لماذا لا نبكي مثل دانتي؟

لماذا لا نبكي مثل دانتي؟
TT

لماذا لا نبكي مثل دانتي؟

لماذا لا نبكي مثل دانتي؟

ربما يكون دانتي واحداً من أكبر البكائين في التاريخ، حتى أنه خصص غرفة في بيته، وهو الذي قلما ملك بيتاً، سماها «غرفة الدموع». وكلما تقدم به العمر، كلما ازدادت دموعه. كان يبكي «حتى يجعله البكاء هشاً متهالكاً حتى لا يكاد يعرفه أحد، ومن فرط الحزن يتحرك رأسه كأنه شيء ثقيل لا حياة فيه، وتتعب عيناه من البكاء حتى تعجزا عنه».
كان ينسحب فجأة إلى تلك الغرفة، التي لم نسمع بمثيل لها في تاريخ الأدب الإنساني، ليقضي ساعات طويلة فيها... وهو يبكي. على ماذا كان دانتي، أحد أعظم شعراء البشرية، إن لم يكن أعظمهم على الأقل بالنسبة لتلميذه العظيم الآخر، تي. إس. إليوت، يبكي؟ صحيح أنه كان منفياً أبدياً من أجل تلك الكلمة الجميلة: الحرية، التي آمن منذ ذلك الوقت المبكر، القرن الثالث عشر، بأنها القيمة الأسمى، وهي أساس السعادة في الدنيا والآخرة، وأن قمعها يحول الناس إلى عبيد، فـ«يصبح الشعب للحاكم، بدل أن يكون الحاكم للشعب، ويكون الناس للقوانين، بل القوانين للشعب».
قال دانتي ذلك... ولم يسمعه أحد، وما زالوا لا يسمعون. ثم مشى، متنقلاً من منفى إلى منفى... حاملاً حاجاته البسيطة وكتبه ودفاتره، وفي كل منفى كانت هناك غرفة للدموع. لم يكن دانتي يبكي ملكاً أضاعه، كامرئ القيس، ولا ولاية كان يطمح فيها، ثم لم ينلها، كالمتنبي، ولا حتى وطناً جنى عليه، وكان رأسه، المليء بالحكمة والمعرفة، مطلوباً للقطع من حكامه الجهلة، ولم يكن يبكي حتى من وطأة المنفى، بل كان يعتبره شرفاً له، وأن «الشمس والنجوم موجودتان في كل مكان»، كما قال رداً على دعوته للعودة إلى فلورنسا، لكن بشروط مهينة. كان ما يبكيه شيء آخر، أعظم وأسمى... تلك الغربة الروحية التي تتآكله أينما حل، وهو يرى الشر متوجاً بأكاليل الغار، والخير مختبئاً في الجحور، والحقيقة مطأطئة رأسها أمام الزيف والكذب، والمعرفة مغطاة بغبار الجهل والادعاء.
يقول حسن عثمان، في مقدمته لأول ترجمة عربية لـ«الكوميديا الإلهية»، أنجزها عن الإيطالية عام 1955: «حاول دانتي كثيراً، في حدود معرفته واستطاعته، أن يفسح صدور الآخرين، ويبعد بهم عن صغار الأمور ولغو الكلام، وعمل على أن يسموا بذوقهم، ويزرع في نفوسهم المعرفة والحكمة والحب والصفاء والأمل، ولكن دون جدوى. ومع ذلك، لم ييأس. إن كان يئس من قومه ومعاصريه، لكنه لم ييأس من الإنسانية كلها».
من هم أبطال نشيد «جحيم» دانتي في «الكوميديا الإلهية»؟ إنهم «أولئك القساة، الجهلة، الجشعون، القسس الذين يملأون بطونهم التي لا تمتلئ، المبشرون والوعاظ، المغرورون والمتغطرسون، المرتشون والراشون، المتقلبون مع الرياح، وضيعو النفوس، الحكام الفاسدون، والرعية المنافقون، والمتعصبون الذين يرون بعين واحدة».
يا إلهي! كل هؤلاء الأشرار موجودون في العالم؟
ملأ القرف من كل هؤلاء روح دانتي، قبل أن يقذف بهم إلى جحيمه... وهو يبكي من هول ما يرى. لم يكن يملك خياراً غير ذلك. ربما ستطهرهم النار، وتعيد صقلهم من جديد. لكنهم للأسف لم يحترقوا. ما زالوا يتناسلون منذ ما قبل القرن الثالث عشر حتى الآن. فلماذا لا نبكي مثل دانتي؟



رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ
TT

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

«لا أتذكر آخر مرة اكتشفت فيها رواية ذكية ومبهجة كهذه وعالماً واقعياً، إلى درجة أنني ظللت أنسى معها أن هؤلاء الأبطال ليسوا أصدقائي وجيراني الفعليين، كافئوا أنفسكم بهذا الكتاب من فضلكم حيث لا يسعني إلا أن أوصي بقراءته مراراً وتكراراً».

هكذا علقت إليزابيث جيلبرت، مؤلفة كتاب «طعام صلاة حب» الذي تحول إلى فيلم شهير بالعنوان نفسه من بطولة جوليا روبرتس، على رواية «جمعية جيرنزي وفطيرة قشر البطاطس» التي صدرت منها مؤخراً طبعة جديدة عن دار «الكرمة» بالقاهرة، والتي تحمل توقيع مؤلفتين أميركيتين، هما ماري آن شيفر وآني باروز، وقامت بترجمتها إيناس التركي.

تحكي الرواية كيف أنه في عام 1946 تتلقى الكاتبة جوليت آشتون رسالة من السيد آدامز من جزيرة جيرنزي ويبدآن في المراسلة ثم تتعرف على جميع أعضاء جمعية غير عادية تسمى «جمعية جيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطس».

من خلال رسائلهم، يحكي أعضاء الجمعية لجوليت عن الحياة على الجزيرة وعن مدى حبهم للكتب وعن الأثر الذي تركه الاحتلال الألماني على حياتهم، فتنجذب جوليت إلى عالمهم الذي لا يقاوم فتبحر إلى الجزيرة لتتغير حياتها إلى الأبد.

وفي ظلال خيوط السرد المنسابة برقة تكشف الرواية الكثير عن تداعيات الحرب العالمية الثانية في إنجلترا، وهي في الوقت نفسه قصة حب غير متوقعة وتصوير للبطولة والنجاة وتقدير رقيق للرابطة التي يشكلها الأدب.

وتسلط الرسائل التي يتألف منها العمل الضوء على معاناة سكان جزر القنال الإنجليزي في أثناء الاحتلال الألماني، لكن هناك أيضاً مسحة من الدعابة اللاذعة إثر انتقال جوليت إلى «جيرنزي» للعمل على كتابها؛ حيث تجد أنه من المستحيل الرحيل عن الجزيرة ومغادرة أصدقائها الجدد، وهو شعور قد يشاركها فيه القراء عندما ينتهون من هذا النص المبهج.

وأجمع النقاد على أن المؤلفتين ماري آن شيفر وآني باروز أنجزا نصاً مدهشاً يقوم في حبكته الدرامية على الرسائل المتبادلة ليصبح العمل شبيهاً بأعمال جين أوستن من جانب، ويمنحنا دروساً مستفادة عبر قراءة التاريخ من جانب آخر.

عملت ماري آن شيفر التي توفيت عام 2008 محررة وأمينة مكتبة، كما عملت في متاجر الكتب وكانت «جمعية جيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطس» روايتها الأولى. أما ابنة شقيقها «آني باروز» فهي مؤلفة سلسلة الأطفال «آيفي وبين» إلى جانب كتاب «النصف السحري» وهي تعيش في شمال كاليفورنيا.

حققت هذه الرواية العذبة نجاحاً كبيراً واختارتها مجموعة كبيرة من الصحف والمجلات بوصفها واحدة من أفضل كتب العام، كما تحولت إلى فيلم سينمائي بهذا الاسم، إنتاج 2018. ومن أبرز الصحف التي أشادت بها «واشنطن بوست بوك وورلد» و«كريستشيان ساينس مونيتور» و«سان فرانسيسكو كورنيكل».

ومن أجواء هذه الرواية نقرأ:

«لم يتبق في جيرنزي سوى قلة من الرجال المرغوبين وبالتأكيد لم يكن هناك أحد مثير، كان الكثير منا مرهقاً ومهلهلاً وقلقاً ورث الثياب وحافي القدمين وقذراً. كنا مهزومين وبدا ذلك علينا بوضوح، لم تتبق لدينا الطاقة أو الوقت أو المال اللازم من أجل المتعة. لم يكن رجال جيرنزي يتمتعون بأي جاذبية، في حين كان الجنود الألمان يتمتعون بها. كانوا وفقاً لأحد أصدقائي طويلي القامة وشُقراً ووسيمين وقد اسمرّت بشرتهم بفعل الشمس ويبدون كالآلهة. كانوا يقيمون حفلات فخمة ورفقتهم مبهجة وممتعة، ويمتلكون السيارات ولديهم المال ويمكنهم الرقص طول الليل.

لكن بعض الفتيات اللواتي واعدن الجنود أعطين السجائر لآبائهن والخبز لأسرهن، كن يعدن من الحفلات وحقائبهن مليئة بالخبز والفطائر والفاكهة وفطائر اللحم والمربى، فتتناول عائلاتهن وجبة كاملة في اليوم التالي. لا أعتقد أن بعض سكان الجزيرة قد عدوا قط الملل خلال تلك السنوات دافعاً لمصادقة العدو، رغم أن الملل دافع قوي كما أن احتمالية المتعة عامل جذب قوي، خاصة عندما يكون المرء صغيراً في السن. كان هناك، في المقابل، الكثير من الأشخاص الذين رفضوا أن يكون لهم أي تعاملات مع الألمان، إذ إنه يكفي أن يلقي المرء تحية الصباح فحسب حتى يُعد متعاوناً مع العدو».