«الوجه القبيح» للعلم

كتاب جديد يستعرض عمليات الاحتيال والتحيّز في ميدان الأبحاث العلمية

«الوجه القبيح» للعلم
TT

«الوجه القبيح» للعلم

«الوجه القبيح» للعلم

عندما يتحدث الناس عن العلوم الحديثة فإنهم يذكرونها بإجلال فريد، وكأنهم يميزون حكمة الحقيقة عن الحقائق الأخرى الناقصة، أو المتحيزة، أو حتى المزيفة التي تزخر بها «معارف» اليوم المتناقلة في شتى محافل الإعلام المطبوع والمسموع والمرئي وعلى منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية. إلا أن للعلم الحديث، كما لكل مناحي العلوم التي سبقته، مثالب ونقائص عديدة ترتبط بالتحيز الذاتي أو خرق أخلاقية البحث أو الانصياع لأوامر الساسة والحكام، وكذلك الشركات الكبرى.
ويأتي كتاب «العلم المُخْتَلَقْ: كيف يؤدي الاحتيال، التحيز، الإهمال، والتضخيم إلى تقويض البحث عن الحقيقة» لمؤلفه ستيوارت ريتشي في وقت يحتاج فيه العالم اليوم إلى جهود العلماء للكشف عن وجه العلم الحقيقي الناصع لمواجهة جائحة «كوفيد - 19»، ومواجهة هجمات والتواءات السياسيين الذين يريدون ركوب موجة الوباء لمصالحهم.
ورغم أن عنوان الكتاب «Science Fictions» يعني «خيالات علمية»، فقد فضلت اختيار تعبير «العلم المختلق»، فالوقائع تختلق كما تختلق الأساطير!
يناقش ستيوارت الباحث في علم النفس بجامعة «كنغز كوليدج - لندن» الذي سبق له أن نشر كتاباً حول «قياسات حاصل الذكاء»، في كتابه الجديد ما يواجهه العلم من مشاكل في القرن الحادي والعشرين، مشيراً إلى أهمية الاقتداء بأربعة مبادئ أساسية لـ«أخلاقيات العلم» وضعها العالم روبرت ميرتون عام 1942 وهي: مبدأ «شمولية العلم»، الذي يعني أن قواعد العلم موضوعية عالمية الشمول، تطبق على كل العلماء مهما كانت مراتبهم.
والمبدأ الثاني «جماعية العلم» بمعنى وجوب التشارك بنتائج الأبحاث ونشرها. أما المبدأ الثالث فهو «النزاهة»، أي أن أبحاث العلوم تجرى بهدف الحصول على المعرفة وليس الكسب الشخصي. والمبدأ الرابع والأخير هو «التشاؤم المنظم»، وهو يعني أن أي نتائج يجب أن تخضع للتدقيق والتحقق من صحتها قبل أن يتم اعتمادها. هذه المبادئ ليست جديدة على العلم إذ كتب بليز باسكال العالم الفيزيائي الفرنسي في القرن السابع عشر يقول: «أثناء دراسة الحقائق، يمكن أن توجد ثلاثة اتجاهات هي: اكتشاف الحقيقة عند البحث عنها، والبرهنة عليها عند العثور عليها، وفصلها عن الدجل عند تحليلها»، فيما قال ألبرت أينشتاين بعد ثلاثة قرون من ذلك: «توجد هناك في نهاية الأمر حقيقة واحدة وكثير جداً من الطرق الخاطئة... ومن أجل الانتصار ينبغي علينا الإخلاص للعلم كل ساعة من حياتنا رغم الفرص الصغيرة للنجاح».
يؤكد ريتشي في بداية كتابه على أن اتباع هذه المبادئ يعني موثوقية النتائج العلمية وصحتها، ثم يخصص باقي الكتاب لتوضيح إخفاقات العلم الحديث بسبب انعدام الالتزام بتلك القواعد. ويسرد أمثلة الإخفاقات العلمية القديمة والحديثة، مثل عملية احتيال ويليام سمرلين الباحث في الأمراض الجلدية الذي ادعى عام 1974 أنه زرع جزءاً من جلد فأر أسود في جسم فأر أبيض من دون حدوث تفاعلات مناعية مضادة، إلا أن أحد العاملين في مختبره اكتشف أنه لوّن الجزء المزروع بقلم أسود اللون.
وفي بداية القرن الحالي ادعى هوان وو - سوك العالم البيولوجي الكوري الجنوبي الشهير عام 2004 أنه استنسخ أجنة بشرية وحصل على سلالات من الخلايا الجذعية بمقدورها معالجة أي عضو متضرر من أعضاء الجسم. وظهر كذبه فيما بعد، إذ لم تكن أبحاثه سوى عملية احتيال تصويرية بتوظيف أحد البرامج الإلكترونية.
إلا أن الكاتب يمنح لقب «أكبر عملية احتيال علمي ضارة في كل الأزمان» للادعاء الذي طرحه الدكتور أندريو ويكفيلد الذي زعم أن التوحد يمكن أن ينجم عن حقن اللقاح الثلاثي للحصبة والنكاف والحصبة الألمانية. وقد حور ويكفيلد دراسته 12 من أطفال التوحد المنشورة عام 1988 في مجلة «لانسيت» العلمية المرموقة، وكيَف نتائجها لتطابق مع نظريته. وقد أدت فضيحة ويكفيلد التي اكتشفت لاحقاً إلى عواقب كبرى بسبب هذا «العلم القبيح» حسب تعبير المؤلف، حيث أخذت مجموعات مختلفة من السكان بالامتناع عن تطعيم الأطفال باللقاح مما أدى إلى وفاة 140 ألف طفل من الحصبة عام 2018 وحده.
كما ينوه المؤلف بإخفاقات الأبحاث العلمية التي تحاول دعم النتائج أو تكيّفها بإحصاءات مقبولة أو تلك التي تجرى على مجموعات قليلة جداً من الأفراد أو حيوانات الاختبار. ونوه بصعوبات إعادة اختبار نتائج الدراسات النفسية لوجود مشاكل إحصائية تحمل سمة التحيز. وأكثر ما يثير القلق في هذا الشأن هو «أزمة إعادة الاختبار» كما يسميها المؤلف، التي عانى العلم منها خلال العقد الأخير من الزمن. إذ رصد الباحثون أعداداً هائلة من الدراسات، منها الكثير من الدراسات الأساسية، التي لا تأتي بنفس النتائج عند تكرار اختبارها. وانطبق هذا بشكل كبير على الدراسات الطبية والنفسية. ويقول المؤلف إن تجارب لإعادة اختبار نتائج 53 دراسة مختبرية رائدة أجريت على عقاقير لمحاربة السرطان حققت نتائج مماثلة... لـ6 دراسات فقط. كما رصد أحد الاستطلاعات للنتائج العلمية حالات تلاعب بالصور في 4 في المائة من 20 ألفاً من الدراسات.
أما في علوم الأعصاب فقد ظهر أن 10 في المائة من الدراسات كانت خاطئة بسبب الإعدادات السيئة لأحد البرامج المستخدمة في أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي. ويذهب المؤلف في تشكيكه بالعلماء إلى حدود بعيدة، فهو يذكر القراء بأن إسحق نيوتن قال كلمته الشهيرة إنه رأى المستقبل لأنه «كان يقف على أكتاف العمالقة»، أما علماء اليوم فإنهم «ربما يقفون على أكتاف عمالقة بأرجل من خزف»، وفق المؤلف. ويشير إلى ضرورة إضفاء الشفافية على مسيرة مؤسسة العلم العالمية لفضح المواطن الضعيفة فيها.
إلا أن ريتشي لم يمنح مؤسسة العلم قدرها من الاستحقاق، إذ إنها تمكنت مع الهفوات التي رافقت مسيرتها من فضح الاحتيال ونتائج الأبحاث الملتبسة. ويقول جيمس ماكوناتشي في استعراضه للكتاب على صفحات «صنداي تايمز» البريطانية إلى أن الكاتب يلعب «لعبة خطرة» بتصويره العلم كمنظومة كثيرة العيوب مما يزيد من صعوبة إقناع الجمهور بمشاكل التغيرات المناخية وأهمية التطعيم باللقاحات. لكن كريستي أشواندن الناقدة العلمية في موقع «وايرد» الإلكتروني ترى أن ستيوارت نجح في إقناع القارئ بأن العلم لم يصل إلى مصاف المثل العليا له.
ويهاجم المؤلف دور نشر المجلات العلمية وطرق تمحيص المشرفين عليها للمقالات العلمية ومنظومة منح الجوائز، ويتهم المشرفين على تدقيق الأبحاث قبل نشرها بالتحيز، وبالفعل رصدت حالات لتقييم الباحثين أنفسهم لنتائجهم بشكل خفي. والأهم من ذلك هو أن الأبحاث التي تقدم نتائج غير مرجوة... لا تنشر! ربما لأنها لا تفيد الجهات التي مولتها. أما التضخيم فيجري على قدم وساق. ويقول ستيورات إن وسائل الإعلام تأخذ أحد جوانب البحث لتضخمه إلى أبعد الحدود، ويشير إلى أن هذا التضخيم ينطلق أساساً في أكثر الأحيان من الباحثين أنفسهم ومؤسساتهم العلمية. كما يهاجم الكتب العلمية الموجهة للجمهور التي تضخم الأفكار العلمية دون التمعن فيها.
ومع كل هفواته وعيوبه على مدى التاريخ فإن العلم يبقى منظومة تتجسد فيها روح الإخلاص في البحث عن الحقيقة المجردة والمنزهة عن الأغراض الشخصية وطموحات المجموعات الحاكمة. وأذكر هنا صيحة أطلقها أحد علماء الاتحاد السوفياتي السابق في أوج الحرب الباردة في خمسينات القرن الماضي مناشداً العالم الانصياع لحكمة العلم: «كفى مجداً للإسكندريين... وليحيا الأرخميديون»، نسبة إلى القائد الفذ الإسكندر المقدوني، والعالم الشهير أرخميدس.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.