زبائن متجر عراقي في لندن يتصدّون لمحاولة نقله

أطلقوا «أنقذوا نور» لعدم قناعتهم بدعوى تطوير المنطقة

منطقة بريكستون معروفة بتعددها العرقي والثقافي (نيويورك تايمز)
منطقة بريكستون معروفة بتعددها العرقي والثقافي (نيويورك تايمز)
TT

زبائن متجر عراقي في لندن يتصدّون لمحاولة نقله

منطقة بريكستون معروفة بتعددها العرقي والثقافي (نيويورك تايمز)
منطقة بريكستون معروفة بتعددها العرقي والثقافي (نيويورك تايمز)

تسير سجى شاهين بين ممرات متجر «نور كاش آند كاري» لتشرح محتوى متجر البقالة الشهير الذي تملكه عائلتها داخل سوق «بريكستون» منذ أكثر من 20 عاماً وقدمت شرحاً مسهباً لكيف أنه مع وصول جماعات المهاجرين الجدد إلى المنطقة ذات التنوع العرقي بجنوب لندن، فقد راعى المتجر إضافة الأطعمة لتناسب أذواق الوافدين الجدد.
تتراكم فوق الرفوف أكياس الأرز على ارتفاع ستة أقدام بالقرب من المدخل بجوار أباريق زيوت الطهي المتنوعة بسعة 15 لتراً وإلى جوارها رقائق الموز المقلية وثمانية أنواع من صلصة توابل «جيرك» القادمة من منطقة الكاريبي. إلى جوارها أكياس البذور (اللب) والروبيان المطحون وجراد البحر المجفف المستخدم في الأطباق الأفريقية، وعلى مقربة منه شراب التمر، والطحينة، والبامية التي تلبي متطلبات وأذواق القادمين من منطقة الشرق الأوسط.
يتمتع متجر «نور» بسحر كلاسيكي لكنه ثري بمجموعة مختارة من الأطعمة التي جعلته ذائع الصيت لدى طهاة المطاعم المحلية. وفي وصفها لما يعرضه المتجر، قالت مدونة محلية: «إنها أطعمة كاملة بأسعار معقولة تناسب الجميع، وليس الصفوة». غير أن تصميم المتجر لم يراعِ الراحة أو التباعد الاجتماعي، ومن المألوف أن تجد شخصاً يبعد آخر بمرفقه ليصل إلى كيس دقيق أو ذرة. ولأنه لا توجد صفوف منتظمة للخروج من المكان، فكثيراً ما يتدخل العاملون لفك الاشتباك بين الزبائن.
قالت سجى شاهين فيما كانت تمشي في ممر للبهارات يصل إلى السقف مليئاً بمساحيق الكاري والهيل وجوزة الطيب والفلفل الأحمر والفلفل (الأخضر والأحمر والأسود والأبيض والوردي)، إن «بعض الناس يأتون إلى هنا للشجار. فالمتجر بني بشكل تقليدي بعيد عن البهرجة وباستخدام مواد عضوية»، ولم يراعِ في تصميمه تنظيم عمليات الدخول والخروج.
تسبب متجر «نور» النابض بالحياة، وأحياناً بالفوضى والمتعدد الثقافات، والذي يحظى بحب الجميع بمنطقة «بريكستون» في صدمة كبيرة في يناير (كانون الثاني)، عندما تلقت عائلة شاهين إشعاراً بإخلاء المكان. قال الملاك الجدد، وهي شركة «هندو إنتربريسيس» التي يديرها مليونير يبلغ من العمر 39 عاماً من تكساس، إن المستأجرين يتعين عليهم الانتقال إلى المكان الجديد بحلول 22 يوليو (تموز). ويجري حالياً بناء محطة كهرباء فرعية جديدة في المبنى لتوفير الكهرباء لمتاجر أخرى للتسوق الراقي في ذات المنطقة التي يوجد فيها متجر «نور».
رفضت عائلة شاهين صاحبة المتجر التخلي عن المكان وبدأت معركة لتطويره، حيث نظمت مجموعة من العملاء حملة لإنقاذه، مشيرة أن مصير «نور» يمثل بداية لتغييرات أوسع في منطقة «بريكستون» برمتها. وشأن غيرها من المعارك المشابهة - سواء في سان فرانسيسكو أو نيويورك أو باريس - فجميع من نزحوا إلى «بريكستون» من ذوي الدخل المنخفض ومن الأقليات، وهو ما يثير قضايا العرق في بلد طالما عانى من التعامل مع الموضوع بصورة مباشرة.
وفي تعليق على ما يجري، قالت هبة أحمد التي ساعدت في تنظيم حملة «أنقذوا نور»: «لقد أصبح المتجر رمزاً لشيء أكبر. فقد رأى الجميع هذه القصة مراراً وتكراراً».
هاجرت عائلة شاهين من العراق بعد أن أبعدها نظام صدام حسين عام 1980 لتتجه الأسرة إلى إيران وتبقى هناك طيلة عشر سنوات قبل أن تنتقل في نهاية المطاف إلى لندن عام 1990. قال سلام شاهين، والد سجى، الذي يقود سيارته كل مساء إلى سوق الجملة في لندن لاختيار المنتجات بنفسه ويحضرها إلى متجره، «اعتقدنا أن أوروبا هي الجنة».
استقرت العائلة بالقرب من «بريكستون»، وهي منطقة تشتهر باستقبال العائلات المهاجرة. وبدءاً من أربعينيات القرن العشرين، باتت «بريكستون» مركزاً لما يعرف بـ«جيل ويندروش» الذي انتقل من جامايكا وغيرها من المستعمرات للمساعدة في إعادة بناء البلاد بعد الحرب العالمية الثانية.
رحب الكثيرون بتطوير منطقة «بريكستون» عندما بدأ المستثمرون في ضخ الأموال للمنطقة بعد فترة طويلة من الإهمال المجتمعي والسمعة السيئة، خاصة عقب أعمال الشغب التي اندلعت هناك عام 1981 والتي كان من ضمن أسبابها التوترات العرقية ونهج الشرطة العدواني.
أصبحت أروقة المشاة المغطاة بالزجاج في وسط بريكستون التي يعود تاريخها إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي متداعية وتحولت تقريباً إلى شقق سكنية عام 2008. والآن أصبح موقع التراث المسجل باسم «سوق بريكستون» وجهة سياحية، بما في ذلك الأروقة، مكاناً للتسوق ولحياة ليلية بكل ما به من متاجر ومطاعم وبارات مستقلة تفتح بجوار المتاجر الأكبر سناً مثل «نور» وتجار الأسماك والجزارين.
لكن السكان المحليين راقبوا بحذر عمليات التغيير الجارية، وكان دافعهم في ذلك تكلفة المعيشة المعقولة نسبياً في بريكستون، وكذلك مواصلات النقل العام، والحياة الليلية الصاخبة، ومشاهد الموسيقى والفن والطعام التي تحسد عليها.
ومن الأشياء المميزة في المكان تلك اللوحة الجدارية للمغني الشهير ديفيد بوي، الذي ولد في بريكستون والتي باتت محطة شهيرة للسياح على منصة «إنستغرام».
في السياق ذاته، قال فولسهايد أكاندي، صاحب متجر «إيا إيبادان»، الذي يبيع الطعام ويعرض منتجات الحرف الأفريقية في السوق منذ أكثر من 20 عاماً: «يجري طرد جميع السكان المحليين والأقليات العرقية» وأنه مع افتتاح متاجر جديدة مثل «تاجر الجبن النباتي» في مكان قريب زادت الإيجارات بدرجة ملحوظة، مضيفاً «سأحاول البقاء لأطول وقت ممكن».
في حملة متجر «نور»، استاء النشطاء المناهضون لعمليات التطوير من جهود تايلور ماك ويليامز، الرئيس التنفيذي لمؤسسة «هوندو»، حيث اشترى أسواقاً مغطاة بدعم مالي من صندوق التحوط الأميركي «أنجلو جوردان» عام 2018 بقيمة أكثر من 37 مليون جنيه إسترليني، نحو 46 مليون دولار اليوم، إلى جانب ملهى ليلي شهير وممتلكات أخرى يعتزم تحويلها إلى مبنى إداري مكون من 20 طابقاً، والذي سيكون الأكثر ارتفاعاً في بريكستون. وفي تعبير عن امتعاضه، قال أنيس معتوق، أحد عملاء متجر «نور» والناشط في مجموعة «أنقذوا نور»: «إنه (ويليامز) يشتري بريكستون».
وقال معتوق إن الرأي السائد هو أن ماك ويليامز الذي كان على علاقة بصديقة سابقة للأمير هاري ودائم التردد على نادي «إيبيزا» باعتباره مشغل موسيقي «دي جي» بفرقة «هاوسكييبنغ»، وأن ويليامز يتمنى لو أنه استطاع أن يجعل من «بريكستون» مكاناً يستطيع هو وأصدقاؤه التنزه فيه خلال عطلة نهاية الأسبوع، لكن طموحات ويليامز لا تروق للكثيرين.
قال ماك ويليامز إنه لن يكن مهتماً بتغيير «بريكستون»، وتساءل عن سبب نظرة الناس له كونه الشرير، حيث إنه أنفق بالفعل أكثر من مليوني جنيه إسترليني (2.5 مليون دولار) لإصلاح مشاكل السباكة وتجديد الحمامات وتركيب نظام التدفئة الذي سيجعل السوق مشغولة طيلة فصل الشتاء، وأعفى جميع المستأجرين من سداد الإيجارات لمدة ثلاثة أشهر بعد تفشي وباء «كورونا». في أبريل (نيسان)، أثناء الامتثال لأوامر الإغلاق والبقاء في المنزل في بريطانيا، تسلل ناشطو حملة «أنقذوا نور» إلى حفل خيري عبر الإنترنت كان يشارك فيه ماك ويليامز، وارتدى النشطاء ملابس كمرتادين للأندية وكشفوا عن أنفسهم وبدأوا في مضايقته وانتقاده بإشارات أمام أكثر من ألف متفرج عبر الإنترنت، لتنطلق مواقع الموسيقى الإلكترونية في الكتابة عن جهود «إنقاذ نور».
في يونيو (حزيران)، وفيما كان الجميع يواجه مشكلة انخفاض المبيعات جراء تفشي وباء «كورونا»، كانت عائلة شاهين تستعد للوقوف أمام المحكمة لإنقاذ «نور». وتحدث عدد من المشاهير المحليين مثل الطاهي يوتام أوتولينغي نيابة عن المتجر، وقام بجمع توقيعات أكثر من 55 ألف شخص على عريضة عبر الإنترنت.ولكن في 19 يونيو (حزيران) تم التوصل إلى اتفاق بعد سلسلة من المفاوضات، وتقرر نقل «نور» إلى موقع جديد في السوق بإيجار أقل قليلاً.
وفي صبيحة اليوم التالي، قالت سجى شاهين فيما كانت تقف في المتجر حيث جاء العملاء لتهنئة العائلة: «يبدو الأمر وكأنه حالة عناق حميمية، خاصة أننا عائلة مهاجرة جاءت إلى هنا، ولسنا بريطانيين الأصل».
- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)