قبيل وفاة المخرج البريطاني آلان باركر قبل يومين، أثيرت مسألة إعادة ترميم وإطلاق فيلمه «ميدنايت إكسبرس» (1978) على أسطوانات دي في دي. لم يكن طرفاً مباشراً في هذه المسألة التي تبدو كما لو أنها باتت أمراً محتوماً، علماً بأن الفيلم خرج على أسطوانات قبل أقل من سنة سابقة جنباً إلى جنب مع أفلام أخرى له من بينها «بغزي مالوني» (1976).
«ميدنايت إكسبرس» دار حول سجون التعذيب التركية من خلال سرد حكاية جرت أحداثها في الواقع عندما تم إلقاء القبض على أميركي شاب (الراحل براد ديفيز) قبيل سفره عندما وُجد في حوزته نحو 2 كيلو من الحشيش. يفرد الفيلم من هنا مشاهد للعنف الذي يتعرّض له الشاب بصرف النظر عما وُجد بحوذته. عن السجانين والسجناء الآخرين والعيش تحت سطوة البعض من الطرفين. عن منعه من حقوقه والاعتداء عليه وكل ما تسنى للسجّانين القيام به لمحو كبريائه وإذلاله.
شق الفيلم الآراء على نحوين: البعض وافقه ووصفه بالجريء والمهم فنياً وسياسياً، والبعض وجد فيه نعرة ضد الإسلام عموماً وليس نقداً للأتراك وحدهم.
في حين أن عروض الفيلم اللندنية (في مثل هذا الشهر سنة 1978. لم تكن احتفائية إلا أن مهرجان «كان» طلب الفيلم لمسابقته في الشهر الخامس من العام ذاته وأدخله مسابقته. لم يفز بجائزة هناك لكن في العام التالي خرج آلان باركر بجائزة بافتا كأفضل مخرج.
- التحوّل الكبير
وُلد من أبوين عاملين في الرابع عشر من فبراير (شباط) سنة 1944. والدته خيّاطة ملابس ووالده دهّان ومنزل والديه كان في عمارة من ممتلكات الحكومة في بلدة أيسلينغتون، شمالي لندن. في شبابه قنع باركر بحياة الطبقة الدنيا واستكمل دراسته شاباً من دون طموحات فنية من أي نوع. هذا استمر إلى أن تعلق بهواية التصوير الفوتوغرافي في أواخر الخمسينات.
عندما أخذ بالبحث عن عمل يعتاش منه وجد حاجته في شركة إعلانات. خدم فيها كـ«أوفيس بوي». كان العمل هناك دافعاً لكي يحاول الكتابة وما هي إلا فترة وجيزة حتى تمّت ترفيته قبل انتقاله إلى وكالة إعلانات أكبر. خلال عام 1967 التقى بالمنتج ديفيد بوتنام الذي شجّعه على كتابة السيناريو ولاحقاً ما أنتج له عدداً من أفلامه. تعرّف كذلك على المنتج آلان مارشال واستفاد كذلك من توجيهاته ولاحقاً من قيامه بتمويل أفلامه.
بذلك يكون باركر من بين جيل عمد إلى الأفلام الدعائية كسبيل للوصول إلى العمل في السينما. بالنسبة إليه كان تحقيق الأفلام السينمائية ما زال غير وارد إلى أن قام سنة 1973 بإنجاز فيلمه الأول «بلا مشاعر قاسية» (No Hard Feelings).
لم يكن تحقيق هذا الفيلم (الذي يدور حول الغارات الألمانية على مدينة لندن خلال الحرب العالمية الثانية) سهلاً. رهن باركر منزله واستدان وحقق الفيلم ولم يجد من يعرضه إلى أن اشترته محطة BBC. بعد ذلك أمضى ثلاث سنوات يحاول إنجاز فيلمه الثاني الذي اختاره موسيقياً وهو «بغزي مالوني» (حكاية عصابات أميركية مع غناء وموسيقى ومشاهد استعراض مسرحية).
ميزة الفيلم هي إسناد كل شخصياته إلى ممثلين أطفال. عوض الرصاص، يتبادل الأطفال رمي قطع الحلوى على بعضهم بعضاً. عوض العنف يدخل الأولاد في سلسلة حوارات والغرام والقبل ممنوعة لكن الإعجاب العاطفي مسموح.
«بغزي مالوني» لم يكن، عند هذا الناقد على الأقل، من النوع الذي يتميز بتألّق فني، لكنه كان رهاناً ناجحاً دلف المخرج عبره إلى عرين أكبر من الإنتاجات بدءاً من «مدنايت إكسبرس». في الأساس آمن باركر بالسينما التي يقبل عليها الجمهور كأساس. قال في مقابلة خاصّة بعد سنوات «نعم. النوعية عليها أن تكون جيدة بالمعيار التقني وعبر طريقة سرد تستوعب توظيف كل ما من شأنه جذب انتباه الجمهور من دون أن يتبدد اهتمامه بمضامين أخرى غير ضرورية».
للناقد البريطاني بيتر برادشو، قال: «ما عانته السينما البريطانية هو محاولة إنتاج أفلام فنية وليس تجارية». البعض قد لا يجد ذلك بالضرورة صحيحاً.
- في هوليوود
في هوليوود حقق باركر فيلمه الموسيقي الثاني «شهرة» (Fame) سنة 1980. فيلم آخر ناجح بمعيار الإيرادات، لكنه من أسوأ ما أقدم عليه باركر من أعمال. هذه المرّة وزّع البطولة على عدد من الممثلين المراهقين، قليل منهم استكمل درب السينما بنجاح فيما بعد.
فترته المختصرة (نسبياً) في هوليوود مكّنته من الاستمرار في تحقيق أفلام من نوعيات مختلفة، موسيقية وجنائية وفانتازية.
من بين الجيد من أفلامه في تلك الآونة «شوت ذا مون» دراما عن سعي امرأة للبقاء على قيد الحياة وإعالة أولادها بعد خلاف مع زوجها. هناك سلاسة في سرد هذا الفيلم ذي الأسلوب الرقيق، لكن أفضل ما فيه الممثلان ألبرت فيني وكارن ألن. أما ممثلته الرئيسية الثالثة، دايان كيتون، فلم تكن أكثر بكثير من الصورة الجميلة لجذب الأنظار وتحلية المصاعب بابتسامتها العريضة من حين لآخر.
اشتغل باركر على أفلام فيديو موسيقية (بينها اثنان حول فريق «بينك فلويد») ثم عاد للإنتاج السينمائي عبر «بيردي» (1984)، فيلم مثير للاهتمام مع ماثيو مودين في دور مجند عاد من فييتنام متأثراً نفسياً بما شهده من عنف وقتل ودخل غيبوبة الفانتازيا بأنه يستطيع التحليق كطير.
أفضل ما عند باركر ورد بعد ذلك بدءاً بفيلم «أنجل هارت» (1987) مع روبرت دينيرو و(الغائب عن الإنتاجات الكبيرة رغم موهبته) ميكي رورك. قصّة بوليسية داكنة يستأجر فيها دينيرو خدمات أورورك للبحث عن فتاة صماء (ليزا بونيت) قبل أن يتبين للمحقق بأن هناك جريمة قتل كبيرة وخدعة تورط فيها ستعرض حياته للخطر.
في العام التالي أنجز فيلماً ضد العنصرية بعنوان «مسيسيبي بيرنينغ» (Mississippi Burning) حول تحريان من الـ«أف بي آي (جين هاكمن وويليام دافو) يصلان إلى إحدى مدن الولاية للتحقيق في اختفاء دعاة حقوق إنسانية بظروف غامضة. جيد كمنوال عمل وكمضمون لكنه من النوع الذي يحمل فيه المطرقة ليثبّت أقواله ومبادئه عوض أن يسردها بنفاذ ومن دون شعارات مدوية.
«إيفيتا»، بعد ثماني سنوات كان من أعماله البديعة. فيلم موسيقي آخر مع مادونا في العمل المقتبس عن المسرحية الشهيرة مع سيل من الأغاني التي أنتج باركر بعضها. الفيلم كان له دويّه الناجح الذي ترك أثره الإيجابي على مسيرة مخرجه كما على مسيرة بطلته المعروفة.
حين قابلت مادونا قبل سنوات في مهرجان فينيسيا تطرقنا إلى هذا الفيلم واختصرت رأيها فيه على النحو التالي: «هناك فيلمان أو ثلاثة فقط مما مثلته أثرت كثيراً على مهنتي كمغنية ونجمة. «أفيتا» أحدها. للأسف هو من النوع الذي لا يمكن له أن يلد أجزاء أخرى وإلا لكنت أصررت على تمثيل الدور مجدداً وفي كل مرّة».
عن آلان باركر قالت: «يعرف تماماً ما يريده من الممثل ومن كل من يعمل تحت إدارته خلف الكاميرا. سعدت كثيراً عندما وجدت أنه يثق بي لحد تركي أمثل دوري بكل الحرية التي يحلم بها الفنان».
سيحقق باركر حفنة من الأفلام من ذلك التاريخ (1996) حتى رحيله أهمها «رماد أنجيلا» (1999) و«حياة ديفيد غايل» (2003). هذا الثاني هو آخر فيلم سينمائي أنجزه إذ توقف عن العمل إلا من زاوية تحقيق أفلام قصيرة. وحتى هذه توقف عنها بعد عام 2007.
كثيرون تساءلوا عن سبب غيابه لكن القلّة التي تذكّرت أن غيابه لم يكن مختلفاً كثيراً عن غياب العبقري كن راسل الذي لم يجد من يموّل له أفلامه بعد نجاحاته الكبيرة («حالات متبدلة» و«ذا بوي فرند» و«تومي» و«فالنتينو» و«مولر» من بين أخرى). راسل انتهى إلى تصوير أفلام فيديو في جراج منزله. باركر انتهى طريح الفراش حيث توفي تاركاً وراءه أفلاماً بعضها مهم فنياً والآخر مهم تجارياً.