عندما اجتاح وباء الطاعون أوروبا في القرن السادس عشر، قيل للناس في لندن أن يبقوا في منازلهم لمدة شهر إذا ما أصيب شخص يعيش بينهم بالمرض. وكان يتم منح كل أسرة عصا بيضاء تعرف باسم «عصا الطاعون» يحملها أي فرد من الأسرة عندما يخرج لشراء الاحتياجات الأساسية. ووفق وكالة الأنباء الألمانية، كانت العصا بمثابة تحذير للناس في الشارع من أن حاملها يعيش في منزل به مريض بالطاعون، وبالتالي يتعين الابتعاد عنه.
وبعد مرور نحو أربعة قرون، وفي خضم تفشي جائحة فيروس «كورونا» المستجد (كوفيد 19)، تجددت التوصية للأسرة التي يوجد بها مصاب بالفيروس وهي ضرورة البقاء في المنزل. في المقابل، وعوضا عن «عصا الطاعون البيضاء»، وفرت التكنولوجيا الحديثة كثيرا من الأجهزة الرقمية التي تستخدمها الدول لمراقبة تحرك أفراد هذه الأسر بهدف الحد من انتشار الفيروس في مناطق عديدة من العالم، بحسب تقرير لوكالة بلومبرغ للأنباء.
وتوجد اليوم أنظمة مراقبة يمكنها متابعة تحركات سكان العالم كافة بفضل الإشارات غير المرئية التي تصدر عن الهواتف الذكية التي نحملها في جيوبنا. كما توجد طائرات من دون طيار تحلق فوق المتنزهات داخل المدن، والتي تصدر تحذيرات صوتية لأي شخص لا يلتزم بقواعد التباعد الاجتماعي للحد من انتشار «كوفيد - 19»، وهناك أيضا كاميرات تحديد الهوية من خلال تصوير ملامح الوجه بالأشعة تحت الحمراء والتي يمكنها تحديد ما إذا كانت درجة حرارة الشخص أعلى من المعدل الطبيعي، ثم تطبيقات رقمية يمكن تثبيتها في هواتفنا المحمولة لتحذيرنا حال اقتربنا من شخص مصاب بـ«كورونا».
ورغم أن هذه التكنولوجيا تقدّم إمكانيات استثنائية يمكنها مساعدة المجتمعات في التعافي من الجائحة، ثار جدل حاد بشأنها في ظل مخاوف من إمكانية استغلال الحكومات للجائحة من أجل تعزيز سلطاتها في مراقبة الحياة الخاصة للمواطنين. فهل يمكن أن نمضي من دون وعي نحو مجتمع يعيش واقعا مريرا من المراقبة الدائمة؟
وفي هذا السياق، نشر في أبريل (نيسان) الماضي، أكثر من 130 منظمة حقوقية، بينها «هيومان رايتس ووتش»، و«العفو الدولية»، خطابا مفتوحا تحذر فيه من توسيع سلطات الرقابة الحكومية للمجتمعات في ظل الجائحة.
وجاء في الخطاب أنه «لا يمكن للدول ببساطة أن تنتهك حقوقا مثل الحق في الخصوصية وحرية التعبير، بدعوى مواجهة أزمة صحية عامة... وإذا كان لنا أن نتعلم شيئا من التاريخ، فإن الحكومات فرضت في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية عام 2001 على نيويورك وواشنطن أنظمة مراقبة على المواطنين أصبح من الصعب التخلص منها بعد ذلك».
وتقول رشا عبد الرحيم، نائب مدير قطاع التكنولوجيا بمنظمة العفو الدولية: «لا نقصد أن التكنولوجيا ليس لها دور في التعامل مع الجائحة، أو أن المراقبة لا يمكن أن تكون أمرا صائبا... لكن تزايد الرقابة الرقمية يحتاج إلى الالتزام بشروط محددة، إذا ما تم اللجوء إليها». وتضيف: «أي مراقبة يجب أن تكون متناسبة بشكل صارم مع حدود الحاجة إليها. ويجب الاكتفاء بجمع الحد الأدنى المطلوب من البيانات الشخصية، وبما يرتبط فقط بإجراءات مكافحة الجائحة. علاوة على ذلك، يجب أن ترتبط صلاحيات المراقبة المتعلقة بالجائحة بفترة تفشي الوباء العالمي، وأن تنتهي تلقائيا فور انتهاء الأزمة، لقطع الطريق على استمرارها إلى ما لا نهاية».
وبحسب وكالة «بلومبرغ» للأنباء، هذه المخاوف ليست نظرية أو مبالغا فيها. فبعض الحكومات يستغل بالفعل أزمة «كوفيد -19» لتعزيز صلاحياتها واتخاذ إجراءات يمكن إساءة استغلالها لاستهداف الساسة المعارضين.
ففي كمبوديا، تم تمرير قانون جديد يمنح السلطة صلاحيات واسعة لمراقبة الاتصالات والسيطرة على وسائل الإعلام ومصادرة الممتلكات الخاصة وفرض قيود صارمة على حرية التنقل. وتقول المنظمات الحقوقية إن السلطات الكمبودية تستغل الجائحة للتغطية على عمليات اعتقال المعارضين.
وفي إسرائيل، سمحت الحكومة لجهاز المخابرات باستخدام نظام مصمم لمكافحة الإرهاب في تعقب هواتف ملايين المواطنين خلال الجائحة. وفي الوقت نفسه، وفي ظل إغلاق مكاتب الهجرة، ونقاط العبور الحدودية، أمرت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل بتنزيل تطبيق على هواتفهم الذكية للتأكد من موقف إقامتهم. ووفقا لتقرير صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، لهذا التطبيق هدف مزدوج، حيث يسمح للجيش الإسرائيلي بتتبع تحركات الفلسطينيين والاطلاع على اتصالاتهم والرسائل التي يتلقونها عبر هواتفهم الخلوية.
الحقيقة الكثير من الحكومات قام بالفعل بتطوير أنظمة مراقبة رقمية واسعة قبل تفشي جائحة «كورونا». ففي عام 2013، فجر الأميركي إدوارد سنودن، فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية على عشرات الحكومات وملايين المواطنين في أنحاء شتى من العالم، باستغلال شبكات الاتصالات الهاتفية والإنترنت. وفي ديسمبر (كانون أول) 2013 ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن وكالة الأمن القومي الأميركية تسجل يوميا، وبشكل سري، أكثر من 5 مليارات معلومة عن أماكن وجود هواتف المواطنين في أنحاء العالم.
كما تدير أجهزة مخابرات بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا التي تشارك وكالة الأمن القومي الأميركية في التحالف المعروف باسم «العيون الخمس» برامجها الخاصة لمراقبة المواطنين على نطاق واسع، بحسب ما كشفته تسريبات سنودن.
وتقول شوشانا زوبوف مؤلفة كتاب «عصر رأسمالية المراقب» والأستاذة في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد الأميركية، إن المخاطر الأساسية هي أن الدول الديمقراطية تميل نحو نماذج سلطوية في جهودها لاحتواء جائحة «كوفيد - 19».
وتضيف: «هؤلاء الموجودون في السلطة يدركون منذ وقت طويل أن أوقات الأزمات تمثل فرصا استثنائية لجعل الكثير من الممارسات السلطوية المفروضة أمرا معتادا حتى قبل أن يتحرك أي شخص للتصدي لذلك».
ورغم ذلك، تميل نظرة شوشانا زوبوف إلى العالم بعد انتهاء الجائحة إلى التفاؤل، حيث تقول: «لا أتفق مع القول إننا نتجه نحو مستقبل نخضع فيه للرقابة الصارمة... يوجد شيء حتمي حاليا لكن هذا يعني أن علينا أن نتحلى باليقظة. وعلينا التحرك نحو الأمام ومضاعفة الرهان على الديمقراطية باعتبارها السبيل» لتجاوز الجائحة بأقل قدر من التضحية بالحقوق والحريات.
شبح الرقابة الدائمة يهدد شعوب العالم بعد انتهاء «كورونا»
تطبيقات إلكترونية ومخابراتية تحل محل «العصا البيضاء»
شبح الرقابة الدائمة يهدد شعوب العالم بعد انتهاء «كورونا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة