سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله

غادر فجر أمس عن 102 سنة ويوارى الثرى في مسقط رأسه زحلة

سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله
TT

سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله

سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله

مات سعيد عقل... بدا يوم أمس وكأن أحد أعمدة قلعة بعلبك هوى، أو أن صخرة جبلية ضخمة تدحرجت من عليائها لتصيب عشاقه بزلزال يهتز له الوجدان.
البعض لم يكن يريد أن يصدق، 102 سنة من العمر لم تكن كافية ليشبع التلامذة من أستاذهم، ليمتلئوا بعطاءاته، وليرددوا أشعاره معه وحوله، كما اعتادوا أن يفعلوا في جلساتهم الخاصة، وهم يحتفلون بوجوده بينهم. الشاعر حبيب يونس أجهش بالبكاء وهو يتحدث عنه معتبرا أن «لبنان بات يتيما من بعده، وأن اللبنانيين ليسوا بحاجة إلا لتطبيق ما كتبه في بعض نصوصه لينهضوا بوطنهم». الشاعر هنري زغيب، أقرب المقربين إليه اعتذر عن الكلام، لأن الموقف صعب وليس هناك ما يقال بعد أن صمت «المعلم». قال فقط: «مات من أثر الشيخوخة، وأنا في منزله، والمحبون يتدفقون بعد أن سمعوا النبأ المفجع»، مضيفا: «لقد غادرنا فجرا»، رافضا تحديد ساعة الوفاة.
ولم يعلن عن وفاة الشاعر الذي مات فجرا، إلا في وقت متأخر من صباح أمس بعد ساعات على رحيله، فيما بدا المحيطون به مربكين فيما يتعلق بترتيبات الوداع الأخير، وتداعوا لمناقشتها وإعلانها في جامعة سيدة اللويزة، التي ارتبط بها الشاعر في نهاية حياته بصلة وثيقة جدا؛ فقد درّس طلابها لسنوات، ثم منحها مكتبته الخاصة واختارها لتصبح بمثابة الوصية على تركته الأدبية. وقد توجه أصدقاء الشاعر ومحبوه إلى «جامعة سيدة اللويزة» أمس التي كانت بمثابة بيت الشاعر، لتلبية موعد ضرب عند الثانية بعد الظهر وأعلن من هناك عن ترتيبات الجنازة والدفن وتقبل التعازي، حيث سيصلى على جثمانه صباح الثلاثاء المقبل، ويدفن في مسقط رأسه زحلة.
حتى قبل أن يوارى صباح الثرى، أغمض سعيد عقل عينيه للمرة الأخيرة، ملتحقا بركب كبار خسرهم لبنان كانوا له أصدقاء وأحبة، لعل أقربهم إليه عاصي ومنصور. هو الذي كان بمثابة مستشار للأخوين رحباني. تتلمذوا على يديه ثم تتلمذ عليهم وعلى موسيقاهم، ورافقهم، واستشارهم واستشاروه، وعملوا معا ردحا طويلا من الزمن.
شاعر كلاسيكي حتى النخاع، حداثي حتى الثمالة، محافظ إلى درجة مستفزة، مع شطحات في الفكر تقارب الجنون. عاشق للعربية نحات في صورها وتراكيبها، لدرجة الابتكار، مع دعوة متطرفة إلى استخدام العامية اللبنانية. أديب محلق بأجنحة نسر شرس، في الوقت نفسه كان يباهي أنه لا يجد متعة في أي كتاب كما يتلقفها في كتب الرياضيات. حبه للبنان قارب الهوس. لم يكن على لسانه غير لبنان وجبله وأرزه وعظمته، لكنه في الوقت نفسه سجل أروع ما كتب من قصائد في مدن عربية مثل مكة والقدس والشام وعمان. مسيحي حتى الثمالة، درس اللاهوت وتبحر به، ومع ذلك كان يعرف الإسلام جيدا، معجب بالقرآن حافظ لبعض آياته التي يرددها بإعجاب، ويرى في الزكاة ما يستحق أن يقدر ويطبق. بقدر ما كان سعيد عقل يبدو مسكونا ببعض الأفكار العجيبة كان يعرف كيف يكون واقعيا لحظة تتحدث معه، أو تناقشه في موضوع حياتي. عصامي لم يكمل تعليمه في الهندسة كما كان يتمنى، ففقْد الأب وقلة المال حرماه من ذلك، لكنه تحول إلى معلم يصطف وراءه جمهور لبناني وعربي يطرب إليه ويصغي. بقدر ما أعلى من شأن الشعر ولفه بغلالة ووهج عرف كيف يكتب بديع النثر وعظيمه. هذا الرجل الأنف الذي لم يكن يحب تبجيل الرموز، تحول هو نفسه إلى رمز وأيقونة.
لن ينسى لبنان، ولا العرب، هالة الشاعر سعيد عقل، طلته، أناقته. فهذا العاشق للجمال حد الفتنة.. جمال الكلمة والأسلوب وانتقاء الألفاظ وتشذيبها وتهذيبها، لم تشغله مهارته الشعرية واللغوية عن جمال الشكل، وكأنما أراد أن يكون هو كله ابتكارا فنيا، وماركة أدبية مسجلة فريدة لا مثيل لها. لن ينسى لبنان الفتى الوسيم الذي بقي وسيما، فتيا، حتى في تسعيناته، يعرف كيف يسرح شعره، ويتقن هندامه، بكرافات حمراء، وخاتم ذي فص أزرق، وحركة يدين تنم عن ثقة في النفس لا تقاوم. «أنا ولست متعجرفا، لا لكوني سعيد عقل، إنما لأنني ابن لبنان»، قال ليرد على من ينتقدونه ويتهمونه بالعنجهية.
غنت له فيروز أجمل وأروع الأغنيات، من بينها «غنيت مكة» التي تلهج بها الألسن إلى اليوم، و«يارا» ذات الجدايل الشقر التي يتمرجح بها العمر، «أمي يا ملاكي»، «دقيت طل الورد عالشباك»، «سيف فليشهر»، و«بحبك ما بعرف»، «أحب دمشق»، «شآم يا ذا السيف»، «عمان في القلب»، «مرجوحة» و«سائليني».
ولد سعيد عقل عام 1912 في مدينة زحلة في البقاع، التي بقيت في قلبه وكأنه لم يغادرها، تعلم في الكلية الشرقية «الفرير» في المدينة، والدته أديل يزبك من بكفيا، تركت في نفسه أكبر الأثر، يصفها بأنها كانت شقراء، جميلة ومثقفة، ولها عليه أكبر الفضل، فيما لا يبدو أنه كان يكن الشغف نفسه لوالده، الذي يقول عنه بأنه «بالكاد كان يفك الحرف».
في الـ15 خسر والده أمواله فاضطر سعيد للعمل في الكتابة الصحافية والتعليم. كتب منذ عام 1930 في صحف ومجلات مثل «البرك»، «الشراع»، «الوادي»، «المشكوف»، «الصياد»، و«لسان الحال» وغيرها كثير.
بدأ الكتابة الشعرية صغيرا جدا، من أعماله مسرحية «بنت يفتاح» التي هي مأساة شعرية، و«المجدلية»، ومن ثم دواوينه «قدموس»، «رندلى»، «كما الأعمدة»، «قصائد من دفاترها»، «دلزى»، وله كتب مدونة بما اعتبره «الحر القومي العربي» حين دعا إلى استبدال الحرف العربي، ومن شهير كتبه «لبنان إن حكى».
قضى سنواته الأخيرة منهكا، انطفأ على مهل وهو في رعاية مريديه، وجارته القديمة معلمة الرياضيات ماري روز أميدي، التي بقيت تهتم به حتى لحظة الوداع. لم يكن سعيد عقل كثير الصحو في الفترة الأخيرة. كان غائبا عن الدنيا، حاضرا في عيون أصدقائه إلى أن وافته المنية.
سعيد عقل أحد أكبر الشعراء العرب اليوم، لكن رغم هامته ووهجه كان شاعرا مثيرا للجدل، بعض مواقفه أثارت الغضب من قبل من أخذوها على محمل الجد؛ فهذا القومي القديم الذي بدأ حياته عروبيا متحمسا، أخذه حبه للبنان حد التطرف، فصار أحد دعاة القومية اللبنانية، حيث شارك عام 1972 في تأسيس «حزب التجدّد اللبناني»، كما كان يعتبر الأب الروحي لحزب «حراس الأرز». عادى الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ورأى في وطنه عظمة تستحق أن يحيا من أجلها، وأن يقاتل لينصرها. وهو القائل: «إن لبنان أصبح بفضل كتاباتي وما نشرته في ضمائر اللبنانيين وطنا يصعب قتله».
«بياع أحلام» كما وصف نفسه، أو «المعلم» كما يحلو لمريديه أن يلقبوه، «غرف من الكتب» وعاش وطنا متخيلا، مأمولا، وشحذ عزيمة كل متردد في الإيمان بقيمة أرض الأرز، غادر الحياة، لكن الحياة تأبي أن تغادر قامة على هذا القدر من الإباء.

* من جامعة «سيدة اللويزة» إلى مدفنه الخاص
أعلن نائب رئيس «جامعة سيدة اللويزة» لشؤون الثقافة والعلاقات العامة سهيل مطر بحضور رئيس الجامعة الأب وليد موسى ووزير الثقافة السابق غابي ليون وحشد من الشعراء والأصدقاء مراسيم وترتيبات دفن الأديب والشاعر سعيد عقل؛ إذ يسجى جثمان الأديب في جامعة سيدة اللويزة (زوق مصبح)، يوم الاثنين المقبل بين العاشرة صباحا والسادسة مساء.
ينقل الجثمان صباح الثلاثاء إلى كاتدرائية مار جرجس المارونية وسط بيروت وتقام الصلاة لراحة نفسه عند الساعة 11.30 صباحا وينقل بعدها إلى مسقط رأسه زحلة حيث ستقام صلاة وضع البخور لراحة نفسه في كاتدرائية مار مارون – كسارة، ثم ينقل إلى مدفنه الخاص على مبيار زحلة.

* الموسيقار أسامة الرحباني: 4 صنعوا مجد لبنان أحدهم سعيد عقل
مات المعلم. سعيد عقل شاعر لبنان والعرب. لربما يعطي الله الموهبة والشعر لكثير من الناس، لكنه أعطي العبقرية في الصوت الذي يهدر وفي الشكل الذي يبدو فيه كالهرم.
انتماؤه للبنان كبير جدا، تأثر به عاصي ومنصور الرحباني، وغنوا له مع العظيمة فيروز، ثم عاد وتأثر بهم وبموسيقاهم. بقي التأثر والتأثير قائما، حتى صار مستشارهم لأنهم كانوا عباقرة وعملية الإبداع والشعر والموسيقى والكلمة تعنيهم. لقد كان أقرب الناس إلى الأخوين رحباني. ظني أن لبنان رسموا مجده 4: جبران خليل جبران، وسعيد عقل والأخوين رحباني، بصوت فيروز. هؤلاء هم من أسسوا لتاريخ لبنان الفكري والفني ونواة لبناء المستقبل.
هو سيد المنبر، ليس قليل قوله «شعر بلا المجد رايات بلا وطن»، فهو كالصخر مثل الأرز، سفر لبناني. ما قدمه للغة العربية لم يصل إليه أحد، من حيث التقنية والصور والتراكيب.
كان لقربه من منصور ينام في بيتنا، أرى في وجهه كوجه طفل لكنه لمنحوتة رومانية، كل شيء فيه مختلف، شعره، إلقاؤه.
كان أبي منصور يحكي لنا أنه كان في السادسة من عمره يوم توفي جبران، وبقي يذكر طوال حياته، ذاك النهار الذي وصل فيه جثمان جبران من أميركا، وتلك الجنازة المهيبة، والمجد العظيم الذي أحيط به، وإني لأتمنى أن يعطى سعيد عقل حقه في مماته، وأن يكون له وداع يليق بقامته وبما قدمه للبنان. سعيد عقل يستحق أن يسدى حقه.

* الشاعر جورج شكور: إنه أمة في رجل
سعيد عقل أمة في رجل، إنه يمثل عظمة لبنان، صاحب 5 آلاف سنة من الحضارة. عرفته منذ 58 سنة، حين قال لي الأخطل الصغير طيب الله مثواه: «تعرف إليه فالمستقبل كله له». كان عزمه قويا في الحياة، ومثواه سيتولاه من بعده، كما قال هو نفسه. هو مدرسة فكرية عظيمة - وتلامذته يملأون كل العالم. هو أمير القوافي، ومحك في هذا العصر، يحكّ على شعره كل شعر. له أبيات هي دستور حياة، أذكر منها:
وما هَمَّ أن مُتنا ولم نَبلغ المنُى
كفى أن مشَينا لا التواءَ ولا هَدْنُ
غدا في خُطانا يَجبهُ الصَّعبَ نَفْسَهُ
بَنُونَ هُمُ الأسياف مِقبَضُها نَحْنُ
كان متفائلا دائما، يمثل الفرح، فيما كان الآخرون وهم الكثر من الشعراء يمثلون الحزن، لقد كان مرحا في حياته كلها.
كان محبا للعلم، أعطى مكتبته لجامعة سيدة اللويزة، وطلب أن أكون مسؤولا عن تنقيح دواوينه، وقد فعلت وأعطيت لمكتبة أنطوان، وصدرت، وسأعمل على تنفيذ وصيته وتنقيح ما تبقى. لقد قال للجامعة: «لا أحد يمس كتبي غير جورج».

* الأديبة رشا الأمير: موت مزدوج أصاب لبنان في يوم واحد
لم أستغرب أن ينتقل سعيد عقل إلى السماء. لكنني حزنت لأن يغادرنا تحديدا في هذا اليوم المشؤوم، الذي قرر فيه المجلس الدستوري أن التمديد للمجلس النيابي شرعي، لنفهم أنه يحق للنواب في لبنان أن يمددوا لأنفسهم ما شاءوا. سعيد عقل هو القائل إن لبنان هو «بلد الشرائع». وها نحن بدل أن نتلقى خبر موته فقط، نتلقى خبرا مزدوجا عن موتين جليلين في وقت واحد: موت سعيد عقل، والديمقراطية في لبنان.
سعيد عقل، ربما أجمل ما فيه، هذه التناقضات الرهيبة التي جمعها في شخصه، وأحد هذه التناقضات الكثيرة أنه يجمع بين عظمة الشعر الكلاسيكي العربي حيث يكتب بالفصحى وبعربية له وحده، لكنه يدعو إلى العامية. أختلف معه سياسيا، ولا أحب كثيرا من أفكاره، ونحن في صراع معه في بعض النقاط، فأنا لست مع تحنيطه للغة، على سبيل المثال، لكنني أحترم عناده، واختلافه، وإصراره على جنونه، وتفرده، ولو كان سمع ما قاله هذا وذاك، وسكت عما يريد أن يقول، لما كان سعيد عقل، كما نحبه اليوم. فهو جميل بتناقضه وغرائبيته.
شاعر عظيم وأسطوري. إنه أحد هؤلاء المسيحيين العرب الذين لهم كبير فضل على اللغة، فهو الذي كتب كما لم يكتب أحد، وكتب للقدس والشام، أجمل القصائد.

* الشاعر شوقي بزيع: نموذج مثالي وأخلاقي متفرد
بغياب سعيد عقل، يسدل الستار على إحدى أهم الشاعريات العربية المعاصرة، وعلى آخر أعمدة الشعر الكلاسيكي في العالم العربي، ذلك أن سعيد عقل الذي رفض الحداثة على المستوى النظري، كان في صميم هذه الحداثة، وقلبها عن علم أو عن غير علم. فهو لم يأنس إلى المنجز الشعري الكلاسيكي ولا إلى عمود الخليل بن أحمد، كما برزت تمثلاته عند أسلافه، وخاصة أبا الطيب المتنبي إلى أحمد شوقي.
لقد ترك بصمته الخاصة على القصيدة القديمة وامتلك جماليات اللغة والإيقاع والصورة والتوشية اللفظية والبلاغة ذات اللغة المحبوكة، أكثر من أي شاعر آخر.
سعيد عقل بهذا المعنى، ليس شاعر القيم البرجوازية ذات الطبيعة النفعية ولا شاعر اليوميات أو شاعر التفاصيل الصغيرة التي تناولها نزار قباني ممثلا الأرستقراطية الدمشقية والعربية بوجه عام. لكن عقل شاعر القيم القادمة من عصر منصرم أي قيم النبل والفروسية والكرم والحب المترفع كأنه شاعر يحلق خارج الأرض الواقعية للحياة بحيث يصبح الشعر موازيا للعالم وليس مرتطما به. إنه شعر يحلق فوق الأشياء. لذلك هو يستطيع أن يصفو إلى الحد الذي ذهب إليه وأن تولد لغته من احتكاك برقها بنفسه لا من الزواج الأنيق بين المفردات. إنه احتفال جمالي وإيقاعي بقدر ما هو نموذج مثالي وأخلاقي متفرد. وسيمر وقت طويل على الأرجح قبل أن يولد شاعر مثله.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)