان والمكان والروح، يُشاركُ الكاتب قرّاءَه تفاصيلَ رحلتَيْه إلى الهند عام 2018؛ بحثاً عن خانقاه الشاه عبد الله الدهلوي. هناك، في مدينة جيهان آباد القديمة، قضى الشيخ خالد النقشبندي عاماً خلال بدايات القرن التاسع عشر، عاد من بَعدِه إلى كردستان وبغداد والشام، يحملُ طريقةً أحدثتْ تحوّلاً كبيراً في المنطقة، في فترةٍ مهمّةٍ تاريخيّاً شهدتْ سقوط ولاية بغداد، وسقوطَ الإمارات الكُرديّة؛ ما خلق فراغاً رهيباً في السلطة.

في كتابه، الذي يقع في 216 صفحة، يتساءل سردار عبد الله ثانية: «لماذا يثور مَن تتلمذ على يد الشيخ النقشبندي، بدءاً بالشيخ النهري في كردستان وصولاً إلى الأمير عبد القادر في الجزائر، ضدّ المحتلّين؟»، فتأخذ الرحلة بُعداً أعمق...

ويكتشف كاتبُنا. فبعدما اتخذ قراراً جازماً بألّا يعود من الهند ما لم يعثر على المقام المنشود، سيعثر المُريد على كنوز المعرفة ودُرَرِ المشاهَدات وهو في طريقه إلى الوجهة الأساسيّة.

وسردار عبد الله - كاتبٌ وسياسيّ كرديّ ومرشَّحٌ سابق لرئاسة العراق. ترأّس هيئة تحرير مجلّاتٍ وصحفٍ كرديّةٍ عدّة، بعد سنواتٍ قضاها في جبال كردستان ضمن قوّات البيشمركة الكرديّة. له إصدارات عدّة باللغتَيْن الكرديّة والعربيّة. «موجز الرحلتَيْن في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحَين» هو كتابه الثاني الصادر عن «دار نوفل» بعد روايته «آتيلا آخر العشّاق» (2019).