سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله

غادر فجر أمس عن 102 سنة ويوارى الثرى في مسقط رأسه زحلة

سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله
TT

سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله

سعيد عقل مات بعد أن صنع وطنا يصعب قتله

مات سعيد عقل... بدا يوم أمس وكأن أحد أعمدة قلعة بعلبك هوى، أو أن صخرة جبلية ضخمة تدحرجت من عليائها لتصيب عشاقه بزلزال يهتز له الوجدان.
البعض لم يكن يريد أن يصدق، 102 سنة من العمر لم تكن كافية ليشبع التلامذة من أستاذهم، ليمتلئوا بعطاءاته، وليرددوا أشعاره معه وحوله، كما اعتادوا أن يفعلوا في جلساتهم الخاصة، وهم يحتفلون بوجوده بينهم. الشاعر حبيب يونس أجهش بالبكاء وهو يتحدث عنه معتبرا أن «لبنان بات يتيما من بعده، وأن اللبنانيين ليسوا بحاجة إلا لتطبيق ما كتبه في بعض نصوصه لينهضوا بوطنهم». الشاعر هنري زغيب، أقرب المقربين إليه اعتذر عن الكلام، لأن الموقف صعب وليس هناك ما يقال بعد أن صمت «المعلم». قال فقط: «مات من أثر الشيخوخة، وأنا في منزله، والمحبون يتدفقون بعد أن سمعوا النبأ المفجع»، مضيفا: «لقد غادرنا فجرا»، رافضا تحديد ساعة الوفاة.
ولم يعلن عن وفاة الشاعر الذي مات فجرا، إلا في وقت متأخر من صباح أمس بعد ساعات على رحيله، فيما بدا المحيطون به مربكين فيما يتعلق بترتيبات الوداع الأخير، وتداعوا لمناقشتها وإعلانها في جامعة سيدة اللويزة، التي ارتبط بها الشاعر في نهاية حياته بصلة وثيقة جدا؛ فقد درّس طلابها لسنوات، ثم منحها مكتبته الخاصة واختارها لتصبح بمثابة الوصية على تركته الأدبية. وقد توجه أصدقاء الشاعر ومحبوه إلى «جامعة سيدة اللويزة» أمس التي كانت بمثابة بيت الشاعر، لتلبية موعد ضرب عند الثانية بعد الظهر وأعلن من هناك عن ترتيبات الجنازة والدفن وتقبل التعازي، حيث سيصلى على جثمانه صباح الثلاثاء المقبل، ويدفن في مسقط رأسه زحلة.
حتى قبل أن يوارى صباح الثرى، أغمض سعيد عقل عينيه للمرة الأخيرة، ملتحقا بركب كبار خسرهم لبنان كانوا له أصدقاء وأحبة، لعل أقربهم إليه عاصي ومنصور. هو الذي كان بمثابة مستشار للأخوين رحباني. تتلمذوا على يديه ثم تتلمذ عليهم وعلى موسيقاهم، ورافقهم، واستشارهم واستشاروه، وعملوا معا ردحا طويلا من الزمن.
شاعر كلاسيكي حتى النخاع، حداثي حتى الثمالة، محافظ إلى درجة مستفزة، مع شطحات في الفكر تقارب الجنون. عاشق للعربية نحات في صورها وتراكيبها، لدرجة الابتكار، مع دعوة متطرفة إلى استخدام العامية اللبنانية. أديب محلق بأجنحة نسر شرس، في الوقت نفسه كان يباهي أنه لا يجد متعة في أي كتاب كما يتلقفها في كتب الرياضيات. حبه للبنان قارب الهوس. لم يكن على لسانه غير لبنان وجبله وأرزه وعظمته، لكنه في الوقت نفسه سجل أروع ما كتب من قصائد في مدن عربية مثل مكة والقدس والشام وعمان. مسيحي حتى الثمالة، درس اللاهوت وتبحر به، ومع ذلك كان يعرف الإسلام جيدا، معجب بالقرآن حافظ لبعض آياته التي يرددها بإعجاب، ويرى في الزكاة ما يستحق أن يقدر ويطبق. بقدر ما كان سعيد عقل يبدو مسكونا ببعض الأفكار العجيبة كان يعرف كيف يكون واقعيا لحظة تتحدث معه، أو تناقشه في موضوع حياتي. عصامي لم يكمل تعليمه في الهندسة كما كان يتمنى، ففقْد الأب وقلة المال حرماه من ذلك، لكنه تحول إلى معلم يصطف وراءه جمهور لبناني وعربي يطرب إليه ويصغي. بقدر ما أعلى من شأن الشعر ولفه بغلالة ووهج عرف كيف يكتب بديع النثر وعظيمه. هذا الرجل الأنف الذي لم يكن يحب تبجيل الرموز، تحول هو نفسه إلى رمز وأيقونة.
لن ينسى لبنان، ولا العرب، هالة الشاعر سعيد عقل، طلته، أناقته. فهذا العاشق للجمال حد الفتنة.. جمال الكلمة والأسلوب وانتقاء الألفاظ وتشذيبها وتهذيبها، لم تشغله مهارته الشعرية واللغوية عن جمال الشكل، وكأنما أراد أن يكون هو كله ابتكارا فنيا، وماركة أدبية مسجلة فريدة لا مثيل لها. لن ينسى لبنان الفتى الوسيم الذي بقي وسيما، فتيا، حتى في تسعيناته، يعرف كيف يسرح شعره، ويتقن هندامه، بكرافات حمراء، وخاتم ذي فص أزرق، وحركة يدين تنم عن ثقة في النفس لا تقاوم. «أنا ولست متعجرفا، لا لكوني سعيد عقل، إنما لأنني ابن لبنان»، قال ليرد على من ينتقدونه ويتهمونه بالعنجهية.
غنت له فيروز أجمل وأروع الأغنيات، من بينها «غنيت مكة» التي تلهج بها الألسن إلى اليوم، و«يارا» ذات الجدايل الشقر التي يتمرجح بها العمر، «أمي يا ملاكي»، «دقيت طل الورد عالشباك»، «سيف فليشهر»، و«بحبك ما بعرف»، «أحب دمشق»، «شآم يا ذا السيف»، «عمان في القلب»، «مرجوحة» و«سائليني».
ولد سعيد عقل عام 1912 في مدينة زحلة في البقاع، التي بقيت في قلبه وكأنه لم يغادرها، تعلم في الكلية الشرقية «الفرير» في المدينة، والدته أديل يزبك من بكفيا، تركت في نفسه أكبر الأثر، يصفها بأنها كانت شقراء، جميلة ومثقفة، ولها عليه أكبر الفضل، فيما لا يبدو أنه كان يكن الشغف نفسه لوالده، الذي يقول عنه بأنه «بالكاد كان يفك الحرف».
في الـ15 خسر والده أمواله فاضطر سعيد للعمل في الكتابة الصحافية والتعليم. كتب منذ عام 1930 في صحف ومجلات مثل «البرك»، «الشراع»، «الوادي»، «المشكوف»، «الصياد»، و«لسان الحال» وغيرها كثير.
بدأ الكتابة الشعرية صغيرا جدا، من أعماله مسرحية «بنت يفتاح» التي هي مأساة شعرية، و«المجدلية»، ومن ثم دواوينه «قدموس»، «رندلى»، «كما الأعمدة»، «قصائد من دفاترها»، «دلزى»، وله كتب مدونة بما اعتبره «الحر القومي العربي» حين دعا إلى استبدال الحرف العربي، ومن شهير كتبه «لبنان إن حكى».
قضى سنواته الأخيرة منهكا، انطفأ على مهل وهو في رعاية مريديه، وجارته القديمة معلمة الرياضيات ماري روز أميدي، التي بقيت تهتم به حتى لحظة الوداع. لم يكن سعيد عقل كثير الصحو في الفترة الأخيرة. كان غائبا عن الدنيا، حاضرا في عيون أصدقائه إلى أن وافته المنية.
سعيد عقل أحد أكبر الشعراء العرب اليوم، لكن رغم هامته ووهجه كان شاعرا مثيرا للجدل، بعض مواقفه أثارت الغضب من قبل من أخذوها على محمل الجد؛ فهذا القومي القديم الذي بدأ حياته عروبيا متحمسا، أخذه حبه للبنان حد التطرف، فصار أحد دعاة القومية اللبنانية، حيث شارك عام 1972 في تأسيس «حزب التجدّد اللبناني»، كما كان يعتبر الأب الروحي لحزب «حراس الأرز». عادى الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ورأى في وطنه عظمة تستحق أن يحيا من أجلها، وأن يقاتل لينصرها. وهو القائل: «إن لبنان أصبح بفضل كتاباتي وما نشرته في ضمائر اللبنانيين وطنا يصعب قتله».
«بياع أحلام» كما وصف نفسه، أو «المعلم» كما يحلو لمريديه أن يلقبوه، «غرف من الكتب» وعاش وطنا متخيلا، مأمولا، وشحذ عزيمة كل متردد في الإيمان بقيمة أرض الأرز، غادر الحياة، لكن الحياة تأبي أن تغادر قامة على هذا القدر من الإباء.

* من جامعة «سيدة اللويزة» إلى مدفنه الخاص
أعلن نائب رئيس «جامعة سيدة اللويزة» لشؤون الثقافة والعلاقات العامة سهيل مطر بحضور رئيس الجامعة الأب وليد موسى ووزير الثقافة السابق غابي ليون وحشد من الشعراء والأصدقاء مراسيم وترتيبات دفن الأديب والشاعر سعيد عقل؛ إذ يسجى جثمان الأديب في جامعة سيدة اللويزة (زوق مصبح)، يوم الاثنين المقبل بين العاشرة صباحا والسادسة مساء.
ينقل الجثمان صباح الثلاثاء إلى كاتدرائية مار جرجس المارونية وسط بيروت وتقام الصلاة لراحة نفسه عند الساعة 11.30 صباحا وينقل بعدها إلى مسقط رأسه زحلة حيث ستقام صلاة وضع البخور لراحة نفسه في كاتدرائية مار مارون – كسارة، ثم ينقل إلى مدفنه الخاص على مبيار زحلة.

* الموسيقار أسامة الرحباني: 4 صنعوا مجد لبنان أحدهم سعيد عقل
مات المعلم. سعيد عقل شاعر لبنان والعرب. لربما يعطي الله الموهبة والشعر لكثير من الناس، لكنه أعطي العبقرية في الصوت الذي يهدر وفي الشكل الذي يبدو فيه كالهرم.
انتماؤه للبنان كبير جدا، تأثر به عاصي ومنصور الرحباني، وغنوا له مع العظيمة فيروز، ثم عاد وتأثر بهم وبموسيقاهم. بقي التأثر والتأثير قائما، حتى صار مستشارهم لأنهم كانوا عباقرة وعملية الإبداع والشعر والموسيقى والكلمة تعنيهم. لقد كان أقرب الناس إلى الأخوين رحباني. ظني أن لبنان رسموا مجده 4: جبران خليل جبران، وسعيد عقل والأخوين رحباني، بصوت فيروز. هؤلاء هم من أسسوا لتاريخ لبنان الفكري والفني ونواة لبناء المستقبل.
هو سيد المنبر، ليس قليل قوله «شعر بلا المجد رايات بلا وطن»، فهو كالصخر مثل الأرز، سفر لبناني. ما قدمه للغة العربية لم يصل إليه أحد، من حيث التقنية والصور والتراكيب.
كان لقربه من منصور ينام في بيتنا، أرى في وجهه كوجه طفل لكنه لمنحوتة رومانية، كل شيء فيه مختلف، شعره، إلقاؤه.
كان أبي منصور يحكي لنا أنه كان في السادسة من عمره يوم توفي جبران، وبقي يذكر طوال حياته، ذاك النهار الذي وصل فيه جثمان جبران من أميركا، وتلك الجنازة المهيبة، والمجد العظيم الذي أحيط به، وإني لأتمنى أن يعطى سعيد عقل حقه في مماته، وأن يكون له وداع يليق بقامته وبما قدمه للبنان. سعيد عقل يستحق أن يسدى حقه.

* الشاعر جورج شكور: إنه أمة في رجل
سعيد عقل أمة في رجل، إنه يمثل عظمة لبنان، صاحب 5 آلاف سنة من الحضارة. عرفته منذ 58 سنة، حين قال لي الأخطل الصغير طيب الله مثواه: «تعرف إليه فالمستقبل كله له». كان عزمه قويا في الحياة، ومثواه سيتولاه من بعده، كما قال هو نفسه. هو مدرسة فكرية عظيمة - وتلامذته يملأون كل العالم. هو أمير القوافي، ومحك في هذا العصر، يحكّ على شعره كل شعر. له أبيات هي دستور حياة، أذكر منها:
وما هَمَّ أن مُتنا ولم نَبلغ المنُى
كفى أن مشَينا لا التواءَ ولا هَدْنُ
غدا في خُطانا يَجبهُ الصَّعبَ نَفْسَهُ
بَنُونَ هُمُ الأسياف مِقبَضُها نَحْنُ
كان متفائلا دائما، يمثل الفرح، فيما كان الآخرون وهم الكثر من الشعراء يمثلون الحزن، لقد كان مرحا في حياته كلها.
كان محبا للعلم، أعطى مكتبته لجامعة سيدة اللويزة، وطلب أن أكون مسؤولا عن تنقيح دواوينه، وقد فعلت وأعطيت لمكتبة أنطوان، وصدرت، وسأعمل على تنفيذ وصيته وتنقيح ما تبقى. لقد قال للجامعة: «لا أحد يمس كتبي غير جورج».

* الأديبة رشا الأمير: موت مزدوج أصاب لبنان في يوم واحد
لم أستغرب أن ينتقل سعيد عقل إلى السماء. لكنني حزنت لأن يغادرنا تحديدا في هذا اليوم المشؤوم، الذي قرر فيه المجلس الدستوري أن التمديد للمجلس النيابي شرعي، لنفهم أنه يحق للنواب في لبنان أن يمددوا لأنفسهم ما شاءوا. سعيد عقل هو القائل إن لبنان هو «بلد الشرائع». وها نحن بدل أن نتلقى خبر موته فقط، نتلقى خبرا مزدوجا عن موتين جليلين في وقت واحد: موت سعيد عقل، والديمقراطية في لبنان.
سعيد عقل، ربما أجمل ما فيه، هذه التناقضات الرهيبة التي جمعها في شخصه، وأحد هذه التناقضات الكثيرة أنه يجمع بين عظمة الشعر الكلاسيكي العربي حيث يكتب بالفصحى وبعربية له وحده، لكنه يدعو إلى العامية. أختلف معه سياسيا، ولا أحب كثيرا من أفكاره، ونحن في صراع معه في بعض النقاط، فأنا لست مع تحنيطه للغة، على سبيل المثال، لكنني أحترم عناده، واختلافه، وإصراره على جنونه، وتفرده، ولو كان سمع ما قاله هذا وذاك، وسكت عما يريد أن يقول، لما كان سعيد عقل، كما نحبه اليوم. فهو جميل بتناقضه وغرائبيته.
شاعر عظيم وأسطوري. إنه أحد هؤلاء المسيحيين العرب الذين لهم كبير فضل على اللغة، فهو الذي كتب كما لم يكتب أحد، وكتب للقدس والشام، أجمل القصائد.

* الشاعر شوقي بزيع: نموذج مثالي وأخلاقي متفرد
بغياب سعيد عقل، يسدل الستار على إحدى أهم الشاعريات العربية المعاصرة، وعلى آخر أعمدة الشعر الكلاسيكي في العالم العربي، ذلك أن سعيد عقل الذي رفض الحداثة على المستوى النظري، كان في صميم هذه الحداثة، وقلبها عن علم أو عن غير علم. فهو لم يأنس إلى المنجز الشعري الكلاسيكي ولا إلى عمود الخليل بن أحمد، كما برزت تمثلاته عند أسلافه، وخاصة أبا الطيب المتنبي إلى أحمد شوقي.
لقد ترك بصمته الخاصة على القصيدة القديمة وامتلك جماليات اللغة والإيقاع والصورة والتوشية اللفظية والبلاغة ذات اللغة المحبوكة، أكثر من أي شاعر آخر.
سعيد عقل بهذا المعنى، ليس شاعر القيم البرجوازية ذات الطبيعة النفعية ولا شاعر اليوميات أو شاعر التفاصيل الصغيرة التي تناولها نزار قباني ممثلا الأرستقراطية الدمشقية والعربية بوجه عام. لكن عقل شاعر القيم القادمة من عصر منصرم أي قيم النبل والفروسية والكرم والحب المترفع كأنه شاعر يحلق خارج الأرض الواقعية للحياة بحيث يصبح الشعر موازيا للعالم وليس مرتطما به. إنه شعر يحلق فوق الأشياء. لذلك هو يستطيع أن يصفو إلى الحد الذي ذهب إليه وأن تولد لغته من احتكاك برقها بنفسه لا من الزواج الأنيق بين المفردات. إنه احتفال جمالي وإيقاعي بقدر ما هو نموذج مثالي وأخلاقي متفرد. وسيمر وقت طويل على الأرجح قبل أن يولد شاعر مثله.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».