عزلة سكورسيزي في زمن «كورونا» ... وعزلتنا

يستعد لإخراج أول فيلم «ويسترن» مع دي نيرو ودي كابريو

المخرج مارتن سكورسيزي يتحدث عن عزلته بسبب «كورونا» في شريط قصير
المخرج مارتن سكورسيزي يتحدث عن عزلته بسبب «كورونا» في شريط قصير
TT

عزلة سكورسيزي في زمن «كورونا» ... وعزلتنا

المخرج مارتن سكورسيزي يتحدث عن عزلته بسبب «كورونا» في شريط قصير
المخرج مارتن سكورسيزي يتحدث عن عزلته بسبب «كورونا» في شريط قصير

سيشعر كثيرون ممن تابعوا فيلم المخرج مارتن سكورسيزي، القصير عن العزلة القهرية التي فرضها انتشار فيروس كورونا من قيود على حرية الحركة، و«الفرملة» المفاجئة لإيقاع الحياة، كم يتماهون مع تجربة هذا المخرج الأميركي. فالنفس البشرية متشابهة في لهاثها باتجاه مشروعات العمل والمال والوظيفة، وكل ما يتطلب جهداً ذهنياً وعاطفياً وجسدياً. حركة من الدوران السريع في الحياة تصبح روتينية إلى حد الملل والإرهاق. «لكن فجأة»... يقول سكورسيزي: «كل شيء توقف. حدثت الصدمة. وكُبحت الحركة».
تتقاطع رؤيته مع رؤية من يعتقدون أن لهذه «الطبيعة» ذكاء خاصاً يجعلها تتدخل لوقف كل هذا اللهاث العشوائي، الذي يشبه سباق حيوان الهامستر مع نفسه داخل قفص محدود المساحة. على كل هذا الضجيج أن يتوقف، ليلتقط الكوكب أنفاسه ويستعيد دورته الدموية ونبضه الطبيعي الذي أربكته البشرية في سعيها المحموم نحو جمع الثروات والشهرة والانتشار الجغرافي والهيمنة والمشروعات التي قد تبهج قليلاً فقط من البشر. تصيح الأرض؛ أوقفوا الطيران، أوقفوا القطارات. أوقفوا غبار الرحلات. أريد أن أتنفس بكامل رئتيّ. أنصت لغناء الطبيعة، لا لضجيج المكائن.
نعم، أخرستنا الطبيعة بسلاح غير مرئي. أجبرتنا على البقاء في ديارنا، وذكرتنا بمقولة فيلسوف فرنسي حكيم، قال إن نصف مشكلات العالم تحدث لأن الإنسان يغادر غرفة نومه. لماذا تخلى البشر عن أمان غرفهم لاكتشاف العالم؟
ميلهم للجشع والهيمنة، دفعهم لاستكشاف أماكن أخرى وأشخاص وذهنيات، مدججين بالفضول واللامبالاة وبأسلحة أخرى أكثر خطورة. قادهم إلى جحيم مبكر، إلى حوادث قاتلة وحروب وأوبئة فتاكة. فعلت ذلك، لتقول، اجلسوا في أماكنكم، فليس في بقية العالم غير احتمالات الفناء، مقابل فتوحاتكم وجشعكم. لماذا لم تلزموا غرفكم، كما نصحكم ستاندال قبل 5 قرون؟
سكورسيزي في فيلمه القصير الذي أنجزه لصالح سلسلة حلقات «ثقافة العزل» في القناة الثانية لتلفزيون «بي بي سي»، وأنهى به السلسلة التي التقت بأشخاص في عالم المسرح، والأوبرا أيضاً، ينتبه إلى أن عزلته تمت لأنه تحت الحجر. ليست خياراً شخصياً في عزلة فلسفية، ولا استراحة قصيرة. إنها العزلة غير المخطط لها. المريحة في بدايتها، وهي تمنح صاحبها فرصة إعادة شحن ذهنه وصحته. تأجّلت المهام والمشروعات السينمائية المخطط لها هذا العام، واللوم لا يقع على أحد. لا شركات إنتاج أو مواقع تصوير غيّرت دولها، ولا اشتراطات أبطال الفيلم مَن عرقل العمل.
ينتبه سكورسيزي، أحد أشهر مخرجي هوليوود، للمطبّ النفسي. الحجر طال. وهو ليس حرّ الحركة داخل مكانه. مشروعات أفلامه المعرقلة تنتظر حلاً، كما تنتظر بقية شعوب الأرض إنجاز مشروعاتها، صغيرة أم كبيرة. والحلّ مقيد بمعامل الأدوية ومختبرات اللقاحات التي ستمنحنا مناعة التصدي لأغرب عوامل فناء الإنسان في القرن الحادي والعشرين. إنه ليس السرطان هذه المرة، ولا فيروس نقص المناعة.
يحكي سكورسيزي عن الظرف الجديد، ويجاهد لكي يبدو طبيعياً في بوحِهِ. وما الذي يمكن أن يفعله المخرج المعزول قسراً، غير أن يدور بكاميرته في أنحاء مكتبه وقرب نافذته، مسرب الضوء الطبيعي الوحيد في العزل. يحرك الكاميرا بيد مرتجفة قليلاً داخل المكان، ويعود إلى حيث بدأ، مثل شبيهه الهامستر المخدوع بحرية الحركة.
توتره من طول الإقامة الجبرية يتجلى بتلعثم، وفي حركة الكاميرا: «متى سأخرج من هنا؟». يتوسل للمطلق: «متي سأبدأ في إنجاز فيلمي» (كان يستعد لأول فيلم «ويسترن» في حياته جامعاً روبرت دي نيرو، ودي كابريو). يتوسل ليسمعه أحد، ويفرج عنه، وكأن الوقت لن يسعفه كثيراً (عمره77 سنة) كي ينجز المتراكم من مشروعات الأفلام. يلعب بتقنيات الإضاءة في الغرفة، فتهبط على وجهه، وتتوزع على أفيشات أفلام وصور وأرفف الكتب خلفه. يختار مقطعين من أفلام هيتشكوك الغامضة، ليوضح معنى الشعور بالمحاصرة تحت الإقامة الجبرية. في الخلفية، موسيقى تزيد من الـمؤثرات لكي لا تبدو شهادته عن العزلة بسبب فيروس كورونا، شبيهة بشهادة شخص لا صلة له بالسينما.
ومثل أي فيلم يحتاج إلى نهاية منفرجة بعد تكثيف الأحداث وارتفاع منسوب التوتر لدى المتلقي. يستسلم مخرج فيلم «الآيرلندي» الذي رشح للأوسكار هذا العام، ويتصالح مع الوقت: «قلت لنفسي... أنت جالس وحدك. وزمنك يتخذ مظهراً آخر. لا يزال إحساسي أنه لا نهاية في المنظور القريب (لهذا الوضع)». تسود نبرة أهدأ بعد شحنة التوتر والنظرة السلبية التي انطلق منها للعزلة، ويرى أن اختباره لهذا الوقت (تجربة الحجر) فيه كثير من الإيجابيات. يخاطب نفسه: «لم تكن جالساً لا تفعل شيئاً. أنت هنا. ولا تزال موجوداً». يتذكر أصدقاءه وأفراد أسرته. «هذا هو الدرس القسري الذي تعلمته من التجربة». درس جوهري للجميع على ما يبدو. فهو يقضي وقتاً أطول مع أحبته. ويعتني بهم أكثر مما كان يسمح له وقته في السابق.
كثيرون يشاركونه الشعور أن لا أفق لختام حقبة، تحكم فيها فيروس خطر بالعالم، كما يحدث في الأفلام. هل سنعود لمكاتب عملنا. هل سنتمكن من السفر في إجازات للاسترخاء، أو لقاء أحبة محبوسين بدورهم في عزلة الوباء. إحساسه استقر على الاستسلام للعزلة الحرجة، مع شعور حقيقي بالتحرر من الأعباء اليومية. قد يكون إحساساً مؤقتاً ونزقاً كما في أمزجة البشر. المبدعين خاصة. لكن في هذه اللحظة التي تحاصرنا، نطلق معه، كلٌ من مكان عزلته، زفرة الاسترخاء. ببساطة «لأنه لا يمكنك فعل أي شيء آخر». كما ينصحنا مارتن سكورسيزي.


مقالات ذات صلة

أفلام فلسطينية ولبنانية عن الأحداث وخارجها

يوميات الشرق جانب من مهرجان «القاهرة السينمائي» (رويترز)

أفلام فلسطينية ولبنانية عن الأحداث وخارجها

حسناً فعل «مهرجان القاهرة» بإلقاء الضوء على الموضوع الفلسطيني في هذه الدورة وعلى خلفية ما يدور.

محمد رُضا (القاهرة)
يوميات الشرق صناع الفيلم بعد العرض الأول في المهرجان (القاهرة السينمائي)

مخرج مصري يوثّق تداعيات اعتقال والده في الثمانينات

يوثق المخرج المصري بسام مرتضى في تجربته السينمائية الجديدة «أبو زعبل 89» مرحلة مهمة في حياة عائلته.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق كشف عن نقاط اتفاق وخلاف مع أستاذه المخرج يوسف شاهين

يسري نصر الله: أفلامي إنسانية وليست سياسية

قال المخرج المصري يسري نصر الله، إنه لم يقدم أفلاماً سياسية في مسيرته سوى فيلم «الماء والخضرة والوجه الحسن» الذي تحدث عن العيش والحرية والكرامة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من الفيلم اللبناني «أرزة» (إدارة مهرجان القاهرة السينمائي)

«أرزة»... فيلم لبناني عن نساء أرهقتها ضغوط الحياة

عن معاناة لسيدة لبنانية تتحمّل مسؤولية تأمين لقمة العيش لابنها وشقيقتها، تدور أحداث الفيلم اللبناني «أرزة» الذي عُرض ضمن مسابقة «آفاق السينما العربية».

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق دار الأوبرا المصرية حيث تُقام الدورة 45 لمهرجان القاهرة السينمائي (أ.ب)

مهرجان القاهرة السينمائي انطلق بثبات وموقف

أن يحضر ممثلو شركات إنتاج عربية أو أجنبية ليس وضعاً خاصاً بالنسبة إلى مهرجان القاهرة، لكنه دلالة على اهتمام شركات عاملة في مجالي الإنتاج والتوزيع بهذا المهرجان.

محمد رُضا (القاهرة)

ترميم 3 أفلام مصرية ضمن «كنوز البحر الأحمر»

ترميم فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» (إدارة مهرجان البحر الأحمر السينمائي)
ترميم فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» (إدارة مهرجان البحر الأحمر السينمائي)
TT

ترميم 3 أفلام مصرية ضمن «كنوز البحر الأحمر»

ترميم فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» (إدارة مهرجان البحر الأحمر السينمائي)
ترميم فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» (إدارة مهرجان البحر الأحمر السينمائي)

أعلن مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي عن ترميم وعرض 3 أفلام مصرية خلال الدورة الرابعة من المهرجان، المقرر إقامتها في الفترة من 5 حتى 14 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، في مدينة جدة التاريخية.

ويأتي عرض الأفلام الثلاثة وهي: «العيش والملح»، و«اضحك الصورة تطلع حلوة»، و«شفيقة ومتولي»، ضمن برنامج «كنوز البحر الأحمر»، بعد ترميمها بالشراكة مع مدينة الإنتاج الإعلامي في مصر.

وقال أنطوان خليفة، مدير البرامج العربية وكلاسيكيات الأفلام: «انسجاماً مع التركيز هذا العام على السينما المصرية في جميع برامجنا، نفخر بتقديم مجموعة مختارة من الروائع المصرية ضمن برنامج (كنوز البحر الأحمر)، الذي يعكس التاريخ الغني والمذهل للسينما في هذا البلد».

وأشاد خليفة بدور الممثلات والمنتجات في تطوير السينما المصرية، مثل نعيمة عاكف، وسعاد حسني، ومنى زكي، وليلى علوي، وذلك من خلال الأفلام الثلاثة المرممة، حسب البيان الصادر من المهرجان، الذي يحمل شعار «للسينما بيت جديد».

ترميم فيلم «شفيقة ومتولي» في مهرجان البحر الأحمر السينمائي (إدارة المهرجان)

وتدور أحداث فيلم «العيش والملح»، الذي يعود إنتاجه إلى أواخر أربعينات القرن الماضي، حول «بثينة» التي تترك «صابر» في الحارة، لكنها تعود بعد وفاة والدها، وتبدأ في اتخاذ مسار يتناقض مع عادات الحارة، ويبدأ صابر في انتقاد تصرفاتها، حتى تضطر للفرار والعمل في ملهى ليلي، والفيلم بطولة نعيمة عاكف، وسعد عبد الوهاب، وقصة وإخراج حسين فوزي، وسيناريو بديع خيري.

فيما يعود إنتاج فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة»، لأواخر تسعينات القرن الماضي، وهو من بطولة أحمد زكي، وليلى علوي، ومنى زكي، وتأليف وحيد حامد، وإخراج شريف عرفة، وتدور أحداثه حول المصور الفوتوغرافي سيد غريب، الذي يترك مسقط رأسه ويذهب إلى القاهرة بحثاً عن مكان قريب من جامعة ابنته التي تواجه بدورها تحديات التأقلم مع المجتمع، وترتبط بعلاقة رومانسية مع ابن رجل أعمال.

أما فيلم «شفيقة ومتولي»، الذي اختارته الفنانة المصرية منى زكي (مكرمة هذا العام) للعرض في الدورة الجديدة من المهرجان وفق البيان، فتدور أحداثه حول متولي الذي يعود من العمل ليكتشف أن شقيقته على علاقة مع ابن عمدة المنطقة؛ والفيلم بطولة سعاد حسني، وأحمد زكي، وتأليف صلاح جاهين، وإخراج علي بدرخان.

الفنانة المصرية الراحلة نعيمة عاكف بطلة فيلم «العيش والملح» (إدارة المهرجان)

من جانبها، رحبت جنجاه عبد المنعم، أخت الفنانة سعاد حسني، بترميم الفيلم وعرضه مجدداً، مؤكدة لـ«الشرق الأوسط» أن «العمل على ترميم الأفلام فكرة رائعة للحفاظ على التراث الفني للأجيال كافة».

وأثنت الناقدة الفنية المصرية ماجدة خير الله على خطوة الترميم، واعتبرت أن «الحرص عليها من قبل المهرجانات الفنية هو خطوة رائدة للحفاظ على شريط الأفلام من التلف، خصوصاً مع طريقة التخزين السيئة»، وفق قولها.

وتضيف ماجدة لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك أفلاماً لا بد من العمل عليها سريعاً، وعرضها مجدداً لمحبي الفن السابع، لأنها ذات قيمة كبيرة وتراث لا يعوض، وملكيتها تعود للناس كافة، وليس لصناعها فقط؛ نظراً لأهميتها التاريخية، وعرضها للأجيال الحالية أمر في غاية الأهمية، للتعرف على إبداعات السينما المصرية» وفي دورته الماضية قام المهرجان بعرض فيلمين من كلاسيكيات السينما المصرية هما «انتصار الشباب»، بطولة فريد الأطرش، وأسمهان، وفيلم «عفريت مراتي»، بطولة صلاح ذو الفقار وشادية بعد ترميمهما.

.وتؤكد الناقدة الفنية المصرية فايزة هنداوي لـ«الشرق الأوسط» أن «تجديد الأفلام أصبح تقليداً مهماً خلال السنوات الماضية، واهتمام المهرجانات بهذه الخطوة يهدف للحفاظ على تراث فني عريق، ويعكس قدرة المهرجانات على جذب محبي الكلاسيكيات».