هل تنتصر «نتفليكس» على شركات هوليوود؟

تُعلن عن أنجح عشرة أفلام لها ولكن...

كريس همسوورث في «استخراج»
كريس همسوورث في «استخراج»
TT

هل تنتصر «نتفليكس» على شركات هوليوود؟

كريس همسوورث في «استخراج»
كريس همسوورث في «استخراج»

أعلنت شركة «نتفليكس» عن قائمة الأفلام العشرة الأولى التي أنتجتها (أو اشترتها حصرياً من شركات إنتاج أخرى) وبثتها لمشاهديها خلال السنوات الخمس الماضية.
تتضمن هذه اللائحة الأعمال التالية:
1‪ -‬ Extraction
إنتاج 2020
عدد المشاهدين: 99 مليون
2‪ -‬ Bird Box
إنتاج 2018
عدد المشاهدين: 89 مليون
3‪ -‬ Spencer Confidential
إنتاج 2020
عدد المشاهدين: 85 مليون
4‪ -‬ 6 Underground
إنتاج 2019
عدد المشاهدين: 83 مليون
5‪ -‬ Murder Mystery
إنتاج 2019
عدد المشاهدين: 73 مليون
6‪ -‬ The Irishman
إنتاج 2019
عدد المشاهدين: 64 مليون
7‪ -‬ Triple Frontier
إنتاج 2019
عدد المشاهدين: 63 مليون
8‪ -‬ The Wrong Missy
إنتاج 2020
عدد المشاهدين: 59 مليون
9‪ -‬ The Platform
إنتاج 2019
عدد المشاهدين: 56 مليون
10‪ -‬ The Perfect Date
إنتاج 2019
عدد المشاهدين: 48 مليون
وفي حين يشهد ذلك بنجاح هذه الأفلام، فإنّ القارئ، محترفاً أو هاوياً، لا يستطيع مقارنتها عملياً بالأفلام التي لم ترتفع نسبة مشاهدتها عن 20 مليون مشاهد مثلاً. ما تفعله «نتفلكس» عادة هو إخفاء الأرقام المسجلة أسبوعياً على عكس شركات الأفلام السينمائية التي توفر إيرادات أفلامها على نحو دائم.
حسب مصادر، فإن عدد المشاريع التي تهيؤها «نتفلكس» للإنتاج يبلغ 308 مشروعات موزعة بين أفلام ومسلسلات تلفزيونية. عدد الأفلام التي دخلت مرحلة الإنتاج حالياً 68 فيلماً (مقابل 54 مسلسلاً تلفزيونياً). أمّا عدد الأفلام التي موّلتها من إنتاجها أو إنتاج شركات أخرى فيصل إلى 2271 عملاً موزعاً بين السينما والتلفزيون ومنها ما هو فيديو فقط وعدد من الأفلام القصيرة.
هذا الإنتاج متوجه صوب 193 مليون مشترك من بينهم 97 مليون مشتركاً في الولايات المتحدة. وذلك حسب آخر إحصاء في الربع الثاني من هذه السنة.
ليس عجيباً أن تبلغ إيرادات الشركة في العام الماضي 15 مليار و800 مليون دولار (حسب موقع Statista المتخصص).
وبين ما سبق من إنتاجات نجد عدداً متزايداً في السنوات الخمس الأخيرة لما يُسمى بـ«المحتوى الأصلي» (Original Content) أي المبتدع مباشرة ومن داخل الشركة. في سنة 2017 على سبيل المثال بلغ عدد هذا الإنتاج الأصلي 300 فيلم ومسلسل.
أسئلة مُقلقة
كل ما سبق يُسعد مالكي الحصص المالية في هذه الشركة ومؤسسيها ريد هستينغز ومارك راندولف اللذين أنشآ هذه الشركة قبل 22 سنة كشركة تبيع أفلام DVD بالبريد. في عام 2007 توجّهت لاستخدام التكنولوجيا فأخذت تبثّ الأفلام التي تشتري حقوقها لهذه الغاية صوب ملايين المنازل المشتركة. بعد خمس سنوات بدأت بالإنتاج لنفسها.
إنها قصّة نجاح أميركية فذّة، بلا ريب، لكنّها ليست خالية من الشوائب بالتأكيد.
في حين تقوم بتمويل الأفلام لأي مخرج لديه مشروع لا يهمّه توزيعه سينمائياً (وهؤلاء باتوا كُثُراً) فإن مضاربتها على شركات هوليوود الكلاسيكية فادحة، خصوصاً في زمن «كورونا» وما تسبب به من هبوط حاد في الإيرادات ووضع مستقبل صالات السينما على المحك.
الواعز الكفيل بإعادة الناس إلى صالات السينما ليس متكاملاً بعد. من ناحية هناك الخوف من البلاء، والأرقام اليومية صادمة في الولايات المتحدة وحول العالم، ومن ناحية أخرى هناك إغراء البقاء في البيت والتمدد على الكنبة العريضة ومتابعة فيلم على الشاشات الكبيرة التي ارتفعت نسبة مبيعاتها في السنوات العشر الأخيرة بدورها.
خيار أن يتحوّل المرء إلى متابع أفلام في داخل بيته، على الأرجح أنّه مريح بالنسبة للغالبية، لكن هذا يتضمن تحوّله إلى «شيء» قريب من الكنبة التي يتمدد عليها. يتضمن كذلك خطر أن تتحوّل الشعوب إلى كسل دائم أو ما يسميه الغربيون Caoch Potatoes). بالتالي، يشمل الخطر ثلاثة أسئلة مقلقة:
> من الذي سيؤم صالات السينما عندما ينتهي الوباء بعد حين؟
> ما الأفلام التي تستطيع أن تجذب الناس مجدداً إلى صالات السينما وبأعداد كبيرة؟
> كيف ستختلف الأفلام السينمائية عن الأفلام المنتجة من قِبل «نتفلكس» أو سواها من الشركات التي تقوم بالوظيفة ذاتها؟
الإيجابيون سيتولون إبداء تفاؤل من نوع أنّ السينما عايشت الكثير من الأزمات سابقاً ودائماً ما انتصرت عليها. هذا صحيح بالطبع، لكن هذه الأزمة تختلف لكل الأسباب الواردة أعلاه. هذا لا يمنع القول من أن هوليوود (والعالم) سينحو صوب المزيد من الأعمال التي لا تقدم عليها شركات الخدمات المنزلية تلك. سترفع من تميّز إنتاجاتها بلا ريب وستعمد إلى حشد النجوم في المزيد من الأعمال والعودة إلى تقسيم متوازن لفصول السنة: الخريف والشتاء للأفلام الهادفة لنيل جوائز مطلع السنة، والربيع للأفلام المتوسطة والصيف للأفلام ذات الإنتاجات الكبيرة.
الشيفرة ذاتها
رغم ذلك ستبقى هذه الأسئلة مطروحة مع الحذر من انتشار وباء الكسل الذي يلزم المرء بمشاهدة الأفلام من على مقعده الوثير داخل البيت.
ما يساعد على بعض التفاؤل معاينة الأفلام العشرة المعلن عنها كصاحبة أعلى نسبة مشاهدين للمحطة المذكورة إذ يمكن للدارس تكوين ملاحظات مهمّة من شأنها التأكيد على أن انحسار الإقبال على شركات العروض المنزلية محتمل.
أولاً، تطالعنا بعض الأفلام، تحديداً «استخراج» (في المركز الأول) و«سبنسر كونفيدنشل» (المركز 3) و«6 أندرغراوند» (4) و«ذا رونغ ميسي» (8) و«الموعد المتكامل» (10)، بأنّها ليست أكثر من توليفة تجارية مماثلة (في أفضل الأحوال) أو باهتة (في معظم الأحوال) لما توفّره هوليوود من إنتاجات مشابهة.
«استخراج» لسام هاغراف مخرجاً، عبارة عن معركة طويلة واحدة مؤلفة من عشرات المشاهد العنيفة التي، في الوقت ذاته، غير قابلة للتصديق مطلقاً. هو التركيبة ذاتها للعديد من الأفلام الرخيصة التي توفرها بعض الإنتاجات السينمائية.
هذا ينطبق على باقي الأفلام المذكورة في هذا الصدد، خصوصاً الكوميدية منها كحال «ذا رونغ ميسي» و«الموعد المتكامل».
ثانياً، معظم هذه الأفلام كان عليها أن تتّبع الشيفرة المعمول بها سينمائياً وهي توفير «نجم شباك» في الإنتاج الواحد. كريس همسوورث في «استخراج»، وساندرا بولوك في «بيرد بوكس» (المركز 2)، ومارك وولبرغ في «سبنسر كونفيدنشل»)، ورايان رينولدز في «6 أندرغراوند» وبن أفلك في «تريبل فرونتيير» (المركز 7).
وحالياً توفر «نتفلكس» المنوال ذاته في فيلمها المعروض بنجاح «الحارس القديم» (The Old Guard)، تقود بطولته تشارليز ثيرون. في كل هذه الأفلام المذكورة تحتاج الشركة المنتجة اسماً كبيراً واحداً تحيطه بالممثلين الذين لن يتقاضوا - في مجموعهم - ما يتجاوز ما سيتقاضاه هو.
ثالثاً: نجد اعتماداً ملحوظاً على أسماء المخرجين الكبار أو المشهورين، يقود هؤلاء مارتن سكورسيز في «الآيرلندي» (رقم 6) الذي كان لا بد له من الخروج من صندوق توفير «نجم» واحد تبعاً لطبيعة العمل وشهرة مخرجه فإذا به حمل في بطولته اسمين معروفين هما روبرت دينيرو وآل باتشينو.
سكورسيز لم يكن وحده بين من توجهت «نتفلكس» إليهم بل ضمّت إليها بعض الأسماء المهمة في مجال عملها. بعض هؤلاء من الذين حققوا أفلاماً فنية سابقاً مثل الدنماركية سوزان باير («بيرد بوكس») وج. س. شاندور («جبهة ثلاثية»، المركز 7). البعض الآخر أنجز أفلاماً تجارية ناجحة منهم مايكل بأي («6 أندرغراوند») وبيتر بيرغ («سبنسر كونفيدنشل»).
رابعاً، سنلاحظ وجود عدد من الأفلام التي تثير الإعجاب لفنها وحسن تنفيذها سواء أكانت من الصنف التجاري («بيرد بوكس» و«جبهة ثلاثية») أو الفني («الآيرلندي»). لكن الواقع هو أن بعض الأفلام الفنية الأخرى، مثل «روما» لألفونسو كوارون، غائب عن الحضور في هذه القائمة. كذلك فيلم سبايك لي الجديد Da 5 Bloods ولو أنّ غياب هذا الأخير قد يعود لحداثته.
رغم ذلك كله، يبقى الشائع بين إنتاجات شركات البث المنزلي (أمازون، وهولو، وآبل، ونتفلكس إلخ…)، تثبيت «الفورمولا» ذاتها التي مارستها هوليوود طويلاً وما تزال. هي في غالبيتها أفلام من فئة B أُتيح لها أن ترتقي لتصبح أفلام فئة A ضمن جدران المنازل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)