إيناس الدغيدي: تجنيت فنياً على الرجال لصالح النساء

قالت لـ«الشرق الأوسط»: شهرتي عبر البرامج أكثر من السينما

إيناس الدغيدي: تجنيت فنياً على الرجال لصالح النساء
TT

إيناس الدغيدي: تجنيت فنياً على الرجال لصالح النساء

إيناس الدغيدي: تجنيت فنياً على الرجال لصالح النساء

أكدت المخرجة المصرية إيناس الدغيدي أنها تعمدت تقديم «سينما جريئة» من أجل مواجهة المجتمع وليس من أجل عداوته. واعترفت في حديثها لـ«الشرق الأوسط» أنها تجنت على الرجال وانحازت للنساء في أفلامها، لترفع من قيمة المرأة رغم الانتقادات التي تعرضت لها، مؤكدة أنها أقامت مشروعاً سياحياً بالساحل الشمالي بعدما تعرضت لخسائر مالية كبيرة في آخر أفلامها؛ مشيرة إلى أنها لم تغب عن الأفلام كمخرجة أو منتجة بإرادتها، وإنما بسبب ظروف متعددة شهدتها السينما المصرية في السنوات الأخيرة.
وكان مهرجان الإسكندرية السينمائي قد أعلن عن تكريم إيناس الدغيدي واختيارها رئيساً للجنة تحكيم المسابقة الدولية لأفلام البحر المتوسط، في دورته المقبلة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وأخرجت إيناس الدغيدي نحو 16 فيلماً، لعب بطولتها كبار النجوم، على غرار: أحمد زكي، ويسرا، ومحمود حميدة، كما قدمت الممثلة التونسية هند صبري في السينما المصرية لأول مرة عبر فيلم «مذكرات مراهقة». وغابت الدغيدي عن السينما في السنوات العشر الأخيرة، منذ أن أخرجت آخر أفلامها «مجنون أميرة» عام 2009، لتظهر بعد ذلك على الشاشة كمقدمة برامج في التلفزيون، وأثارت حلقاتها على غرار أفلامها كثيراً من الجدل.
وعن تكريمها بمهرجان الإسكندرية تقول: «سعيدة بالتكريم الذي يأتي بعد تجربة طويلة في السينما والحياة، وأتمنى أن أواصل عملي كصانعة أفلام، وخلال مشاركتي في لجان التحكيم أنحاز للأفلام الجيدة وحسب، من دون مجاملة أو تعصب لأحد، وإنما أنحاز فقط للعناصر الفنية للفيلم، وحينما أجد الفيلم متميزاً من حيث الأداء والإيقاع أشعر أنه فيلم متكامل، وأتمنى أن تكون نوعية الأفلام بالمهرجان تحمل ذلك».
وتوضح الدغيدي أسباب غيابها الطويل عن السينما المصرية قائلة: «تعرضت لخسارة كبيرة في آخر فيلمين: (الباحثات عن الحرية)، و(مجنون أميرة) اللذين أنتجتهما أيضاً، وقد اتجهت لإنتاج أفلامي لأتخلص من تحكم وسيطرة المنتجين؛ لكني فوجئت باحتكار شركات التوزيع، ورغبتها في إبعاد الشركات الصغيرة التي أسسها مخرجون مثلما فعلت أنا والمخرجان داود عبد السيد، ومجدي أحمد علي، فتعرضنا لتحكم الموزعين الذين أهملوا توزيع أفلامنا، وخسرت في الفيلمين نحو ستة ملايين جنيه (الدولار الأميركي يعادل نحو 16 جنيهاً مصرياً)، وكان هذا سبب ابتعادي عن الإنتاج، والاتجاه نحو إنشاء مشروع سياحي في الساحل الشمالي (شمال غربي القاهرة) استحوذ على كثير من وقتي. وحالياً توجد مشكلة حقيقية في السينما، تتمثل في نوعية الأفلام التي تطرح، فهي إما أكشن أو كوميدي، وهي نوعية بعيدة عما أرغب في تقديمه، فقد اخترت تقديم سينما أكثر جرأة، وأكثر مواجهة للمجتمع، بهدف إصلاحه، وليس لكي أكون عدوة له؛ لكن الشيء الذي أعمل له ألف حساب هو أن عودتي للسينما لا بد من أن تكون قوية جداً، بعمل مميز وموضوع صادم للمجتمع».
ورغم اتجاه أغلب مخرجي السينما للدراما التلفزيونية، فإن إيناس الدغيدي تتحفظ على أسلوب العمل السائد حالياً، قائلة: «اعتاد أغلب المخرجين في الفترة الأخيرة على بدء التصوير بثلاث أو أربع حلقات فقط من أصل العمل، على أن تتوالى كتابة الحلقات على الهواء أثناء التصوير، وهذا أسلوب لا أقبله، فلا بد من أن يكون السيناريو كاملاً قبل التصوير بوقت كافٍ، ونعيد كتابته أكثر من مرة حتى نستقر عليه، ودائماً ما أشارك في الكتابة، ولي وجهة نظر في السيناريو، أما هذا الأسلوب الجديد فقد جعل الدراما أغلبها مكررة ومتشابهة وإيقاعها بطيء، وكأن الهدف منها هو ملء ساعات وليس تقديم فن حقيقي».
وتنفي إيناس الدغيدي أن يكون مشروعها السياحي قد أخذها بعيداً عن الفن؛ مشيرة إلى أنها لم تتوقف تماماً؛ بل كتبت مسلسلاً مع السيناريست مصطفى محرم بعنوان «عصر الحريم» عن قصة «رمزة ابنة الحريم» للكاتبة «قوت القلوب الدمرداشية»، وتكشف عنه قائلة: «أحداث المسلسل تدور في ثلاثين حلقة، ويتناول كيف تم تحرير الجواري في مصر خلال القرن الـ19. وهو عمل تاريخي شيق، يتعرض للاحتلال العثماني وعلاقة مصر بتركيا. وتحمست بشدة للعمل الذي استغرق وقتاً طويلاً في الكتابة؛ لكنني اصطدمت بعدم ترحيب المنتجين بهذه النوعية من المسلسلات بدعوى أنها مكلفة، وأن هذا ليس وقتها، كما كتبت فيلماً بعنوان (الصمت)، وهو جاهز أيضاً».
وصَنَّفت أفلام: «عفواً أيها القانون»، و«الباحثات عن الحرية»، و«لحم رخيص»، إيناس الدغيدي كمخرجة لسينما المرأة. وكما تقول: «فيلمي الأول (عفواً أيها القانون) كان سبباً في تصنيف النقاد لي كمخرجة لأفلام المرأة وهو أمر أعتز به، ومع ذلك فلم أتوقف عند هذا التصنيف، وقدمت أفلاماً خارج نطاق قضايا المرأة، وإن ظلت بطلات أفلامي من النساء، ووقفت في صفهم، وتجنيت على الرجل لأرفع من قيمة المرأة، فهي لها مكانة تستحقها، كوني امرأة فإنني أشعر بها وأعبر عنها في كل حالاتها».
على غرار بعض المخرجين الكبار، ظهرت الدغيدي كممثلة في مشاهد معدودة في فيلمَي: «أفواه وأرانب» الذي عملت به مساعدة مخرج، وفي فيلمها «امرأة واحدة لا تكفي». وتقول عن ذلك: «لم أتعلق بالتمثيل في أي مرحلة من عمري، ومشاركتي في الفيلمين جاءت كإنقاذ لموقف معين، كما أن عملي كمخرجة أصعب؛ لأن المخرج يسيطر على العمل كله، ويصبح الفيلم هو شخصيته وروحه وكل شيء، بينما الممثل مسؤول عن جزئية واحدة. ورغم أن التمثيل لا يستهويني؛ فإنني أحياناً أقول ليتني مثلت من زمان، لأتمتع براحة بال بعيداً عن الاستغراق في كل تفصيلة بالفيلم، ومع ذلك فأنا أحب عملي كمخرجة حققت بصمة في مشوارها».
وتصر إيناس الدغيدي «المخرجة المثيرة للجدل» على وضع أبطال وبطلات أفلامها في إطار مغاير تماماً عما اعتادوه، مؤكدة: «لا أحب القوالب الجامدة، ولدي حالة تمرد على كل ما هو ثابت ومفروض، لذا أسعى ليكون الممثل في إطار جديد تماماً، ففي فيلم (عفواً أيها القانون) استعنت بالفنان الكوميدي سيد زيان في دور جاد جداً، لم يتوقعه الجمهور ولا الممثل نفسه، وقدمت أحمد زكي ككوميديان في (إستاكوزا)».
وتصف الدغيدي الفنانة نجلاء فتحي بأنها «بسمة جميلة»، أما يسرا فهي تتمتع بسلاسة وبساطة وتثير حالة بهجة في البلاتوه. وعن هند صبري التي قدمتها لأول مرة كبطلة في فيلم «مذكرات مراهقة» تقول: «هي ابنتي، وقد عاشت معي في بيتي عندما كنا نصور الفيلم، لذا أعتبرها مثل ابنتي حبيبة».
وعن اتجاهها لتقديم البرامج خلال السنوات الأخيرة تقول: «تجربة تقديم البرامج جاءتني صدفة، واعتبرتها (فسحة)، وكان لها صدى طيب عند الناس. وحينما قدمت برنامج (الجريئة) حقق نجاحاً كبيراً. ومن الحلقات التي نجحت بشدة تلك التي جمعت بين النجمين أحمد رمزي وعمر الشريف، فقد كانت حلقة تاريخية. وحينما قدمت برنامج (شيخ الحارة والجريئة) حقق نجاحاً مماثلاً أيضاً، والمثير أن هذه البرامج جلبت لي شهرة أكبر من السينما، فقد كنت معروفة من قبل بالاسم فقط؛ لكن الجمهور عرفني شكلاً من خلال البرامج، ومنحني لقب (الجريئة)».


مقالات ذات صلة

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مشهد من الفيلم  (مهرجان الجونة)

المخرجة التونسية مريم جعبر لـ«الشرق الأوسط»: «ماء العين» يركز على «العائدين من داعش»

تترقب المخرجة التونسية مريم جعبر عرض فيلمها «ماء العين» في الصالات السينمائية خلال العام المقبل مع انتهاء جولته في المهرجانات السينمائية الدولية.

أحمد عدلي (الجونة (مصر))
يوميات الشرق يعود الفيلم إلى نهاية التسعينات من القرن الماضي ويحمل الكثير من الكوميديا السوداء (الشرق الأوسط)

أسامة القس لـ«الشرق الأوسط»: دوري في «صيفي» مثير للجدل

يترقب الممثل أسامة القس عرض فيلمه «صيفي» في صالات السينما السعودية يوم 26 ديسمبر (كانون الأول)، الذي تدور أحداثه في فترة التسعينات.

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق مشهد من الفيلم (الشركة المنتجة)

​«برتقالة من يافا»... صرخة ضد «عنصرية الاحتلال الإسرائيلي»

أكد المخرج الفلسطيني محمد المغني أن فيلمه القصير «برتقالة من يافا» الذي عُرض مؤخراً في مهرجان «الجونة السينمائي» أظهر جانباً من عنصرية الإسرائيليين.

أحمد عدلي (الجونة (مصر))
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)