سبايك لي ينجز رؤيته عن أميركا اليوم وفيتنام الأمس

أبطال فيلمه الجديد يحاربون على جبهتين

لقطة من «الإخوة الخمسة»
لقطة من «الإخوة الخمسة»
TT

سبايك لي ينجز رؤيته عن أميركا اليوم وفيتنام الأمس

لقطة من «الإخوة الخمسة»
لقطة من «الإخوة الخمسة»

فيلم سبايك لي الجديد (الأول له من بعد BlacKkKlansman قبل عامين) ليس عودة إلى حرب فيتنام كما قد يبادر البعض للاعتقاد كون الأحداث تدور هناك، بل هو ليس فيلم حرب على الإطلاق. ما هو عليه أن المخرج كتب وأنتج العمل الذي يعلّق فيه على تلك الحرب من وجهة نظر المجندين الأفرو - أميركيين الذين اشتركوا فيها، وفي الوقت ذاته على حياة الأفرو - أميركيين داخل حرب ثانية لا تقل شراسة هي الحرب لأجل المساواة الاجتماعية في الولايات المتحدة.
غمس هذا المخرج الذي بلغ الثالثة والستين من العمر في مارس (آذار) الماضي من موضوع العلاقة بين السود وسواهم من الأميركيين في الولايات المتحدة منذ أعماله الأولى. ألقى الضوء على هذه «القضية» في أول أفلامه السينمائية (بعد عدد من أفلام الفيديو) «افعل الشيء الصحيح» (Do the Right Thing) سنة 1989 وبعد ذلك في معظم ما حققه من أفلام ومن بينها «حمى الغابة» (1991) و«مالكولم أكس» (1992) و«كروكلين» (1994) و«اركب الباص» (1996) ولاحقاً في «مخدوعون» (Bamboozled) سنة 2000 و«معجزة عند سانت آنا» (2008) ومؤخراً في «شي - راك» (اختصار لـ«شيكاغو - عراق) سنة 2016.
«بلاكسلانسمان» كان إضافة مهمّة في مسيرته عالج فيها (عن حكاية حقيقية) دخول رجل أسود (جون ديفيد واشنطن) عصبة الكلوكلاكس كلان العنصرية على أساس أنه أبيض البشرة. عندما بات عليه لقاء أعضاء المنظّمة أرسل يهودياً أبيض البشرة (أدام درايفر) للغاية.
«بلاكسلانسمان» بقي، على واقعية مصدره وجدية رسالته، كوميدي النبرة ساخراً من العصبة التي انطلقت من بين أخاديد الحرب الأهلية الأميركية قبل نحو قرنين من الزمن. لكن الفيلم الجديد ليس كوميدياً بأي حال. على العكس نجد سبايك لي في معالجة تراجيدية لما يعنيه أن تكون أسود البشرة في مجتمع ما زال يعاني من التفرقة العنصرية وفي حرب بذل فيها السود ما بذله البيض من تضحيات.
في الواقع يشير الفيلم في أحد حواراته الساخنة كيف أن نسبة السود الأميركيين من مجمل عدد سكان الولايات المتحدة في أواخر الستينات، عندما نشبت الحرب، بلغت 11 في المائة، لكن نسبة المجندين منهم الذين شاركوا في الحرب الفيتنامية تجاوزت الـ40 في المائة. ويلحق بهذه الملاحظة تقرير يقول إن القيادة العسكرية كانت تخصّهم بالمهام الخطرة التي لا تتوقع عودة أحد منهم حيّاً.
يبدأ الفيلم بجزء من مقابلة مع الملاكم محمد علي وهو يفسر سبب رفضه الانضمام للقتال عندما وصله أمر عسكري بذلك: «لماذا علي أن أذهب لأقاتل شعباً لم ينادني بـNigger». ثم ينتقل إلى خطاب لمالكولم إكس يهاجم فيه السُلطة التي تؤيد، ضمناً، الوضع العنصري.
طوال الفيلم سينتقل سبايك لي بين الحدث الرئيسي الذي تشكل أحداثه معظم الفيلم، وبين لقطات ومشاهد من الأوضاع العنصرية والشخصيات الأفرو - أميركية التي إما حققت إنجازات رياضية أو اجتماعية أو تم إذلالها أو قتلها في الحوادث العديدة التي صاحبت حياتهم الصعبة في الولايات المتحدة منذ أن جيء بهم كعبيد.
الأحداث ذاتها تنطلق بعد نحو دقيقتين. أربع محاربين أفرو - أميركيين يلتقون في باحة الفندق الذي وصلوا إليه في مدينة هوتشي مينه عائدين، كل من مطار أميركي مختلف، إلى البلاد التي قاتلوا فيها في الستينات.
هؤلاء هم أوتيس (كلارك بيترز) وبول (دلروي ليندو) وإيدي (نورم لويس) وملفن (إيسيا وتلوك جونيور). عودتهم تفتح ملف الذكريات لكن غايتها ليست في هذا الملف، بل للتوجه إلى منطقة جبلية نائية قام فيها الأربعة مع قائدهم نورمان (شادويك بوزمن) بإخفاء شحنة من الذهب في تلك المنطقة حين تم إسقاط طائرتهم.
نورمان مات في معركة لاحقة والأربعة تعاهدوا على الوفاء لرسالته الاجتماعية الخالية من الشوائب. كان، بالنسبة لهم، قائداً مثقفاً يجمع بين الإخلاص للوطن والحب لبني جلده. الآن يرحل الأربعة إلى حيث أخفوا الذهب لاستخراجه.
للتو يبدأ كل شيء في مسار واحد. سبايك لي لا يكتفي بسرد حكاية فيلم ولا حتى بشحنها بالمقابل الوثائقي الذي يعود به إلى جوانب الموضوع العنصري في الولايات المتحدة، بل يوفر كل شيء في آن، من تقديره لفيلم «أبوكاليبس ناو» لفرنسيس فورد كوبولا (ما زال أفضل فيلم دارت أحداثه في فيتنام) متمثلاً بإيمائين ممثلين بملصق الفيلم أولاً، ثم برحلة نهرية قصيرة ملتقطة من فوق للقارب وهو يمر وسط الأدغال، إلى أغاني الصول لمارفن غاي وآخرين إلى استخدام موسيقى رائعة وضعها ترنس بلانشارد.
بعض تعليقات الرفاق تمس هوليوود منتقدة أفلام «هؤلاء الأوغاد الذين يعودون لفيتنام لكي يربحوا الحرب». بذلك يقصد الفيلم تشاك نورس (في «مفقود في الأكشن»، 1984) وسلفستر ستالون في «رامبو 2»).
صحيح أن الرجال الأربعة الذي قادهم العمر الآن نحو الربع الأخير من سنوات الحياة يجدون أنفسهم يعاودون القتال ضد من يحاول إجبارهم على تسليم الذهب، لكن قتالهم ليس في أي شكل رغبة من سبايك لي لاستعادة نصر لم يتم في الواقع كما حال الفيلمين المذكورين. ليس كذلك فعل بطولة وتضحية. أبطال الفيلم يحاولون استعادة الذهب تحت مسميات تتوحد في النهاية صوب المنفعة الشخصية (واحد فقط كان يصر على توظيفها لخدمة الحاجات المدنية والاجتماعية للسود الأميركيين وهو يُقتل في لغم كان ينتظر من يدوس عليه).
الشخصية الآسرة التي لديها ملعب كبير للإفصاح عن كل التعقيدات والإشكالات التي يمر الرفاق الأربعة (وقد باتوا خمسة بانضمام ابن بول إليهم) هو بول نفسه. منذ أن خرج من الحرب انقلبت حياته في وطنه رأساً على عقب. ماتت زوجته أثناء وضعها ابنه، ثم تكالبت عليه الظروف الصعبة وفوقها ما عاد به من مشاكل عاطفية ونفسية بسبب تلك المعارك التي خاضها وما تركته في ذاته من جروح.
دلروي ليندو، في دور بول يؤدي الشخصية بكل اتساعاتها وبجدارة. ينتقل بعواطفه ملتصقاً تارة برفاقه الذين شاركوه المحن ويبتعد عنهم تارة في وعورة وعمق متاهاته المتراكمة.
«الأخوة الخمسة» (Da 5 Bloods و«دا» هنا استخدام بديل لكلمة ذا) مغامرة صادحة بالألم المٌعاش يتخللها درس في التاريخ عن تمييز بدأ قبل تلك الحرب واستمر خلاله وبعده.
فيلم سبايك لي هذا طويل أكثر بقليل مما يجب والبعض سيجد خروجه من الحكاية الأساسية وأحداثها، إلى مداخلاته الموزعة بوفرة، مدعاة للتشتت. حتى ولو كان الأمر كذلك، فإن «الأخوة الخمسة» يصعد سلم أعمال مخرجه لينضم إلى مصافها.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.