جائحة «كورونا» تعيد الباريسيين إلى الريف

عادات اجتماعية جديدة فرضها التباعد

جائحة {كورونا} أعادت الباريسيين إلى الريف بهدوئه ونقاء هوائه
جائحة {كورونا} أعادت الباريسيين إلى الريف بهدوئه ونقاء هوائه
TT

جائحة «كورونا» تعيد الباريسيين إلى الريف

جائحة {كورونا} أعادت الباريسيين إلى الريف بهدوئه ونقاء هوائه
جائحة {كورونا} أعادت الباريسيين إلى الريف بهدوئه ونقاء هوائه

منذ سبع سنوات لم تجتمع عائلة روجيه الفرنسية بكامل أفرادها. وكانت وفاة أحد الأعمام هي آخر مناسبة جمعت الأبناء والبنات والأولاد والأحفاد والأصهار البالغ عددهم 31 فرداً. وها هم يعودون مع بداية الشهر الحالي، للتوافد بالقطار أو بسياراتهم على البيت الكبير في إحدى ضواحي مدينة تولون، على الساحل الجنوبي للبلاد، وقد ازداد عدد أفراد الأسرة ثلاثة. وكل واحد منهم ينوي التمتع بإجازة صيفية على البحر تحت شمس رائقة، بعد أشهر من العزل المنزلي في شقق باريسية مثل علب السردين.
أعاد الوباء الاعتبار للسياحة الداخلية في فرنسا. وجاء توقف الرحلات الجوية مع عديد من دول العالم ليغير من العادات التي كانت شائعة لقضاء الإجازة في الخارج، على رمال المتوسط في المغرب وتونس، أو شواطئ تركيا والجزر اليونانية، أو منتجعات الساحل المصري الشمالي. إن الحكمة تقضي بالبقاء في البلد خلال الظروف الحالية التي لا تخلو من احتمال موجة وبائية ثانية. ونظراً لأن شروط التباعد والحذر ما زالت سارية، فإن الحل الأنسب هو اللجوء إلى المزارع العائلية والقرى الجبلية والمنازل الحجرية الكبيرة للآباء والأجداد.
تتألف عائلة روجيه من جد متقاعد عمل موظفاً في البريد، ومن جدة كانت ممرضة. وقد أنجب الاثنان ولدين وبنتين، غادروا البيت الأول وحلَّقوا بأجنحتهم وحصلوا جميعاً على شهادات دراسية طيبة. وهم يعملون حالياً في المحاماة والتعليم والوظيفة الحكومية وطب الأسنان. وهؤلاء بدورهم تزوجوا وصار لهم أبناء وبنات. ومنهم من تطلَّق وعاود الارتباط وصار له أبناء من الشريك الجديد. توسعت العائلة وتفرقت بها السبل، وما عادت تلتقي إلا في حفلات الزواج أو جنازات الأقرباء. ومع اقتراب عطلة الصيف الحالي استقر رأي كل منهم، من دون سابق اتفاق، على قضاء الإجازة في الحضن العائلي الأول.
وكما يقول المثل: مصائب قوم عند قوم فوائد. فقد استفادت قطاعات خدمية محلية من تراجع السفر إلى الخارج. وهكذا يستعد أصحاب المقاهي والفنادق والمطاعم الواقعة في المناطق السياحية الفرنسية لموجة كبيرة من السياح الداخليين وأبناء البلد. كما تنشط الحركة في المعسكرات السياحية التي تستقبل المصطافين داخل الخيام أو مع سياراتهم «الكارافان» المجهزة بما يلزم. وهناك من أعاد تأهيل المكان وأضاف إليه مرافق للتسلية وبرامج لسهرات فنية موسيقية خلال أشهر الصيف الثلاثة. كما انتهز أصحاب المنازل الريفية فرصة ارتفاع الطلبات على البيوت خارج العاصمة، وراحوا ينشرون إعلانات لتأجير بيوتهم أو غرف منها للسياح.
في الفترة الأخيرة المسماة «الزمن الكوروني»، نشط علماء الاجتماع لمراقبة ودراسة الظواهر التي حاول الفرنسيون من خلالها التكيف مع شروط العزلة والتباعد؛ لكن الدارسين اهتموا أكثر بالعادات التي يساهم الفيروس في ترسيخها. فمع العودة إلى البيوت القروية استعاد الباريسيون ممارسات كانت قد انقرضت خلال سنواتهم المدينية، ومنها تناول البيض الطازج ودجاج المزرعة والخضار المقطوفة حديثاً، والآتية للتو من الحقل. وساهم انتشار الوباء في تداول معلومات قد تكون مغلوطة؛ لكنها تبعث على راحة مؤقتة، ومنها أن الأوبئة وازدياد الأمراض الخبيثة وتقلبات المناخ هي من نتائج عدوان الإنسان على الطبيعة ومبالغته في تلويثها. ولعل الفوز الكبير لمرشحي أحزاب الخضر في الانتخابات البلدية، الأحد الماضي، يعبر عن رغبة الفرنسيين، لا سيما سكان المدن الكبيرة، في انتهاج نمط من العيش متصالح مع الطبيعة.
عادت إلى الرواج أغنيات قديمة تتغنى بجمال الريف، وراح القراء يبحثون عن كتب خالدة حفظوا بعض عباراتها من مناهج الدراسة. من ذلك كتاب «أرض الرجال» لأنطوان دو سانت إكزوبيري. فقد كتب ذلك الأديب والرحالة الطيار يقول: «كان هناك، في مكان ما، حقل عامر بأشجار التنوب السوداء والزيزفون، وبيت عتيق أحبه». فقد كان بيت الأجداد هو الملجأ المناسب اقتصادياً لقضاء الإجازات بعيداً عن الفنادق والسفريات الباهظة، ثم هجره الأبناء بعد أن كبروا واشتغلوا وكسبوا المال. وها هم يعودون إلى الأصول، لا بسبب ضائقة مالية؛ بل للابتعاد عن مصادر العدوى، ولنسيان التوتر الذي سرق من أعمارهم عدة أشهر.
ظاهرة أخرى جديدة هي انتشار تأجير السيارات الخاصة. فالشركات الكبرى المتخصصة في التأجير، مثل «يوروكار» و«آفيس»، لم تعد قادرة على استيعاب الطلبات المتزايدة نظراً لوقف كثير من الرحلات الخارجية، وتفضيل السفر داخل البلد. وكانت هذه الشركات قد فقدت 75 في المائة من وارداتها خلال أشهر الحظر. وهي اليوم تتلقى جرعات من هواء يجدد نشاطها؛ بل وتجد أصحاب السيارات الخصوصية ينافسونها في أسعار التأجير. وهناك اليوم أكثر من موقع إلكتروني يتيح للراغب في التأجير التعرف على المؤجرين المقيمين في دائرة سكنه وبالقرب منه.


مقالات ذات صلة

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل يرتدي كمامة ويركب دراجة في مقاطعة هوبي بوسط الصين (أ.ف.ب)

الصين ترفض ادعاءات «الصحة العالمية» بعدم التعاون لتوضيح أصل «كورونا»

رفضت الصين ادعاءات منظمة الصحة العالمية التي اتهمتها بعدم التعاون الكامل لتوضيح أصل فيروس «كورونا» بعد 5 سنوات من تفشي الوباء.

«الشرق الأوسط» (بكين)
آسيا رجل أمن بلباس واقٍ أمام مستشفى يستقبل الإصابات بـ«كورونا» في مدينة ووهان الصينية (أرشيفية - رويترز)

الصين: شاركنا القدر الأكبر من بيانات كوفيد-19 مع مختلف الدول

قالت الصين إنها شاركت القدر الأكبر من البيانات ونتائج الأبحاث الخاصة بكوفيد-19 مع مختلف الدول وأضافت أن العمل على تتبع أصول فيروس كورونا يجب أن يتم في دول أخرى

«الشرق الأوسط» (بكين)
الاقتصاد أعلام تحمل اسم شركة «بيونتيك» خارج مقرها بمدينة ماينتس الألمانية (د.ب.أ)

«بيونتيك» تتوصل إلى تسويتين بشأن حقوق ملكية لقاح «كوفيد»

قالت شركة «بيونتيك»، الجمعة، إنها عقدت اتفاقيتيْ تسوية منفصلتين مع معاهد الصحة الوطنية الأميركية وجامعة بنسلفانيا بشأن دفع رسوم حقوق ملكية للقاح «كوفيد».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم تراجعت أعداد الوفيات من جراء الإصابة بفيروس كورونا على نحو مطرد (أ.ف.ب)

الصحة العالمية تعلن عن حدوث تراجع مطرد في وفيات كورونا

بعد مرور نحو خمس سنوات على ظهور فيروس كورونا، تراجعت أعداد الوفيات من جراء الإصابة بهذا الفيروس على نحو مطرد، وذلك حسبما أعلنته منظمة الصحة العالمية في جنيف.

«الشرق الأوسط» (جنيف)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».