طيور غزّة تباع بمزاد إلكتروني

بث مباشر وتحفيز عبر منصّات التواصل

محمود البسيوني خلال تفقده الطيور (الشرق الأوسط)
محمود البسيوني خلال تفقده الطيور (الشرق الأوسط)
TT

طيور غزّة تباع بمزاد إلكتروني

محمود البسيوني خلال تفقده الطيور (الشرق الأوسط)
محمود البسيوني خلال تفقده الطيور (الشرق الأوسط)

في مكانٍ مغلق بسيط يقع على مقربةٍ من منزله الواقع في بلدة جباليا شمال قطاع غزة، يشدّ الانتباه تلك الغرفة الصغيرة التي خصصها الشاب محمود البسيوني برفقة عدد من أصدقائه، للانطلاق بفكرة أول مزاد إلكتروني لبيع الطيور محلياً، حيث يستعملون تقنية البث المباشر المتوفرة على منصات التواصل الاجتماعي، لتنفيذ عمليات بيع لبعض أنواع الطيور، عبر أسلوب «الدِلالة» الذي يعتمد على طرح منتج ما، لجمهور من الناس المختصين، إذ يحظى بامتلاكه الشخص الذي يدفع الثمن الأعلى.
ويقول الشاب في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «واكبنا بهذه الطريقة التطور التكنولوجي، كون معظم الناس صاروا الآن يقضون معظم أوقاتهم في تصفح مواقع الإنترنت، وحصلنا على نتائج رائعة لها علاقة بزيادة البيع، كما أنّنا تخلصنا ولو جزئياً من حاجز البطالة، الذي يقف خلفه الآلاف من الشباب في القطاع»، موضحاً أنه يركز على منصة «فيسبوك»، وذلك من باب أنّها المنصة الأكثر شعبية في فلسطين وفي أوساط مربي الطيور والتجار.
وبدأ العشريني هوايته في تربية الطيور والحيوانات الأليفة منذ الصغر، ومن شجعه على ذلك هو والده الذي كان يتاجر فيها، ويزور الأسواق المختلفة لأجلها، ويلفت إلى أنه تابع في فترات سابقة عدداً من المزادات العالمية والعربية، وتعلم من أصحابها بعض المهارات وطور من نفسه، كما أن صديقه رأفت جنيد، الذي تخرج من كلية الحقوق قبل سبع سنوات ولم يجد فرصة عمل، ساعده في ذلك، ونفذا المشروع الذي صار مع الوقت مصدر رزقهما، مع بعضهما.
وعملية البيع تبدأ وفقاً لكلام البسيوني، بتجهيز الطير المراد عرضه في المزاد وفحص حالته، من ثمّ يُنقل للغرفة، ويبدأ البث المباشر الذي تتخلله عبارات تحفيزية للمتابعين على الشراء، ويشير إلى أنّ عملية البيع الواحدة قد تستمر أحياناً لساعة، مشيراً إلى أن تلك الساعة تشهد منافسة بين المشترين على اقتناء الطير، من خلال الزيادة على المبلغ الذي دفعه أحدهم، ويلفت إلى أنّهم يكتبون السعر الراغبين بالشراء فيه عبر التعليقات وهو يتولى مهمة قراءته بشكلٍ علني وبطريقةٍ مميزة. ويتابع كلامه: «يستمر المزاد حتّى نصل إلى المبلغ المناسب، وننتقل بعدها للطير الآخر، وتسير العملية بالآلية ذاتها طوال فترة البث المباشر التي تتراوح بين 3 و5 ساعات يومياً»، منوهاً بأن عدد متابعيه في ازدياد مستمر، وصفحته على «فيسبوك» تضم حالياً ستة آلاف مشترك تقريباً، وتصل مشاهدات البث الواحد لديه إلى أكثر من 2000 مشاهدة غالباً، وهو رقم مرتفع عن ذلك الذي كان يحققه وقت بدء المشروع، قبل عامين تقريباً.
وبالنسبة لآلية تسلم الزبائن لطيورهم، يذكر البسيوني أنه يتولى مع بعض العاملين برفقته هذه المهمة، التي تكون في صبيحة اليوم التالي للبيع، وينطلقون لأماكن سكن المشترين «ويسلمونهم الطير الذي كان من نصيبهم».
وفيما يتعلق بأنواع الطيور التي يتاجر بها البسيوني وزميله، يقول: «أهم نوع لدينا هو الحمام، بأصنافه المختلفة، المعروفة محلياً مثل الصيني والألماني والبلجيكي، وفي بعض المرّات نفتح المزاد على نوعيات نادرة، لكن أسعارها تكون عالية، وزبائنها معينون».
وبينما ينشغل في تجهيز طيرٍ جديد للمزاد، يتحدث البسيوني: «من خلال هذه المشروع وفرنا نحو 5 فرص عمل لأشخاص دُمرت أشغالهم السابقة بسبب الظروف والأوضاع الصعبة التي يعيشها الناس في قطاع غزة منذ سنوات طويلة»، منبهاً إلى أنه وقبل افتتاح مشروع المزاد، كان يعمل في تجارة الطيور التقليدية، التي كانت تحتاج لطواف الأسواق الأسبوعية في كل أماكن القطاع،
ويؤكد أن ذلك كان يستنزف وقته وجهده، بطريقة لا يقابلها عائد مالي يعوض ذلك. ويردف: «يسّر المزاد عملية البيع، وقلل من المصاريف والتعب، ولذلك زاد الربح نسبياً، لكنه ليس دائماً يكون كذلك، ففي حالة عدم وجود مشترين راغبين نضطر لتصريف الطيور بخسارة»، مؤكداً أن مجال عمله، يتأثر كغيره من مجالات الحياة في قطاع غزة بالأوضاع التي تزيد يوماً بعد الآخر، ويستطرد: «حال الأمس كان أفضل من اليوم، وكان معدل البيع عالياً والربح أكثر، وحالياً فبالكاد نجمع مصاريفنا التشغيلية».
ويستدرك البسيوني: «هناك عدد من المتابعين للمزاد من خارج فلسطين، وكثيراً ما تعجبهم الأصناف المعروضة، ويتمنون المشاركة في عملية الشراء، لكنهم لا يستطيعون لأننا ببساطة لن نتمكن من إيصال الطيور إليهم بسبب إغلاق المعابر والحصار الإسرائيلي»، ويفصح الشاب عن رغبته في التمكن من الخروج مستقبلاً حال توفرت الفرصة، لدول العالم التي تزيد فيها تجارة الطيور، للتعرف على الأنواع الجديدة، ولنسج علاقات مع المربين والهواة هناك، لتزيد خبرته.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)