ميادين القاهرة وقصورها في إطلالة مميزة لعيدها القومي

افتتاح مدارس وتسيير حافلات نقل عام جديدة

ميدان التحرير بعد تطويره
ميدان التحرير بعد تطويره
TT

ميادين القاهرة وقصورها في إطلالة مميزة لعيدها القومي

ميدان التحرير بعد تطويره
ميدان التحرير بعد تطويره

في ذكرى تأسيسها الـ1051، تطل العاصمة المصرية القاهرة بحلة جديدة ومميزة، بعد الانتهاء من تطوير بعض ميادينها وشوارعها وقصورها التاريخية وافتتاحها أخيراً، ضمن خطة تطوير كبرى تستهدف إعادة الوجه الحضاري لأكبر وأقدم مدن العالم العربي وأفريقيا وأكثرها ازدحاماً.
ففي قلب القاهرة، يظهر ميدان التحرير في أبهى صوره حالياً، بعد تشغيل مشروع الإنارة المتكامل فيه، الذي أضفى إليه بعداً جمالياً لافتاً، لا سيما بعد إبراز واجهات العمارات التراثية المحيطة بالمسلة الفرعونية والكباش الأثرية الأربعة، ومجمع التحرير الشهير الذي تمت إعادة طلائه وإضاءة واجهته الخارجية ضمن مشروع كبير لتطوير الميدان خلال الأشهر الماضية، ليكون مزاراً ضمن المزارات الأثرية والسياحية للعاصمة، في إطار المشروع العام لتطوير القاهرة الخديوية.
ويرتبط ميدان التحرير الذي كان يسمى قبل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 «ميدان الإسماعيلية» نسبة إلى الخديوي إسماعيل، بأحداث سياسية وتاريخية مهمة، حيث كان شاهداً على أحداث ثورتي 25 يناير (كانون الثاني) 2011 و30 يونيو (حزيران) 2013.
واحتفلت محافظة القاهرة، أمس بعيدها القومي الذي يوافق ذكرى مرور 1051 عاماً على تأسيسها على يد القائد جوهر الصقلي عام 969 الميلادي، في عهد المعز لدين الله الفاطمي. ويشهد العام الجاري افتتاح عدد من المدارس الجديدة والمطورة، بالإضافة إلى تسيير 550 حافلة جديدة، وفتح عدد من المراكز الطبية ومراكز الشباب بمناطق القاهرة المختلفة، بحسب بيان صحافي أصدره اللواء خالد عبد العال، محافظ القاهرة، أمس.
وسُميت القاهرة قديماً بـ«القطائع» و«الفسطاط»، و«المنصورية»، وتم تغيير اسمها إلى «القاهرة» بعد أن فتحها القائد جوهر الصقلي، بأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في 6 يوليو عام 969م وتضم القاهرة عشرات المواقع والمباني الأثرية المتنوعة التي تعود للعصر الفرعوني والروماني والبيزنطي والقبطي والإسلامي.
واختيرت القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية في عام 2020 خلفاً للعاصمة التونسية، وذلك في الاحتفال الذي أقامته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بمدينة الثقافة في تونس قبيل نهاية العام الماضي، وأعدت وزارة الثقافة المصرية برنامج أنشطة متنوعة للاحتفال بهذه المناسبة، لكن تسببت جائحة كورونا في تعليق الاحتفالات والأنشطة.
وفتحت السلطات المصرية أبواب قصر البارون إمبان بحي مصر الجديدة (شرق القاهرة)، أمام الجمهور المصري والسائحين الأجانب، لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن، في بداية شهر يوليو الجاري، وشهد القصر الذي طورته وزارة السياحة والآثار المصرية ليكون متحفاً مفتوحاً يحكي تاريخ حي مصر الجديدة، إقبال العشرات منذ افتتاحه رغم التحذيرات من خطورة «كورونا».
ويعود تاريخ القصر إلى عام 1911؛ حيث بناه البارون البلجيكي إدوارد لويس جوزيف إمبان (1852 - 1929)، مؤسس حي مصر الجديدة بالقاهرة، في وسط شارع صلاح سالم، واستوحى المصمم المعماري الفرنسي ألكساندر مارسيل، فكرة القصر المقام على مساحة تبلغ 12.5 ألف متر، من معبد أنكور وات في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية؛ حيث صمم القصر بطريقة تجعل الشمس لا تغيب عنه، ويتكون من طابقين وبدروم، وبرج كبير على الجانب الأيسر يتألف من 4 طوابق.
وفي جنوب القاهرة تضع السلطات المصرية اللمسات النهائية على مشروع ميدان «بحيرة عين الحياة»، التي يطل عليها المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط تمهيداً لنقل المومياوات الملكية إليه من المتحف المصري بالتحرير في حفل مهيب تستعد له الحكومة المصرية منذ عدة أشهر، ويجري إنشاء عدد من المحاور المرورية بالمنطقة لتيسير عملية زيارة المواقع الأثرية في محيط المتحف على غرار قلعة صلاح الدين الأيوبي، ومسجد السلطان حسن ومجمع الأديان وسور مجرى العيون.
في سياق متصل، تفتح متاحف الفنون التشكيلية بالقاهرة أبوابها بداية من اليوم الثلاثاء، من بينها محمد ناجي ومحمود مختار، كما تستعد متاحف «طه حسين، والزعيم جمال عبد الناصر، ومصطفى كامل» لفتح أبوابها منتصف الأسبوع المقبل، ضمن خطط عودة الحياة إلى طبيعتها في القاهرة عقب أشهر من الإغلاق، بالإضافة إلى انطلاق الموسم الصيفي الفني لدار الأوبرا المصرية بالمسرح المكشوف.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)