عودة القراء المتحمسين مع إعادة افتتاح المكتبات في لندن

الإجراءات الصحية لمنع انتشار الفيروس لم تقلل من اندفاعهم

مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)
مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)
TT

عودة القراء المتحمسين مع إعادة افتتاح المكتبات في لندن

مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)
مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة البريطانية (نيويورك تايمز)

وقفت كاثي سلاتر، صاحبة مكتبة «داليتش» في لندن، أمام مكتبتها منذ الساعة العاشرة من صباح الاثنين الماضي للترحيب بأول عملاء المكتبة الذين يفدون إليها للمرة الأولى منذ شهور.
كانت السلطات في المملكة المتحدة قد أذنت للمكاتب بإعادة فتح أبوابها لاستقبال العملاء اعتباراً من يوم 15 يونيو (حزيران) وللمرة الأولى منذ قرار الإغلاق العام في البلاد في مارس (آذار) من العام الجاري. وقالت السيدة سلاتر إنها تشعر بسعادة غامرة بالعودة إلى عملها، والاستعدادات الخاصة لذلك التي اشتملت على مزهرية كبيرة مستقرة على طاولة في مدخل المكتبة، فضلاً عن زجاجة كبيرة من مطهرات الأيدي على نفس الطاولة في استقبال العملاء.
ولم يكن العميل الأول هو ما كانت تصبو إليه السيدة سلاتر. فبعد نحو 20 دقيقة من افتتاح المكتبة، أطل رجل من باب المكتبة الأمامي صائحاً لمن بالداخل: «هل تبيعون قصاصات الملاحظات اللاصقة؟».
لكن، ونحو الساعة العاشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، وصلت السيدة هيلين بوم، وتوجهت مباشرةً إلى قسم كتب الأطفال، وسألت: «هل من الآمن لمس الكتب؟»، وبعد أن أوضحوا لها الأمر، تناولت كتاباً عن الأساطير اليونانية لطفلها.
وفي غضون دقائق، دلفت السيدة أوليفيا هولمز من باب المكتبة وعلى وجهها الكمامة الواقية. وكانت تبحث عن رواية «المفتدون» من تأليف تيم بيرز، وهي الجزء الأخير من ثلاثية روائية تجري أحداثها في وقت الحرب العالمية الأولى. ثم دخل عميل ثالث إلى المكتبة. ثم ظهر عميل آخر وقف عند الباب حيث اللافتة الواضحة التي تقول: «مسموح بوجود ثلاثة أشخاص كحد أقصى في الداخل».
كان جو المكتبة نابضاً بالحياة في الداخل، مع بعض القيود الطفيفة. ذلك المناخ الذي ترددت أصداؤه أيضاً لدى خمسة متاجر لبيع الكتب في العاصمة البريطانية في ذلك اليوم.
وفي صباح الاثنين، جلس باتريك كيلي، صاحب متجر «بوكمونغرز أوف بريكستون» للكتب المستعملة، وراء شاشة بلاستيكية شفافة يطالع أرفف متجره المثقلة بمختلف أنواع الكتب. وكانت تساوره المخاوف بشأن المستقبل، نظراً لانتشار أبناء الطبقة الراقية بين ربوع الحي الذي يعمل فيه، وأصبح يعتمد اعتماداً شبه كلي على وفود السياح وزوار الرحلات اليومية الذين يمرون على متجره بين الحين والآخر. وقال عن ذلك: «يمكننا معاودة العمل اليوم، ولكن متى سوف نرى السياح مرة أخرى؟ لا يمكن لأحد التنبؤ بذلك الآن».
لكن سرعان ما بدأت حفنة من العملاء في الاقتراب من المتجر والشراء. حيث اشترى باولو سوسا (40 عاماً) كتاباً عن الطب، على الرغم من أنه قال إنه لا يريده لقراءته وإنما لاقتطاع جزء من الكتاب الضخم في الداخل وإخفاء هدية لشقيقه فيها.
وفي خلفية المتجر، كان ماثيو نسوبوغا (28 عاماً) ينظر باهتمام بالغ إلى رف من كتب الخيال العلمي يحمل لافتة تقول: «أمهات كتب الخيال العلمي»، وقال إنه كان ينتظر إعادة افتتاح المتجر ببالغ الصبر لأنه يعلم أنهم يملكون الكثير من هذه المجموعات الشيقة.
وأضاف السيد ماثيو نسوبوغا أنه كان يواظب على قراءة كتب وروايات الخيال العلمي طوال فترة الإغلاق العام، ومن بينها رواية «الكثيب» من تأليف فرانك هربرت، وأن هواية قراءة الكتب هي التي ساعدته على الصمود خلال الفترة العصيبة الماضية.
وابتسم السيد كيلي – صاحب المتجر، وقال: «لقد كان ذلك رائعاً للغاية بحق»، في إشارة إلى مفاجأته بالمبيعات السريعة، وأضاف: «يبدو أن الحزن والكآبة سوف يزولان قريباً».
وفي شهر مايو (أيار) الماضي، أعلنت سلسلة مكتبات «واترستونز»، وهي أكبر سلسلة لبيع الكتب في بريطانيا وتضم أكثر من 280 فرعاً في طول البلاد وعرضها، عن اتخاذ إجراءات أمان جديدة لإعادة افتتاح الفروع. ومنها أن أي كتاب يمسك به العميل ولا يشتريه على الفور لا بد من حجزه خارج الرفوف لمدة 72 ساعة للإقلال من مخاطر انتقال العدوى.
ومع منتصف يوم الاثنين الماضي، كان الموظفون في فرع مكتبة «واترستونز» الكبير في هاي ستريت كنسنغتون يعملون على تطبيق سياسة الأمان الجديدة، وذلك بعد أن رفعوا 30 كتاباً في العربة الصغيرة على أن يجري عزلها تماماً للفترة المقررة المذكورة آنفاً.
وكان العديد من موظفي المكتبة يرتدون الدروع البلاستيكية الواقية للوجه، لكن لم يكن أي من العملاء الموجودين في المكتبة يرتدي الكمامات الواقية في الداخل.
وقال جيريمي سميث (54 عاماً) وهو مسؤول في إحدى المؤسسات الخيرية وكانت ممسكاً بدفتر يحتوي على أسماء عشرات الكتب التي يريد شراءها من المكتبة: «كنت أفتقد مكتبات بيع الكتب أكثر من أي شيء آخر»، ولقد تمكن من العثور على أحد الكتب التي يريدها وكان بعنوان: «دومينيكانا» من تأليف إنجي كروز، وهي رواية تدور حول طفلة تبلغ 11 عاماً من عمرها وأُجبرت على الزواج المبكر.
ورداً على سؤال عن الكتاب الذي ينصح الناس بقراءته احتفالاً بالخروج من حالة الإغلاق والحظر العام، قال السيد جيريمي سميث مجيباً: «أنصح الناس فقط بمواصلة القراءة وعدم التوقف عنها أبداً».
كانت مكتبة «دانت» في منطقة «ماريلبون» وسط العاصمة لندن تعد وجهة شراء الكتب للمسافرين، حيث يجري ترتيب العديد من رفوف المكتبة وفق مختلف البلدان المختلفة حتى يتسنى لرواد المكتبة العثور على الكتب حول الأماكن المختلفة التي يعتزمون زيارتها. وقال جيمس ثورنينغتون، وهو موظف لبيع الكتب هناك، إنه يأمل أن يواصل الناس الاهتمام بشراء الكتب حتى وإن لم يتمكنوا من السفر إلى الخارج في الآونة الراهنة – وربما لإشباع حلم يتوقون إلى تحقيقه في وقت قريب.
وكانت هذا هو أسلوبه الخاص المتبع خلال فترة الإغلاق السابقة كما قال. فلقد أعاد قراءة كتاب «عائلتي وحيوانات أخرى» من تأليف غيرالد دوريل، وهو يدور حول كاتب بريطاني يسرد قصة طفولته البائسة على إحدى الجزر اليونانية، وقال السيد جيمس ثورنينغتون: «جعلتني هذه الرواية أشعر بأنني أرغب في الرحيل عن البلاد على الفور».
بدا أن القليل من عملاء مكتبة «دانت» يهتمون بشراء كتب السفريات يوم الاثنين الماضي، على الرغم من أن بعض خيارات الكتب عكست رغبات ملحة في الهروب. فلقد ابتاعت السيدة سال آن ستاين (57 عاماً) كتاباً بعنوان «السنوات البراقة» وهي سيرة ذاتية من تأليف نيكولاس كولريدج رجل الأعمال البريطاني المعروف، وقالت السيدة ستاين عن ذلك: «إنها على النقيض تماماً مما يحدث في بلادنا في الوقت الراهن».
حاول متجر «وورد أون ذا ووتر» وهو عبارة عن مكتبة لبيع الكتب على متن قارب يرسو على ضفاف قناة صغيرة بالقرب من محطة «كينغز كروس» للسكك الحديدية، تجربة الافتتاح المبكر في الأول من يونيو الجاري، وذلك عن طريق إغلاق أبواب المكتبة وتداول الكتب من الرفوف المتسقة على الجزء الخارجي من القارب، ولقد تمكن ذلك المتجر المبتكر من اتخاذ تصنيف التسوق الأدبي في الهواء الطلق، وهو نوع من أنواع الأعمال التجارية التي جرى افتتاحها فور التخفيف من قيود الإغلاق في وقت سابق من الشهر الجاري.
وقال جيمس بنتلي (56 عاماً)، وهو بائع الكتب في المكتبة العائمة، إن المبيعات التي حققتها المكتبة في الأول من يونيو كانت استثنائية بكل المقاييس، حيث انطلق العديد من العملاء المعتادين إلى المكتبة للتسوق والشراء. ولكن الآن يعتمد الأمر برمّته على المارة بصورة يومية.
وبعد ظهيرة يوم الاثنين، توقف العديد من الناس لشراء الكتب من المكتبة العائمة، وكانت الروايات تحتل السواد الأعظم من المشتريات، بما في ذلك رواية الكتاب البرتغالي خوسيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل في الآداب.
وقالت لورين غيبس (34 عاماً) إنها كانت تركب دراجتها وتمر بالمكتبة عندما توقفت وقررت تصوير مقطع للفيديو باستخدام هاتفها الذكي لتسجيل أغنية تبثها المكتبة للمطربة الفرنسية الكلاسيكية الرائعة إديث بياف. ثم قررت السيدة غيبس أنها تود لو اشترت شيئاً فعلاً من المكتبة. ثم التقطت كتاباً بعنوان «قصائد موسيقى الجاز»، وهي مختارات شعرية من أعمال كل من لانغستون هيوز وغويندولين بروكس.
وقفت السيدة جو هايغيت، مديرة مكتبة «بايجيس أوف هاكني» خلف الطاولة، تنظر إلى المتجر الخالي من العملاء وقالت إنها قررت مواصلة إغلاق المكتبة في وجه العملاء حتى الآن. ويرجع ذلك بصورة جزئية إلى أن متجرها صغير للغاية، ولن تتمكن من الامتثال لقواعد التباعد الاجتماعي في بريطانيا والتي تفرض مسافة للتباعد بمقدار 6 أقدام بين كل شخصين على الأقل، وهو ما يتعذر عليها تنفيذه، حيث لن تتمكن من استقبال سوى عميل واحد فقط في كل مرة.
بيد أن السبب الآخر يتمثل في أن متجرها الصغير قد حقق نجاحاً معتبراً، بطريقة أو بأخرى، خلال فترة الإغلاق السابقة. ففي بداية الأمر، شعر الموظفون لديها بالذعر من وباء «كورونا المستجد»، وظنوا أنهم لن يتمكنوا من بيع أي شيء على الإطلاق. لكن وفي غضون شهر تقريباً، بدأت مكتبة «بايجيس أوف هاكني» إطلاق موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت – وهو الأمر الذي قالت السيدة جو هايغيت إنه كان يجدر بالشركة التفكير فيه منذ سنوات. ولقد نسبت النجاح المحقق لديها إلى قاعدة العملاء المحليين الموالين لمتجرها، فضلاً عن مدى اهتمام الأشخاص بالقراءة في الموضوعات ذات الصلة بقضايا العرق في الآونة الراهنة، وهي التيمة التي كانت مثار تأييد وتشجيع لدى المكتبة منذ فترة طويلة. وكان كتاب «قصتي مع عنصرية العرق الأبيض» من تأليف ليلى سعد من أكثر الكتب مبيعاً لدى المتجر، وكذلك كتاب «القائمة السوداء» من تأليف جيفري بواكي، كما قالت السيدة جو هايغيت صاحبة المتجر.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».