متروبوليتان نيويورك يواجه مشكلة إعادة طرح نفسه في عالم متغير

يقدم معرض «ولادة متحف» لإحياء الذكرى الـ150 لتأسيسه

أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)
أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)
TT

متروبوليتان نيويورك يواجه مشكلة إعادة طرح نفسه في عالم متغير

أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)
أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)

عاد متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك ليستقبل زواره يوم أول من أمس (السبت)، وسط احتفال من الزوار الذين حرصوا على أن يكونوا على عتبات المتحف العريق في أول أيامه بعد فترة إغلاق طويلة. وفي أول معارضه بعد الغياب، يتعرض المتحف لتاريخه من خلال معرض احتفائي بالذكرى 150 على إنشائه يطرح تساؤلاً مهماً يقول: كيف سيقدم المتحف الكبير نفسه إلى الجمهور في الآونة الراهنة؟
وبالحديث عن الذكرى 150 التي طوتها مآسي الأزمة الجارية، كان متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك على مدار السنوات الطويلة الماضية ينظم سلسلة بالغة الروعة من البرامج الاحتفالية الكبيرة: من إصلاح شامل لقاعة المعروضات البريطانية، وفعاليات العرض الأول لمجموعات الهدايا الفوتوغرافية والرسومات الرئيسية، والعروض الجديدة ذات اللمسات الثقافية المتنوعة، والندوات الدولية الخاصة بمهارات الجمع المتحفي.
وفي خضم تلك الذكرى السنوية الجميلة، كان من المقرر أن يجري تنظيم معرض تحت عنوان «ولادة متحف»، ذلك الذي يصور مجريات النمو، والتطور، والتحولات التي طرأت على المتحف ومجموعاته الفنية العديدة. ولكن ما حدث بعد ذلك غير كل شيء، فقد اجتاحت البلاد، بل والعالم بأسره، جائحة فيروس كورونا المستجد قبل أيام قلائل من افتتاح معرض الذكرى السنوية المخطط له، وأجبر المتحف - وكل شيء آخر في مدينة نيويورك - على الإغلاق، ما أسفر عن تحول المعرض المذكور إلى ذكرى قاتمة وبالغة السوء على الجميع.
تتوقع إدارة المتحف في الآونة الراهنة أن تصل الخسائر المادية إلى أكثر من 150 مليون دولار في إيرادات العام الجاري، كما اضطرت إدارة المتحف إلى تقليص عدد الموظفين بنسبة 20 في المائة، وذلك من خلال قرارات متنوعة شملت تسريح بعض العمالة، والإجازات المطولة لبعض العاملين، وبرامج التقاعد المبكر لموظفين آخرين. كما اتخذت القرارات أيضاً بإرجاء العروض أو ربما بإلغائها تماماً، مع التشديد على إنفاقات الميزانية. ولقد تم إغلاق أبواب متحف «ميت بروير» للفنون الحديثة والمعاصرة - وهو المتفرع عن متحف متروبوليتان للفنون الرئيسي في مدينة نيويورك - بعد أربع سنوات فقط من افتتاحه، في صدمة قوية وشديدة لكثير من المعنيين بالفنون المعاصرة، إذ لم يستمر معرضه الأخير لأعمال الفنان الألماني غيرهارد ريختر إلا لمدة تسعة أيام فقط.
وبحلول شهر يونيو (حزيران) من العام الجاري، كان ماكس هولين - وهو مدير متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك - قد أدلى بتصريح يعتذر فيه عن البيان الباهت الذي صدر عن المتحف بشأن التضامن مع حركة «حياة السود مهمة» في أعقاب مقتل المواطن جورج فلويد وبريونا تايلور، الأمر الذي أثار حالة واسعة من الجدال المشتعل والمستمر عبر شبكة الإنترنت بشأن أخطاء مختلف المتاحف في الماضي والحاضر فيما يتصل بالأحداث العامة في البلاد. وفي وقت لاحق من الشهر نفسه، اضطر مدير متحف متروبوليتان للفنون إلى الاعتذار مرة أخرى، وذلك بسبب خطأ ارتكبه أحد أمناء المتحف على منصة «إنستغرام» في الوقت الذي كان فيه العديد من المتظاهرين في مختلف أرجاء البلاد يواصلون إسقاط التماثيل من أماكنها. وصرح ماكس هولين - مستعيناً بما وصف بأنه لغة خطاب شديدة المباشرة والفجاجة عن أسلافه من مديري المتحف السابقين - قائلاً: «ليس هناك من شك في أن متحف متروبوليتان للفنون وتطوره عبر السنوات الماضية يتصل اتصالاً مباشراً بالمنطق المعروف بتفوق العرق الأبيض».
وعليه، فإن متحف متروبوليتان للفنون - الذي يُعاد افتتاح أبوابه أمام الجمهور اعتباراً من السبت - بعد أطول فترة إغلاق يعرفها المتحف في تاريخه الطويل، كان قد تعرض لعدة صدمات متتالية. ويتعين الآن على معرض «ولادة متحف» الإجابة عن عدد من التساؤلات ذات الحجم الثقيل، ومنها: أي نوع من المؤسسات التي يمثلها ذلك المتحف؟ كيف يتسنى لهذا المتحف - أو أي متحف عالمي آخر - أن يطرح نفسه أمام الناس في الآونة الراهنة وما بعدها؟
حاولت أندريا باير، وهي نائبة مدير المتحف لشئون الإدارة والمجموعات الفنية، رفقة لورا دي كوري وهي كبيرة الباحثين لدى المتحف، مع فريق من مئات الموظفين هناك، صياغة السرد الخطابي الجديد لدى متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك، وكلهم يُذكرون بالاسم عند مدخل معرض «ولادة متحف» الجديد. يُعرض ما لا يقل عن 250 قطعة فنية في ذلك المعرض وفق تاريخ استحواذ متحف متروبوليتان للفنون عليها بدلاً من الفترة الزمنية التي تعود إليها المعروضات أو المكان الذي وجدت أو صنعت فيه. ويتيح هذا المبدأ التنظيمي غير الاعتيادي للمعروضات رسم خريطة لمجريات نمو وتطور متحف متروبوليتان للفنون على مر السنين من قاعة إلى أخرى، حتى إن كان يخلق عبر ذلك «تجاورات» زمنية متقاطعة بالغة الغرابة ولكنها لافتة للانتباه.
فهناك تمتزج أعمال الفنان مايكل أنجلو بالتماثيل الفرعونية المصرية القديمة، وتستقر القيثارة البورمية إلى جوار الدانتيل الفلمنكي. وتشهد مقدمة المعرض التي لا مثيل لها - حيث يظهر الفنان فان جوخ ورودين رفقة تمثال مانغاكا القوي مع أظافره المرصعة من مملكة الكونغو القديمة إلى جانب صورة رائعة للممثلة الأميركية البارعة مارلين مونرو من أعمال المصور الفوتوغرافي ريتشارد أفيدون - على القوة غير المسبوقة ونطاق الاتساع الهائل الذي يحظى به متحف متروبوليتان للفنون من خلال معروضاته الفنية البديعة.
أما بالنسبة إلى جمهور المتحف العائدين إلى زيارته بعد مرور خمسة شهور من الإغلاق المستمر، فإن تلك «التجميعة» من المعروضات ذات القطع البديعة هي بمثابة هدية راقية مقدمة إليهم بعد غياب طويل. ويقدم هذا المعرض صورة مصغرة من المتحف الكبير التي يمكن تقدير أهميتها على اعتباره كنزاً فنياً فريداً. ولكن من حيث التكوين، فإن معرض «ولادة متحف» يتعلق بطموحات المتحف ومحاولة سد الثغرات الداكنة في جسد المؤسسة - فضلاً عن المخططات ذات الطبيعة المتغيرة من المعنى، والمغزى، والقيمة، والتفسير، التي تشكل في مجموعها إطاراً محسوساً غير مرئي يعكس جماليات العالم بأسره.
يخطط معرض «ولادة متحف» إلى تطوير مجموعة من تسعة معارض أخرى ذات تراتب زمني، ينضم إليها زقاق رئيسي يعرض تصاوير لمكتب الاستعلامات القديمة في متحف متروبوليتان للفنون، وورشة صناعة اللافتات، وغرف الترميم والإصلاح القديمة في المتحف. يركز أحد تلك المعارض التسعة على عرض مجموعات الدراسات المتعمقة للمنسوجات، والأعمال الورقية، والآلات الموسيقية في متحف متروبوليتان للفنون، التي كانت قد تأسست في أوائل القرن العشرين. وهناك محاولات أخرى من التركيز على عرض الآثار المتحصل عليها من خلال الحفريات الأثرية الممولة من جانب المتحف في حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، عندما كان متحف متروبوليتان للفنون يتشارك في الاكتشافات الأثرية مع البلدان المضيفة، وذلك بموجب مبدأ قانوني قديم عفا عليه الزمن تحت اسم «مبدأ بارتاج أو التقاسم». وبموجب هذا المبدأ، تمكن متحف متروبوليتان للفنون من إدخال تمثال جالس للملكة المصرية الفرعونية حتشبسوت - جرى العثور عليه في مصر بين عامي 1927 و1928 - أو على الأقل تمكن المتحف من إدخال رأس التمثال وذراعه اليسرى، ثم قام بجمع الأجزاء الباقية من جسد التمثال في وقت لاحق بعد العثور عليها في برلين.
كانت المحفزات الكبيرة لنمو المجموعات الفنية والأثرية في المتحف - في عصره الذهبي كما الحال في عصرنا الراهن - من تمويل أثرياء مدينة نيويورك الكبار من أمثال جيه بي مورغان وروبرت ليمان، وغيرهما من الممولين الآخرين وأقطاب الصناعة في المدينة الذين ورثوا عن آبائهم الأذواق الفنية الرفيعة، فضلاً عن التزام عائلات نبلاء وأمراء أوروبا بالتبرعات المالية والفنية في أفضل الحالات. لقد كانوا عاقدين العزم على تحويل كل شيء إلى قطعة جمالية راقية - على حد تعبير مجازي من أحد أمناء متحف متروبوليتان للفنون الأوائل - ومن ثم يملك معرض «ولادة متحف» أكواماً مكدسة من أرقى التبرعات، من مصباح مسجد رائع للغاية يرجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي من ممنوحات مورغان إلى المتحف في عام 1917، إلى صورة مصقولة بديعة من أعمال الفنان فان دايك في عام 1636 تصور الملكة هنريتا ماريا ملكة إنجلترا وهي حامل، تلك اللوحة التي أوصت بها جاين رايتسمان إلى متحف متروبوليتان للفنون بعد وفاتها في العام الماضي.
انضم العديد من مسؤولي المتاحف، أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى الجهود المبذولة من أجل حفظ وفهرسة وإعادة الأعمال الفنية التي نهبتها القوات النازية. وكان من بين «رجال استعادة الآثار» - بالإضافة إلى العديد من النساء المشاركات - جيمس روريمر، مدير معرض «كلويستر» المفتوح (ثم مدير متحف متروبوليتان للفنون بأكمله)، الذي يعرض المتحف دفتر ملاحظاته الخاص، إذ يضم قائمة بالمسروقات الفنية التي تم العثور عليها في قلعة «نويشفانشتاين» الألمانية في عام 1945. وكذلك إديث ستاندين، أمينة المنسوجات في المتحف والضابطة العسكرية المرموقة التي كانت تشرف على إعادة الآلاف من الأعمال الفنية المنهوبة إلى متاحف برلين الحكومية. وتظهر صورتها هنا في سترتها العسكرية الصوفية الصارمة، حيث تحولت إلى جزء من معهد الأزياء الملحق بالمتحف.
تعكس المقتنيات التي جرى الاستحواذ عليها بحلول الذكرى المئوية للمتحف عملية الانفتاح على المجموعات الآسيوية والمقتنيات ذات الصبغة الإسلامية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن إنشاء جناح روكفلر لفنون أفريقيا، وأوقيانوسيا، والمواطنين الأصليين في الأميركتين، وذلك مع الاعتناء الواضح والمتزايد بالإبداع المعاصر والحديث. ولا بد من التوقف أمام لوحة «الضياء المتلألئ ليلاً» المفعمة بالحياة والحيوية من أعمال الرسام هان غان من سلالة تانغ الملكية الصينية القديمة، التي تصور في دقة بديعة حصاناً ناصع البياض مع لبدة شعر رأسه المتوهجة وفتحات أنفه المتسعة التي تنم عن قوة هائلة.
تقترح النتيجة النهائية المفتوحة لمعرض «ولادة متحف» استحداث بعض الأولويات الجديدة إلى أقسام المتحف الكبير. حيث تمكن فريق المنحوتات الأوروبية في المتحف من الحصول على بعض الآثار اليهودية من مدينة البندقية، كما تمكنت إدارة الآثار الإسلامية في المتحف من تأمين شراء أغطية الرأس الموشاة بالذهب لحاج من إندونيسيا، في حين يمتلك القسم الحديث في المتحف أعمالاً حديثة للنحات الغاني «إل أناتسوي»، والفنانة الهندية «مريناليني موخيرجي».
ومن زاوية التحدي الرئيسي أمام متحف متروبوليتان للفنون في عام 2020، لا يتعلق الأمر بما يتعين الاستحواذ عليه أو شراؤه من أعمال أو مقتنيات. ولكن بالطريقة التي ينبغي بها عرض تلك الأعمال والمقتنيات، وما إذا كان يمكن للمتحف الذي يبلغ عمره اليوم 150 عاماً أن يحافظ على قدر معتبر من الذكاء والمرونة والمهارة في صياغة ممارسات جديدة تتعلق بالبحث، والتفسير، والعرض.
من السهولة بمكان الوقوف على الثغرات الواضحة في مجموعة الأعمال العالمية المفترضة، ومن اليسير للغاية أيضاً نشر الأحكام التي عفا عليها الزمن لما تغافل عنه الأسلاف القدامى. لكن الأكثر صعوبة وبمزيد من الأهمية هو الانخراط التام في بنية التجميع العميقة: من أجل أن نفهم ما نقدره للغاية، وكيف نقدره، ولماذا نقدره، أثناء محاولة المتحف رسم المسار من المركزية الأوروبية القديمة وحتى الوجهة العالمية الحقيقية الراهنة. وتأكيداً للمعنى المثار، لقد تحولت مقتنيات متحف متروبوليتان للفنون إلى صبغة العولمة. وهي مقتنيات غير متورطة بصفة مباشرة في مجريات العنف الاستعماري على غرار المتاحف الإثنوغرافية المفعمة بالمنهوبات الأثرية والفنية من مختلف بلدان العالم في أوروبا الغربية.
ومع ذلك، إذا كان تطوير متحف متروبوليتان للفنون - كما يقول ماكس هولين مدير المتحف، «مرتبطاً بالمنطق المعروف بتفوق العرق الأبيض» - فما الذي ينبغي الاحتفال به على وجه التحديد في الذكرى السنوية 150 لتأسيس المتحف الكبير؟ وتكمن الإجابة - التي تؤكد عليها باير وفريق عملها في معرض «ولادة متحف» - ضمن الأشياء الجميلة ذاتها، وفي طبقات التاريخ المتراكمة خلال القرن ونصف القرن الماضي. وهذه الأعمال، التي تلمست سبيلها إلى مدينة نيويورك من كل أرجاء الدنيا، تحمل في طياتها ذكريات التقابلات، والصدامات، وندوب الماضي العنيف، والأسماء الجديدة، والأسعار الجديدة بطبيعة الحال. ولقد خضعت للتحول أثناء الحركة، ومن ثم فلقد اتخذت وضعاً مثالياً لرسم خريطة التقاطعات الزمنية والاعتماد التبادلي على مر التاريخ البشري.
- خدمة «نيويورك تايمز»



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».