عندما بدأت جائحة «كوفيد - 19» تفتك بضحاياها مطلع مارس (آذار) الماضي في إيطاليا وإسبانيا، اكتشف العالم أن الأبطال الحقيقيين في هذه الحرب الصامتة هم أفراد الطواقم الصحيّة الذين كانوا خط الدفاع الأمامي والوحيد في وجه الوباء، الذي كشف هزال أفضل النظم الصحية في العالم، وعجز الدول الصناعية الكبرى عن التصدي لفيروس لا تراه العين المجردة.
فجأة، تحول الممرضون والأطباء إلى مفخرة وطنية تخرج الملايين المحتجزة في بيوتها إلى الشرفات كل مساء، تصفق لهم وتطلق الهتافات تحية لتضحياتهم وشجاعتهم وتكريماً لجهودهم في العناية بالمرضى الذين كانوا يتكدسون على أسرّة المستشفيات.
لكن أزمة الوباء كشفت أيضاً أن «أبطال» هذه الحرب دفعوا ثمناً باهظاً لبطولتهم، حيث قضى في إيطاليا وحدها ما لا يقلّ عن 184 طبيباً و51 ممرضاً، وبلغ عدد المصابين منهم في إسبانيا 48 ألفاً وقضى أكثر من 75، بينهم 39 طبيباً. ويفيد المعهد الإيطالي العالي للصحة عن عشرات حالات الانتحار في صفوف الطواقم الصحية منذ بداية الأزمة. وليس مستغرباً أن الدرس الأول الذي استخلصته الحكومات من هذه الجائحة هو ضرورة تعزيز العناية الأولية في النظم الصحية، وتوفير الموارد والتجهيزات والرعاية اللازمة للممرضين والأطباء. وكانت المفوضية الأوروبية قد اشترطت أن تخصص المساعدات التي ستحصل عليها الدول الأعضاء من خطة الإنقاذ لتعزيز القطاع الصحي وتحسين ظروف عمل الطواقم الصحية.
لم يكن سراً أن العمل في القطاع الصحي يقتضي جهداً خاصاً، وله تبعات نفسية حتى في الظروف العادية. لكن حجم المأساة التي نشأت عن جائحة فيروس كورونا وضع المنشآت والطواقم الصحية أمام مشهد غير مسبوق، ومتطلبات لم تكن مستعدة لها. يضاف إلى ذلك أن إيطاليا وإسبانيا اللتين تفخران باثنين من أفضل النظم الصحية في العالم، تعانيان من عجز كبير في عدد الأطباء والممرضين منذ سنوات، نتيجة بعض برامج خصخصة القطاع الصحي، لا سيما في إقليمي لومبارديا ومدريد اللذين كانا الأكثر تضرراً.
شهادات الممرضين والأطباء ترسم صورة مؤثرة عن المعاناة التي عاشوها خلال الأزمة، وعن الإحباطات التي شعروا بها والضغوط النفسية التي ما زالوا يجرون عواقبها. يقول باولو ميراندا، وهو ممرض في أحد مستشفيات مدينة كريمونا بإقليم لومبارديا: «ما زلنا نشعر بأننا محاطون بالعتمة... مثخنون بجراح لا يراها أحد، ونرزح تحت وطأة معاناة ما عشناه ولم يتح لنا الوقت لإدراك قسوته، ونراه اليوم أمامنا في كل لحظة».
مونيكا ماريوتي ممرضة في قسم العناية الفائقة في المستشفى نفسه تقول إن «كل شيء الآن أصعب مما كان عليه في أيام الأزمة. يومها، كنا نقاتل عدواً ولا وقت لدينا للتفكير والتأمل، لكن بعد أن صار بوسعنا التذكر واستحضار ما عشناه في تلك الفترة، نشعر بالضياع كأننا نسير من غير وجهة واضحة». مارتينا مونتي طبيبة من توسكانة، تخضع لعلاج نفسي منذ أسابيع وتعترف بأنها ما زالت تميل بشكل عفوي إلى حفظ مسافة التباعد الاجتماعي مع زوجها وأولادها، وتقول: «عندما نواجه وضعاً متأزماً، يفرز الجسم هرمونات تساعدنا في التحكم بالضغط والإجهاد، لكن عندما نعود إلى الوضع الطبيعي، نشعر بأن كل شيء حولنا قد ينهار. وعندما ترى من الموتى في شهرين ما لا تراه في حياتك كلها تصبح شخصاً آخر».
أنطونيو كالفو، جراح يرأس قسم العناية الفائقة في مستشفى مدريد الجامعي الذي اضطر لمضاعفة قدرته الاستيعابية في ذروة الأزمة، وكان المصابون يتكدسون في أروقته طوال أيام، يقول: «عندما كان الموت محدقاً بالجميع، تحولنا جميعاً إلى أبطال. أما الآن وقد انحسر الوباء، فلم يعد أحد ينظر إلى الطواقم الصحية كما في الأشهر الماضية... لم يعد أحد يتذكر كيف كنا نلجأ إلى أكياس القمامة البلاستيكية للوقاية من الفيروس لعدم توفر المعدات اللازمة».
وتعهدت الحكومة الإسبانية بتجهيز المنشآت والطواقم الصحية بالمعدات اللازمة قبل نهاية الشهر المقبل، تحسباً لموجة ثانية من الوباء، لكنها حتى الآن لم تتجاوب مع المطالب التي تلح عليها نقابتا الأطباء والممرضين لسد العجز الكبير في الموارد البشرية الصحية. رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي تعهد من جهته بتخصيص الدفعة الأولى من المساعدات الأوروبية للقطاع الصحي، وأعلن عن حزمة علاوات للأطباء والممرضين الذين شاركوا في جهود مكافحة الوباء بقيمة 65 مليون يورو.
التزام إسباني وإيطالي بدعم الطواقم الصحية المنهكة
التزام إسباني وإيطالي بدعم الطواقم الصحية المنهكة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة