في غياب الفارس تشادويك بوزمَن

جسد ثقافة وحضور الممثل الأسود في «بلاك بانثر» وسواه

 بوزمَن في العرض العالمي الأول لفيلم «بلاك بانثر» (أ.ف.ب)
بوزمَن في العرض العالمي الأول لفيلم «بلاك بانثر» (أ.ف.ب)
TT

في غياب الفارس تشادويك بوزمَن

 بوزمَن في العرض العالمي الأول لفيلم «بلاك بانثر» (أ.ف.ب)
بوزمَن في العرض العالمي الأول لفيلم «بلاك بانثر» (أ.ف.ب)

نظر تشادويك بوزمَن مباشرة إلى الكاميرا وحذر المشاهدين: «الكلام خلال العرض ممنوع. الهواتف يجب أن تكون مغلقة طوال الوقت. أنا أراقبكم».
مع نهاية العرض وتوالي العناوين، يخرج من عتمة الصالة وجه بوزمَن وهو يقول «ما زلت أراقبكم». حدث ذلك قبل عامين عندما عُرض «بلاك بانثر» في صالة «ألامو درافتهاوس» في مدينة أوستن، في ولاية تكساس. يومها لم يكن اسم تشادويك بوزمَن رناناً كما هو اليوم. كان خرج من تحت عباءة بضعة أفلام مستقلة ودور كبير واحد في «كابتن أميركا: حرب أهلية» (2016) قدم فيه شخصية بلاك بانثر لأول مرة.
هذا قبل أن ينفرد ببطولة الفيلم الحامل لاسم شخصيته لاعباً دور زعيم قبيلة أفريقية اسمه تشالا يتحول إلى محارب بلقب بلاك بانثر مدافعاً عن القيم الإنسانية وعن مملكته القابعة وسط الجزء الأعلى من أفريقيا.
- 14 فيلماً
في هذه الأيام تخال ظهور اسم ممثل أو مخرج أفرو - أميركي مرتبط بالحركة المناهضة للعنصرية التي تجوب الولايات المتحدة. هناك العديد من السينمائيين السود الذين صرحوا، لجانب آخرين بيض، بتأييدهم للاحتجاجات على ممارسة البوليس للعنف المفرط ضد السود والعنصرية التي ما زالت تُمارس ضدهم رغم الشوط الكبير الذي بلغته البلاد على صعيد المساواة بين أبنائها منذ ستينات القرن التاسع عشر عندما وقعت الحرب الأهلية للأسباب ذاتها.
لكن هذه المرة، لم يكن اسم تشادويك بوزمَن مرتبطا بأي موقف سياسي أو اجتماعي، ولا حتى بمشروع فيلم جديد. المفاجئ هو أنه كان مرتبطاً بخبر رحيله متأثراً بمرض السرطان الذي أنهكه منذ سنوات قريبة.
‫توفي بوزمَن كما سبق وتوفي أبطال أفلام سوبرهيرو من قبله: كيرك ألن (‬سوبرمان المسلسل الذي ظهر سنة 1948) وجورج ريڤز (لعب الدور في مسلسل تلفزيوني خلال الخمسينات) ولسلي ولسون (بطل نسخة 1943 من «باتمان») وبستر كراب (بطل مسلسل «فلاش غوردون»).
لكن الوقع كان جسيماً أكثر هذه الأيام مما كان عليه سابقاً مع رحيل آخرين قاموا بأداء شخصيات الكوميكس الخارقة. فمعظم الراحلين السابقين ماتوا بعد سنوات بعيدة من تمثيلهم الشخصيات الخارقة بينما يرحل بوزمَن وهو في أوج تألقه.
رحل بوزمن يوم أول من أمس (الجمعة)، قبل أن تُتاح له فرصة أداء العديد من الشخصيات والأدوار، ولكن في غضون الأفلام الأربعة عشر التي مثلها ما بين 2008 و2020 ترك وقعاً إيجابياً لدى الجمهور كما لدى المتابعين والنقاد.
خذ مثلاً دوره في Get on Up لاعباً شخصية جيمس براون، تجد أن بوزمَن جسد شخصية مغني الصول الراحل كما لو كان هو. المسألة عند بوزمَن، في ذلك الفيلم الذي أخرجه تايت تايلور سنة 2014. لم تكن لعب دور رجل آخر، بل إقناع المشاهدين بأن الرجل الآخر ليس سوى بوزمَن نفسه.
وكان لعب شخصية حقيقية أخرى قبل دوره هذا بعام واحد. الفيلم هو «42» الذي دار حول لاعب البايسبول الأسود جاكي روبنسون الذي كان أول أفرو - أميركي يمارس اللعبة الأميركية الشهيرة محققاً فيها نجاحاً أدى به إلى شهرة كاسحة.
عبر هاتين الشخصيتين المتجذرين في الثقافة الشعبية الأميركية كل في صعيد مختلف (الغناء والرياضة) وعبر تمثيله لشخصية بانك بانثر في فيلم بز مستواه بعض أفضل ما حققته هوليوود من أفلام كوميكس، سعى بوزمَن لتأدية شخصيات تترك تأثيرها الوجداني في الذات.
قبل إطلاق «بلاك بانثر» بأسابيع قليلة صرح قائلاً لمجلة «ذا هوليوود ريبورتر»: «آمل أن يرى الناس البطل الذي في داخلهم. أن يفكر بنفسه إنه يستطيع أن يكون بطلاً إذا أراد حتى ولو كان المشاهد أبيض البشرة فإن الالتقاء به سيغير ولو قليلاً ما يقوم عليه مجتمعنا».
- بلاك بانثر
لكن إذا لم يسع بوزمَن لتأدية شخصيات تترك تأثيرها الوجداني كما هو مُعتقد، فإنه حقق هذا السعي تلقائياً.
امتلك بوزمَن ما أهله لذلك: وجهٌ بملامح جذابة. قامة أعلى من متوسطة. جسد نحيف ورياضي. ابتسامة لطيفة وجدية مقبولة وغير مصطنعة. هذا على السطح. أما في الداخل، ولمن رأى ولو بعض أفلامه، فقد عكس حرارة عاطفية وحيوية تلقائية. تسلل بلا جهد إلى تحت جلد شخصياته وأدى الأدوار بتفهم عميق خصوصاً لحقيقة أن كل من روبنسون وبراون هما من لون بشرته وصميم ثقافته.
لعب بوزمَن الرياضة في شبابه الأول واستمع إلى الصول ميوزك معاً. كتب مسرحية عن العنصرية بعنوان «تقاطع طرق» لكنه دلف إلى تعلم التمثيل والإخراج. لاحظته الممثلة فيليسيا رشاد (إحدى الوجوه الدائمة في المسلسل التلفزيوني الكوميدي The Cosby Shaw) التي كانت تدرس مادة التمثيل وهي التي جمعت ما يكفي من المال لإرساله (وبعض رفاقه) إلى لندن لدراسة التمثيل الدرامي هناك. لاحقاً ما علم أن الممثل دنزل واشنطن هو الذي دفع معظم تكاليف الدراسة.
هذا كله قبل انتقاله، سنة 2008 إلى مدينة لوس أنجليس حيث باشر السعي الدؤوب باحثاً عن الأدوار. تمثيله لفيلم «42» كان نقطة تحول وقعت بعد أربع سنوات من تلك النقلة إلى مدينة الأحلام. زوجة الرياضي روبنسون لاحظته وهو يمعن التفكير في كل صورة فوتوغرافية محفوظة لديها حول الرياضي الراحل. قالت لمحدثها «كان ممعناً بكل صورة دارساً لكل تفاصيلها كما لو كان على تواصل مع روح صاحبها».
في «كابتن أميركا: حرب أهلية» (2016) كان ظهوره الأول كبلاك بانثر. دور كان الممثل وسلي سنايبس يرغب في تجسيده وسعى إلى ذلك طوال التسعينات وكاد أن يحقق حلمه لولا خلاف دب بينه وبين المخرج المقترح لذلك المشروع وهو (الراحل جون سينغلتون).
عرف بوزمَن بأن هوليوود اختارته لدور بلاك بانثر وهو في برلين. طار للتو عائداً إلى هوليوود والتقى بمخرجي «كابتن أميركا: حرب أهلية» أنطوني وجو روسو. واستقبل الفيلم جيداً كذلك تألق شادويك بوزمَن فيه على نحو خاص.
بعد «بلاك بانثر» (2018) ظهر في «أفنجرز: حرب أبدية» (2018) و«أفنجرز: إندغيم» (2019) محافظاً على رونق شخصيته وتألقها. كيف لا وهو كان على موعد لأداء جزء ثان من «بلاك بانثر» في العام المقبل.
الصورة الأخيرة التي ستبقى ماثلة لبوزمَن هي تلك المأخوذة لدوره في Da 5 Bloods الذي حققه سبايك لي وعرضته «نتفلكس» هذا العام. فيه لعب شخصية الكابتن نورمان الذي يترك على محيطه من الجنود الأفرو - أميركيين خلال الحرب الفييتنامية، أثراً كبيراً كونه كان الأعلى ثقافة منهم والأكثر شجاعة أيضاً.
- شرف كبير
صدى رحيل بوزمن بلغ الحجم المتوقع والمناسب.
«كان رحيله ساحقاً بلا ريب». قال كَڤن فيج، رئيس ستديوهات مارڤل التي أنتجت الفيلم مضيفاً: «كان فارسنا تشالا وصديقنا العزيز. كلما دخل مكتبنا أشاع الكاريزما والمرح».
فيلسيا رشاد أشادت به في دورها وتذكرت: «لم يطلب مني أن أساعده في الوصول إلى أي مشروع عمل، أو التوسط مع أي منتج لكي يمنحه فرصة التمثيل. كان عليه أن يحقق ما يريده لنفسه بنفسه».
الممثل مارك روفالو كتب مغرداً: «يا له من شرف كبير أني عملت معك وتعرفت عليك. كنت إنساناً مخلصاً وكريماً. آمنت بالطبيعة الخاصة للعمل».
وعلى غراره كتبت الممثلة كمالا هاريس: «قلبي مكسور. صديقي شادويك كان بديعاً ولطيفاً ومثقفاً ومتواضعاً. رحل باكراً، لكن حياته عنت الكثير خلال وجوده».
على غرار هؤلاء نعاه دنزل واشنطن وهالي بيري وكريس برات ورئيس ستديوهات ديزني (التي شاركت مارڤل تمويل «بلاك بانثر»)، وكارل ويذرز وشارون ستون وكڤن سميث وسواهم.
ولم يكن نقاد السينما بعيدين عن تقدير موهبته بدورهم ولا غاب حضوره عن جمهور الشباب الذين تحلقوا حول «بلاك بانثر» فأنجز عالمياً بليونا و347 مليون دولار. وكان الفيلم الأول الذي دخل العروض السينمائية في المملكة العربية السعودية قبل عامين ونيف.
سُئل ذات مرة عن أصعب ما واجهه خلال تمثيله شخصية «بلاك بانثر» فأجاب: «نقل الثقافة الأفريقية إلى الشخصية ذاتها». مهمة هي أصعب بلوغاً من أي مهمة أخرى يمكن لأي ممثل القيام بها، لكن تشادويك بوزمَن حققها.


مقالات ذات صلة

مهدي حسن: فيلمي «مدينة الرمال» يرصد هشاشة الحياة في الحضر

يوميات الشرق يُعرض الفيلم للمرة الأولى في المنطقة ضمن فعاليات «القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)

مهدي حسن: فيلمي «مدينة الرمال» يرصد هشاشة الحياة في الحضر

قال المخرج البنغالي، مهدي حسن، إن فيلمه «مدينة الرمال» انطلق من إحساسه العميق بالمدينة التي وُلد فيها ونشأ بين أحيائها.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة لأحد مَشاهد الفيلم (القاهرة السينمائي)

جدل واسع يُرافق عرض «كان ياما كان في غزة» في «القاهرة السينمائي»

شارك الفيلم سابقاً في مهرجانات عدّة، ونال مُخرجاه جائزة أفضل إخراج في مهرجان «كان السينمائي».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الشيب صار جزءاً من الحكاية (أ.ب)

جورج كلوني يتحايل على الشيب ويُحوّل العمر إلى بطولة جديدة

يؤدّي نجم هوليوود جورج كلوني في فيلمه الجديد «جاي كيلي» دور ممثل متقدّم في السنّ يلجأ في خريف مسيرته المهنية إلى بعض الحيل التجميلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نحن نجرؤ على الحلم» الفيلم الوحيد الموقَّع عربياً من المخرجة وعد الخطيب (تقاطعات)

«تقاطعات»... التقاء الثقافات عبر السينما البريطانية

الهدف من إقامة المهرجان هو فتح حوارات مع صنّاع السينما المحلّية...

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق يعرض الفيلم للمرة الأولى ضمن فعاليات مهرجان القاهرة (الشركة المنتجة)

مارتا بيرغمان: «الركض الصامت» معالجة إنسانية لـ«الهجرة غير المشروعة»

قالت المخرجة البلجيكية، مارتا بيرغمان، إن فيلمها الجديد «الركض الصامت» انطلق من رغبة عميقة في إعادة توجيه البوصلة نحو الأصوات التي تعيش في الظل.

أحمد عدلي (القاهرة )

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».