عودة الطيران الدولي بقيود... وإجراءات مشددة في المطارات

ارتداء الأقنعة والجلوس على مقاعد متباعدة من الضروريات

مضيفة تقيس درجة حرارة مسافر في مطار أورلي بباريس في اليوم الأول لعودة الملاحة (رويترز)
مضيفة تقيس درجة حرارة مسافر في مطار أورلي بباريس في اليوم الأول لعودة الملاحة (رويترز)
TT

عودة الطيران الدولي بقيود... وإجراءات مشددة في المطارات

مضيفة تقيس درجة حرارة مسافر في مطار أورلي بباريس في اليوم الأول لعودة الملاحة (رويترز)
مضيفة تقيس درجة حرارة مسافر في مطار أورلي بباريس في اليوم الأول لعودة الملاحة (رويترز)

في أفضل التقديرات لن تعود حركة الطيران التجاري إلى كما كانت عليه قبل وباء «كوفيد - 19» قبل عام 2024. وما زال قطاع الطيران هو الأكثر تضرراً من آثار الوباء، حيث لم تبدأ أي رحلات جوية منتظمة إلا على نطاق ضيق سواء في رحلات داخلية أو بين دول تحكمت في انتشار الوباء مثل أستراليا ونيوزلندا، وداخل الاتحاد الأوروبي.
السفر الجوي في المرحلة المقبلة سوف يختلف عمّا كان يعهده المسافر من قبل. فسوف تتم إعادة ترتيب المقاعد داخل الطائرات لضمان مساحات رحبة بين الركاب مع ضرورة البقاء في المقاعد خلال السفر وارتداء أقنعة الوجه طوال الوقت للركاب والطواقم على السواء.
وفي بريطانيا بدأت شركة «إيزي جت» في تنظيم رحلات داخلية محدودة بين لندن ومدن اسكوتلندا كما أعلنت شركات أخرى عن استئناف بعض رحلاتها خلال شهر يوليو (تموز) 2020.
النصيحة الرسمية البريطانية من وزارة الخارجية تُلزم المسافرين عند استئناف رحلات الطيران مرة أخرى بتسجيل بطاقات الصعود إلى الطائرات على الإنترنت قبل الحضور إلى المطار. كما تشمل النصيحة عدم الاعتماد على المواصلات العامة التي تعمل بأقل من طاقتها، والمرور من المطار بلا لمس لأيٍّ من الأسطح واستعمال مطهر اليدين بعد المرور من منطقة الأمن وفحص الحقائب اليدوية.
ويجب اتباع إجراءات المطارات من على مواقعها الإلكترونية. وتشمل إجراءات مطار مانشستر البريطاني حجز موعد لمدة 15 دقيقة للمرور من منطقة التفتيش الأمني قبل الوصول إلى المطار بنحو ساعتين، بينما يعلن مطار «غاتويك» عن الإجراءات المطلوبة من خلال فيديو على موقعه.
وفي المطار، سوف يجد المسافر أن كل العاملين يرتدون الأقنعة ويرى حواجز زجاجية حول مكاتب شركات الطيران وفحص الجوازات مع علامات على الأرضية لتنظيم مرور الركاب والحفاظ على مسافات التباعد الاجتماعي. وتعيد المطارات ترتيب أماكن الجلوس حتى لا تقترب المقاعد بعضها من بعض بأقل من متر واحد. كما أُضيفت محطات لتعقيم اليدين بسوائل كحولية. وتطبق شروط التباعد في المحلات العامة بينما تفتح المطاعم أبوابها لتسليم الأطعمة أو توفير المقاعد لعدد محدود من الزبائن.
وتنتشر في المطارات عمليات التنظيف الدائمة خصوصاً في مناطق اللمس مثل الأبواب ودورات المياه ومناطق الفحص الأمني. وفي المطارات الكبرى توجد نقاط لقياس حرارة المسافرين، وهي تحت التجربة حالياً في المطارات البريطانية وتطبَّق في بعض مطارات الخليج. ولا توقف المطارات أياً من المسافرين وإنما تترك هذه المهمة لكشف آخر تجريه شركات الطيران نفسها. ولدى شركات الطيران الحق القانوني في منع أي مسافر من الصعود إلى الطائرة في حالة الشك في مرضه أو إصابته بـ«كورونا».
من الضروري أيضاً الامتناع عن الذهاب إلى المطار في حالة ظهور أعراض «كورونا» خلال فترة الأسبوعين السابقين للسفر، حيث يتعين على المريض أن يعزل نفسه ولا يقترب من آخرين منعاً للعدوى.
في مرحلة الصعود إلى الطائرة يقوم الركاب أنفسهم بمسح بطاقات الصعود إلى الطائرة إلكترونياً مع حمل جواز السفر إلى جانب الوجه في أثناء المرور إلى الطائرة لفحصه من موظفي الشركة. وفي حالة العودة إلى بريطانيا يملأ الراكب بطاقة عودة عليها معلومات عن سفره وعنوانه. وفي الوقت الحاضر يتعين على الزوار والعائدين عزل أنفسهم منزلياً لمدة أسبوعين، وتراجع الحكومة البريطانية حالياً هذا الإجراء الذي تعترض عليه بشدة شركات السياحة.
ويتم التعامل داخل الطائرة مثلما هو الحال في الأجواء المغلقة على الأرض بارتداء الكمامات طوال الوقت للمسافرين والطواقم على السواء والجلوس في المقاعد لأطول فترة ممكنة ودفع ثمن المشروبات أو المشتريات بالبطاقات وبأسلوب عدم اللمس. وتنصح وزارة الخارجية البريطانية بحمل أكثر من قناع للوجه في الرحلات الطويلة.
ويتم الحد من تقديم العديد من المشروبات لتقليل فرص الاحتكاك بين الطاقم والركاب. وتختلف إجراءات الشركات بعضها عن بعض وعلى الركاب التعرف على هذه الإجراءات واتباعها بدقة. ويمكن متابعة تفاصيل إجراءات الشركات من على مواقعها الإلكترونية على الإنترنت.
وبعد الوصول إلى مطارات وجهة السفر يتعين على الركاب الاستمرار في ارتداء الأقنعة حتى الخروج من المطارات، كما تجري عملية قياس درجات الحرارة للركاب عند الوصول. وهنا أيضاً تختلف القواعد بين مطار وآخر ويجب التعرف عليها بقراءة مواقع الدول والمطارات على الإنترنت قبل الوصول.
وتوفر وزارة الخارجية البريطانية معلومات حول مطارات العالم كما يمكن الحصول على تنبيهات على الهاتف الجوال عن أي تغييرات جوهرية في الإجراءات.
ويطبق مطار تشارل ديغول الفرنسي قياس حرارة الركاب عبر ممر خاص. وإذا زادت حرارة أي راكب من القادمين إلى البلاد عن 38 درجة مئوية يتم فصله عن بقية الركاب وقياس درجة حرارته مرة أخرى بأداة لا تحتاج إلى اللمس. وإذا استمرت درجة الحرارة عالية عن المعدل الطبيعي يتم اصطحابه إلى طبيب المطار.
وتطبق مطارات أوروبا إجراءات مشابهة في قياس درجات الحرارة بينما تلجأ اليونان إلى إجراء اختبارات «كورونا» للمسافرين القادمين من مناطق عالية الخطورة من خارج الاتحاد الأوروبي. ويتم أيضاً تعقيم الطائرات القادمة من هذه الدول. وبعد الفحص، قد يتعرض أي راكب مصاب للعزل في محل إقامته.
- إجراءات شركات الطيران على متن طائراتها
> أعلن بعض شركات الطيران نيات استئناف الخدمة التجارية خلال أسابيع مع الانفتاح التدريجي لمطارات العالم والمناطق السياحية. النماذج التالية توضح للمسافر ما يتعين عليه أن بتبعه في أثناء السفر على متن الطائرات في المرحلة المقبلة:
> «الخطوط السعودية»: بدأت الخطوط السعودية تشغيل بعض الرحلات الداخلية وتقتصر الرحلات الخارجية حالياً على إعادة المواطنين والمقيمين. ويتم التشغيل التدريجي للرحلات لضمان رحلات آمنة مع اتخاذ كل الإجراءات الوقائية والتدابير الصحية اللازمة. وتطبق الشركة معايير ارتداء أقنعة الوجه ومطهرات اليد والتباعد الاجتماعي بين الركاب.
> «طيران الاتحاد»: أعادت تصميم مقصورات الركاب بأغطية للمقاعد وسجاد جديد. يحصل الركاب على حقيبة صغيرة بها قفازات وقناع للوجه. الوجبات تلتزم بمعايير صحية دقيقة. ويسمح بحقيبة يد واحدة لا يزيد وزنها على خمسة كيلوغرامات.
> «طيران الإمارات»: أقنعة الوجه ضرورية للركاب والطاقم على السواء. خفض وزن حقائب اليد إلى الحد الأدنى. يحصل الركاب إلى دبي على حقائب بها مطهر لليدين وأقنعة للوجه. بعض خدمات التلفزيون الحي والإنترنت لن تكون متاحة على بعض الرحلات.
> «الخطوط البريطانية»: يحصل الركاب على مطهر لليدين ومناديل مضادة للفيروسات. لا بد من ارتداء الأقنعة والبقاء في المقاعد. إلغاء وجبات الأطفال والوجبات الخاصة مع ضرورة تغيير الأقنعة كل أربع ساعات.
> «إيزي جت»: تعميم أقنعة الوجه على الركاب فوق سن ست سنوات. يتعامل الراكب بنفسه مع تخزين أمتعته فوق مقعده. ينظم الطاقم استخدام دورات المياه. لا توجد حالياً خدمات تقديم وجبات ويتاح الماء لمن يطلبه.
> «النرويجية»: ضرورة ارتداء أقنعة الوجه لمن هم فوق عمر ست سنوات. منع تقديم الوجبات على بعض الرحلات القصيرة مع إتاحة قارورات الماء لمن يريد شراءها. منعت الشركة أيضاً بيع هدايا السوق الحرة على الطائرات. تفضيل تخزين حقيبة اليد الصغيرة تحت المقعد لمنع لمس أسطح المقصورة.
> «فرجن أتلانتيك»: يحصل الركاب على حقيبة صحية فيها أقنعة وجه ومطهر لليدين ومناديل مضادة للفيروسات. ويرتدي الركاب أقنعة الوجه في أثناء الطيران. وتترك الشركة بعض المقاعد شاغرة للحفاظ على مسافات آمنة بين الركاب. لن يحصل الركاب على مجلات ولا على مشتريات السوق الحرة. تقديم وجبات وعصير برتقال في الرحلات الطويلة ومنع تقديم الكحول.


مقالات ذات صلة

المجال الجوي للنمسا من دون مراقبة عسكرية بسبب إجازات المراقبين

أوروبا إحدى مراقبات الحركة الجوية لدى شركة «أوسترو كونترول» (صفحة الشركة عبر «فيسبوك»)

المجال الجوي للنمسا من دون مراقبة عسكرية بسبب إجازات المراقبين

خلا المجال الجوي للنمسا من المراقبة العسكرية خلال العطلة الأسبوعية الحالية؛ نظراً لأن مراقبي الحركة الجوية التابعين للجيش النمساوي اضطروا إلى أخذ إجازة.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
الاقتصاد الشيخ الدكتور عبد الله بن أحمد آل خليفة خلال جولته في معرض البحرين الدولي للطيران (بنا)

وزير المواصلات لـ«الشرق الأوسط»: البحرين تتجه للاستثمار في الطائرات الكهربائية

تتخذ البحرين خطوات مستمرة للاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، والاعتماد على الحلول البيئية المستدامة؛ مثل الطائرات الكهربائية والطاقة المتجددة في تشغيل المطارات.

عبد الهادي حبتور (المنامة)
الاقتصاد تستمر أعمال معرض البحرين الدولي للطيران حتى الجمعة (الموقع الرسمي)

شركات طيران: المنطقة بحاجة إلى السلام والهدوء

على هامش معرض البحرين الدولي للطيران، أجرت «الشرق الأوسط» مقابلات مع عدد من مسؤولي شركات الطيران الذين شددوا على حاجة المنطقة إلى السلام.

عبد الهادي حبتور (المنامة)
الاقتصاد الأمير سلمان بن حمد مع أطقم الصقور السعودية المشاركة (الموقع الرسمي للمعرض)

ارتفاع نسبة المشاركة بأكثر من 30 % في معرض البحرين الدولي للطيران

افتتح ولي العهد البحريني الأمير سلمان بن حمد، معرض البحرين الدولي للطيران 2024 بقاعدة الصخير الجوية، وسط حضور إقليمي ودولي واسع لشركات الطيران، وصناع القرار.

عبد الهادي حبتور (المنامة)
الاقتصاد ولي العهد البحريني الأمير سلمان بن حمد آل خليفة خلال افتتاح النسخة السابقة للمعرض (الموقع الرسمي)

معرض البحرين الدولي للطيران 2024 نحو تطوير الشراكات ودفع الابتكار

تحت رعاية الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ينطلق الأربعاء معرض البحرين الدولي للطيران 2024، بمشاركة كبريات شركات الطيران والدفاع والفضاء العالمية.

عبد الهادي حبتور (المنامة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)