دوقة غولدبلات: أحجية يحوطها الغموض داخل حساب على «تويتر»

من مؤلفة خيالية إلى صاحبة كتاب سيرة شخصية

خطابات معجبين بالدوقة صاحبة الحساب الشهير على «تويتر»
خطابات معجبين بالدوقة صاحبة الحساب الشهير على «تويتر»
TT

دوقة غولدبلات: أحجية يحوطها الغموض داخل حساب على «تويتر»

خطابات معجبين بالدوقة صاحبة الحساب الشهير على «تويتر»
خطابات معجبين بالدوقة صاحبة الحساب الشهير على «تويتر»

يزدان جدار الجناح الغربي من المعرض الوطني للوحات في واشنطن العاصمة بلوحة تعود إلى سيدة أرستقراطية هولندية تعود إلى القرن الـ17، وترتدي فيها رداءً يمتاز بياقة مكشكشة وأساور من الدانتيل وسترة مطرزة من المخمل بأكمام واسعة ـ فيما يعتبر ذروة الأناقة الكالفينية. وقد أبدع فرانز هالز اللوحة عام 1633؛ ونظراً لضياع اسم صاحبة الصورة على مدار قرون التاريخ، أطلق على اللوحة «بورتريه سيدة عجوز».
إلا أنه عبر موقع «تويتر» تحولت اللوحة إلى الصورة التي تمثل دوقة غولدبلات، المؤلفة الخيالية لكتب لم تظهر في الواقع قط مثل «فأس للطحن» و«التهام جثث أعدائي: قصة حب» و«ليس إذا قتلت أنا أولاً»، قصة تدور حول الأمومة. ويتضمن جمهور متابعيها البالغ عددهم نحو 25000 شخص كثيراً من الشخصيات الأدبية المشهورة بخفة الظل، منها إليزابيث مكراكين، وألكسندر تشي، ولورا ليبمان.
جدير بالذكر، أن دوقة غولدبلات انضمت إلى «تويتر» عام 2012، ومنذ ذلك الحين نجحت في أن تبني حول نفسها هالة ثرية من الأساطير. وفي الأوقات التي لا تطرح خلالها أفكاراً فلسفية حول التعاطف والخبز المحمص والكلاب، فإنها تنطلق في السخرية من الحياة بمنطقة «كركيد باث» في نيويورك، التي يفترض أنها دوقتها الخيالية، والواقعة على بعد 10 دقائق إلى الشمال من مانهاتن و10 دقائق جنوب الحدود الكندية.
في الواقع، ليس هناك خط محدد لتغريدات دوقة غولدبلات، لكن يمكن وصفها بوجه عام بأنها تمزج بين الأفكار السائدة والسريالية، مع مسحة حنو تشبه سلوك الجدات أو أحياناً تتسم نبرتها ببعض الحدة. وكثيراً ما تكتب عن محاولاتها الحفاظ على رجاحة عقلها. على سبيل المثال، كتبت ذات مرة تقول «خلقت لنفسي بعض السلام والهدوء اليوم، بعد أن دفنت أحزاني داخل علبة قهوة أسفل شجرة صفصاف باكية الخريف الماضي». ويعتبر حساب دوقة غولدبلات من الأماكن القليلة على مستوى شبكة الإنترنت المكرسة لنشر البهجة الخالصة. كما أنها تعد بمثابة نموذج ناجح للكتابات الأدبية عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
ونظراً لوجود عدد كبير للغاية من الكتّاب والممثلين بين متابعي دوقة غولدبلات، ساد اعتقاد منذ فترة طويلة بأن من يقف وراء الحساب أحد الشخصيات العامة. من ناحيتها، تصر الكاتبة التي تقف خلف الحساب على أن هذا الأمر ليس صحيحاً، رغم كونها كاتبة محترفة. وقالت خلال مقابلة أجرتها عبر الهاتف «هذا أمر يبدو لي أشبه بنكتة، فالدوقة شخصية شهيرة باعتبارها شخصية خيالية، أما أنا فلست كذلك. على الإطلاق».
ومع ذلك، يقف المعجبون المخلصون للدوقة على وشك معرفة حقيقة هوية الشخص الذي يقف خلفها، ذلك أن دار «هوتون ميفلين هاركورت» تستعد لنشر سيرتها الذاتية «التحول إلى دوقة غولدبلات»، الثلاثاء.
تجدر الإشارة هنا إلى أن من يعرفون الهوية الحقيقية لصاحبة الحساب عدد قليل للغاية، بينهم شخصان داخل دار «هوتون ميفلين هاركورت» وعدد قليل من الأصدقاء المختارين الذين تعرفت عليهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي والتقوا بها على نحو شخصي. ورفضت دار النشر كشف شخصية دوقة غولدبلات الحقيقية، بينما قال أصدقاء آخرون، إنهم ينوون حمل هذا السر معهم إلى القبر.
من ناحيتها، قالت تينا جوردون، المحررة لدى صحيفة «ذي نيويورك تايمز» وأحد القراء المنتظمين لكتابات الدوقة، إن جهودها لسبر أغوار الكاتبة التي تقف خلف الحساب كانت دون طائل حتى الآن.
وتستعرض السيرة الذاتية جذور شخصية دوقة غولدبلات باعتبارها وليدة الرغبة في خوض نشاط لمعاونة الكاتبة على التغلب على أزمة طلاقها. وجرت صياغة الكتاب بأكمله بصوت الكاتبة الشخصي، بينما تخللته بعض تغريدات الدوقة أينما بدا ذلك مناسباً.
وقالت الكاتبة عن الشخصية الخيالية التي ابتكرتها «بدأت على (فيسبوك) كشيء لطيف أفعله من أجل نفسي». وبعد أن تخلى عنها أقاربها وأصدقاؤها في أعقاب طلاقها، وفي مواجهة ليالي وحدة طويلة خلال الأوقات التي كان يبقى فيها نجلها البالغ ست سنوات برفقة والده، شرعت الكاتبة في نسج ألمها في صورة عبارات تبعث على البهجة عبر الإنترنت. وسرعان ما انضم إليها غرباء.
وقالت إنه لسنوات طويلة داوم زوجها السابق على إخبارها أنها تفتقر إلى خفة الظل. وقالت «كان شديد الاهتمام بالمظاهر، ودائماً ما رغب في أن يبدو الأكثر مرحاً وطيبة وذكاءً، وكان يشعر بالضيق في أي لحظة يشعر خلالها أنني تفوقت عليه».
وبعد هجرتها من «فيسبوك» إلى «تويتر»، نجحت الدوقة في اجتذاب انتباه المجتمع الأدبي والمغني المفضل لدى الكاتبة التي ابتكرتها، ليل لوفيت.
وعن ذلك، قال لوفيت «وقعت عيني بالصدفة على تغريدة ذكرت خلالها اسمي، وتساءلت في نفسي: (ما هذا؟)، وعندما دخلت صفحتها ورأيت سلسلة التغريدات الخاصة بها استمتعت بكتابتها على الفور».
في ذلك الوقت، كان لوفيت في جولة غنائية، ويقيم في فندق فاخر في واشنطن العاصمة، عندما أخذ يتطلع شكل الصورة التي أبدعها فارنز هالز. وبعث لصاحبة الحساب برسالة مباشرة يدعوها خلالها لحضور حفل غنائي له.
وقال لوفيت «تتميز المرأة التي تقف خلف ذلك الحساب بالقدر ذاته من الطيبة والذوق والذكاء الذي تمتاز به الدوقة». ومنذ ذلك الحين، أصبح الاثنان صديقين في الحياة الواقعية، وأسهم بصوته في النسخة المسموعة من كتاب «التحول إلى دوقة غولدبلات».
وكان لوفيت أول من اقترح على الدوقة أن تؤلف كتاباً عن تجربتها. وقال «أخبرتها من البداية أنني أعتقد أن عليها تأليف كتاب بالنظر إلى حجم المتابعة الذي أصبحت تحظى به».
وبمرور الوقت، تعرف لوفيت على بعض معجبي الدوقة في الواقع أيضاً، مثل مسؤول التحرير في دار «راندوم هاوس»، بنجامين درير الذي زار منزل لوفيت في تكساس. كما حضر بعض معجبي الدوقة حفلاته على نحو جماعي. وقال لوفيت «ثمة إنجاز كبير وراء تمكن المرء من بناء مجموعة ما على نحو افتراضي ومجهول الهوية هذه الأيام»، خاصة عندما تكون المشاعر هي الرابط بين أفراده، وليس المصالح المشتركة.
وتصر الكاتبة التي تقف وراء حساب الدوقة، على أن كتابات الدوقة لا يجري التفكير بها وكتابتها مسبقاً، وإنما يحتل تفكير الدوقة جزءاً من عقلها. وقالت «إنها معي دوماً، مثلما ترافقنا الأشباح، والموتى. أحياناً أشعر بوجودها عند مرفقي أو كتفي. وبعض الأحيان لا أكترث كثيراً، وإنما أتوجه إلى هاتفي فحسب وأفتح (تويتر) وفي لحظة أصبح أنا الدوقة». وشبهت استجابات متابعيها بـ«حفلة كوكتيل مستمرة» أو «حضور صالون ثقافي».
من ناحية أخرى، يشعر بعض الناشرين بالقلق إزاء إطلاق كتاب «التحول إلى دوقة غولدبلات» دون كشف هوية المؤلف، ويساور القلق مسؤولي قسم الدعاية والتسوق على وجه الخصوص. في المقابل، ترى لوسي كارسون، وكيلة أعمال الكاتبة، أن الهوية المجهولة جزء من سحر الكتاب.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

إيلون ماسك سيستضيف زعيمة اليمين المتطرف الألمانية في مقابلة مباشرة

أوروبا صورة ملتقطة في 17 ديسمبر 2024 بالعاصمة الألمانية برلين تظهر فيها أليس فايدل زعيمة الكتلة البرلمانية لحزب «البديل من أجل ألمانيا» خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)

إيلون ماسك سيستضيف زعيمة اليمين المتطرف الألمانية في مقابلة مباشرة

أعلنت المرشحة الرئيسية للانتخابات البرلمانية الألمانية عن حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، أنها ستُجري حواراً مباشراً عبر الإنترنت مع إيلون ماسك.

«الشرق الأوسط» (برلين)
الاقتصاد الملياردير الأميركي إيلون ماسك (رويترز)

تمديد مهلة ماسك للرد على عرض تسوية التحقيق في «تويتر»

مددت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية مهلة حتى الاثنين المقبل، أمام إيلون ماسك للرد على عرضها لحسم تحقيق في استحواذه على «تويتر» مقابل 44 مليار دولار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم إيلون ماسك خلال مؤتمر في فندق بيفرلي هيلتون في بيفرلي هيلز - كاليفورنيا بالولايات المتحدة 6 مايو 2024 (رويترز)

إيلون ماسك ينتقد مقترح أستراليا بحظر منصات التواصل الاجتماعي على الأطفال

انتقد الملياردير الأميركي إيلون ماسك، مالك منصة «إكس»، قانوناً مُقترَحاً في أستراليا لحجب وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
الولايات المتحدة​ إيلون ماسك رئيس شركة «تسلا» ومنصة «إكس» (أ.ب)

إيلون ماسك يسخر من مسؤول كبير في «الناتو» انتقد إدارته لـ«إكس»

هاجم إيلون ماسك، بعد تعيينه مستشاراً للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، مسؤولاً كبيراً في حلف شمال الأطلسي (ناتو).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا الملياردير الأميركي إيلون ماسك مالك منصة «إكس» (رويترز)

صحف فرنسية تقاضي «إكس» بتهمة انتهاك مبدأ الحقوق المجاورة

أعلنت صحف فرنسية رفع دعوى قضائية ضد منصة «إكس» بتهمة استخدام المحتوى الخاص بها من دون دفع ثمنه.

«الشرق الأوسط» (باريس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)