دافنشي... بماذا غيَّر العالم؟

سيرة جديدة تتقصىآثاره بعد مرور خمسة قرون على رحيله

دافنشي... بماذا غيَّر العالم؟
TT

دافنشي... بماذا غيَّر العالم؟

دافنشي... بماذا غيَّر العالم؟

هناك من يعدّه أعظم فنان في التاريخ، لكن المؤكد أنه وبعد مرور خمسة قرون على وفاته كان أكثر من مجرد رسام عبقري، فهو نحات ومخترع سابق لعصره وعالم فذ في الهندسة المعمارية والجيولوجيا والفلك والتشريح والرياضيات.
إنه ليوناردو دافينشي الذي يسعى كتاب «تراث دافينشي – كيف أعاد ليوناردو اكتشاف العالم من جديد» للباحث الألماني ستيفن كلاين، إلى إلقاء الضوء على جوانب جديدة من مسيرة مدهشة لرجل متعدد المواهب والاهتمامات.
استهل الكتاب الصادر في القاهرة حديثاً عن المركز القومي للترجمة ونقلته إلى العربية ناهد الديب، فصوله بالبحث عن سر ابتسامة «الموناليزا» التي أبدعها دافينشي في واحدة من أشهر اللوحات على مر العصور. ويشير المؤلف إلى أن ليوناردو تمكن من اللعب بمشاعرنا بمهارة بالغة لأنه كان يراقب الأشياء بطريقة شديدة الدقة، «كانت تلك موهبته الفريدة، فقد لفت نظره مثلاً أن قطعة الخشب المحترقة التي تتطاير في الهواء تترك ومضة ضوء في عين من يراقبها وتمكن من تحديد مدة تلك الومضة وعوامل بقائها في الذاكرة». كما وصف في مدوناته حركة اليعسوب قائلاً: «يطير بأربعة أجنحة، عندما يرتفع زوج الأجنحة الأمامي، فإن زوج الأجنحة الخلفي يتجه إلى أسفل»، وقد أثبتت الصور المأخوذة بالكاميرات الحديثة ذات السرعة العالية أن دافينشي كان يسير في الاتجاه الصحيح، فأجنحة اليعسوب تتحرك فعلاً على هذا النحو، وأن زوج الأجنحة الأمامي يسبق الخلفي بمدة تقدَّر بواحد على ثمانين من الثانية.
ويؤكد كلاين أن ليوناردو عدّ النظر هو أصل المعرفة، إلا أنه كان بعيداً كل البعد عن أن يثق بعينيه ثقة عمياء. ولما كان يراقب الأشياء بدقة فقد كان يعلم أيضاً كيف يمكن لحواس البشر أن تخدعه، لذلك سجل في مواقع كثيرة من مذكراته أن هناك أشياء لا يمكن أن تكون على نحو ما نراها، فقد لفت نظره مثلاً أننا نرى المباني من خلال الضباب أكثر حجماً أو أننا نرى من خلال منطقة صغيرة فقط من مجال رؤيتنا بشكل حاد وواضح، ولاحظ أيضاً أن الألوان على حافة أي مساحة تبدو أوضح وأكثر حيوية عنها في وسط المساحة.
ويوضح كلاين أنه من هنا عمل ليوناردو سنوات طويلة على إيجاد أساس أكثر صلابة لقواعد المنظور فقادته دراسته إلى البحث في قوانين الضوء، حيث استطاع أن يثبت أن الشيء يظهر بنصف حجمه فقط إذا ما وُضع على بُعد ضِعف المسافة من المشاهد.
ورغم عدم قبول كبار علماء العصور القديمة وحتى معاصريه لهذا الرأي فقد أطلق ليوناردو على هذه القاعدة التي تؤكد أن حجم الأشياء يكبر ويصغر تبعاً للمسافة «قانون الهرم»، أي إذا ما رسمنا حزمة ضوء تخرج من عين المشاهد حتى يصل إلى أركان الشيء الذي أمامه فإن الناتج يكون على شكل هرم.
على هذه الخلفية يفسر المؤلف لماذا تجذبنا لوحة الموناليزا، فمبدعها استخدم في رسم تلك المرأة القواعد الضوئية الكثيرة التي اكتشفها بنفسه بحيث تبدو لنا في بعض اللحظات كما لو كانت كائناً غير ذي جسد وإذا ما تأمل المشاهد في خلفية اللوحة فإنها تتحول إلى شبح يهيم في الأثير بين ذاته والطبيعة اللانهائية.
وهكذا تشترك الموناليزا مع الاتجاه الحديث لتخليق الصور صناعياً عبر الأفلام وتقنية «الفيديو أرت» أكثر مما تشترك مع الرسم التقليدي الذي ساد في زمن دافينشي. أما في حالة الضوء المسلط على اللوحة فإنه لا يبدو لنا من الوهلة الأولى حقيقياً لأنه مَن يدقق النظر يكتشف أن هناك شيئاً ما غير سليم، فالسيدة تجلس في شرفة ويتضح ذلك من قواعد الأعمدة التي تظهر بالكاد في أركان اللوحة، وبالتالي فالمنطقي أن يأتي معظم الضوء من الجانب المفتوح من الشرفة والمطل على المنظر الطبيعي في الخارج، أي إنه من المفترض أن تظهر لنا الموناليزا في مواجهة الضوء، ولكنّ هذا لا يحدث وإنما يحدث العكس. فالضوء لا يتدفق في هذا الجانب بل تحديداً من الجانب الذي كان يجب أن ينعكس فيه الظل من السقف.
- مواجهاً علماء عصره
من المعروف أن ليوناردو كان لا يجيد استخدام اللغة، حيث إنه لم يلتحق يوماً بمدرسة عليا وكان يتحدث بلهجة أهل وطنه في مقاطعة توسكانيا بإيطاليا، لكنه بدأ في توسيع حصيلته اللغوية بشكل منتظم، فعكف على حفظ كلمات اللغة الإيطالية رغم تخطيه عامه الخامس والثلاثين. ويذكر المؤلف أنه في مخطوطه «تريفوليسانوس» والتي تضم مجموعة مذكراته خلال سنوات إقامته بميلانو نعثر على قوائم لا حصر لها من كلمات اللغة الفصحى، ولما كان تحسين أسلوب التعبير اللغوي سيساعده في أعماله العلمية فقد قام ليوناردو بجمع ما يزيد على 67 مصطلحاً تختص بحركة الماء دون غيرها، فتحدث عن تقاطع الماء وعن فوران الماء وتمدده وكذلك عن قوة طرد الماء، وميّز بوضوح بين الدوران والإزاحة كما ميّز بين تلاقي تيارين وبين المزج.
كان ليوناردو يعلم أن علماء الجامعة لن يضعوه في مصافهم أبداً وبناءً على ذلك قرر أن يقوم بهجوم مضاد قائلاً: «أعلم تمام العلم أنه يمكن لأي شخص متعجرف تصور أنه يمكن أن يعيب عليَّ كوني رجلاً غير متعلم، يا لهم من أغبياء! إلا أن علمي لا ينبع من كلمات الغير وإنما من تجاربي التي تعد هي المعلمة لهؤلاء الذين أجادوا الكتابة»!
كان ليوناردو يرغب في كتابة أعمال لا تعتمد على المعلومات المتوارثة وإنما على إدراكه وملاحظته بنفسه وكان يعلم أن سنده في ذلك هو شخصية لها مكانتها، ألم يعد الفيلسوف أرسطو التجارب الحسية هي أساس كل معرفة حقيقية؟
- الهوس بالحرب
وينتقل بنا المؤلف إلى ملمح آخر من ملامح عبقرية دافينشي وتناقضاته، وهو هوسه بالحرب، فعلى مئات الصفحات قام ليوناردو برسم تصميمات لا تهدف إلا للقتل: أقواس عملاقة، أسلحة سريعة الإطلاق بتجهيزاتها، حتى إنه يمكن بها قصف الحصون وتدميرها تماماً، ولم يكتفِ بتسجيل تقنيات هذه الأسلحة بل عرض التأثير المدمر لاكتشافاته، وظهر في رسوماته رماة النبال وهم يهربون من قنبلة تنفجر، والتي وصفها بأنها أشد الأسلحة فتكاً. وفي رسم آخر ظهرت عربة حربية تدور فوقها مناجل في حجم الرجال فتحصد الجنود وتترك وراءها ساحة مليئة بسيقان المحاربين وأشلائهم.
ويظهر أسلوب ليوناردو مخيفا عندما يعرض خطط المعارك التي وضعها، ففي الصفحة 69 من المخطوطة B المحفوظة في باريس يرد الحديث عن الإعداد لحرب حامية الوطيس وفيها يتم من خلال مقاليع صغيرة قذف مسحوق مكون من الجير والزرنيخ والزنجار (النحاس) على السفن المعادية فيؤدي استنشاق هذا الغبار إلى الوفاة فوراً! وهنا نقرأ له: «ولكن كن حريصاً إلا أن تكون الريح في اتجاهك حتى لا يؤدي إلى عودة الغبار إليك أو يمكنك أن تغطي أنفك وفمك بقطعة مبللة من قماش رقيق لا ينفذ الغبار لداخلك».
لم يكتف ليوناردو بوضع الخطط فقط بل شارك بحماس في حروب عصره، حيث عمل في خدمة سيزار القائد المستبد الذي اشتهر بتعطشه للقتل! والسؤال: كيف يمكن لمثل هذه الأفكار الدموية والاختراعات المميتة أن تتناسب مع رجل كان يطلق الطيور لشدة عطفه؟ هنا يجيب دافينشي بنفسه مبرراً: «حفاظاً على أكبر هدية منحتها لنا الطبيعة ألا وهي الحرية فإنني أبتكر وسائل هجوم ودفاع لاستخدامها في حالة تعرضنا لهجوم من طغاة يطمعون في التفوق علينا!».
- الحلم بالطيران
لم يرَ دافينشي في حكايات «الرجل الطائر» مجرد أسطورة تقال على سبيل تزجية الوقت وإنما بوصفه شيئاً مشروعاً لدى البشر، فقط يتطلب آلة تمكن الإنسان من محاكاة رشاقة الطائر التي لا مثيل لها وهو يرتفع في السماء، فالطيران يمزج بين الجمال والعملية، بين الفن والتقنية، ويخلق اكتشافاً جديداً. ولهذا أخذ يُكثر من مراقبة الطيور الجارحة بدقة بحيث يمكن التعرف على أساس ميكانيكا حركتها كما كان عليه أن يقوم بحصر عدد ضربات جناح الصقر التي يحتاج إليها للانقضاض على فريسته، وكيفية إعداد جناحيه للطيران وحيداً في مواجهة الجاذبية الأرضية.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة