دمشقيون ينزلون إلى الأسواق بـ«قلوب ميتة»... وجيوب فارغة

بائع ينتظر متسوقين في سوق بدمشق (أ.ف.ب)
بائع ينتظر متسوقين في سوق بدمشق (أ.ف.ب)
TT

دمشقيون ينزلون إلى الأسواق بـ«قلوب ميتة»... وجيوب فارغة

بائع ينتظر متسوقين في سوق بدمشق (أ.ف.ب)
بائع ينتظر متسوقين في سوق بدمشق (أ.ف.ب)

مع اقتراب عيد الفطر المبارك، خيّمت مرارة على سكان دمشق بسبب ارتفاع الأسعار في الأسواق وحرمانهم من ممارسة طقوس الفرح خلالها كما اعتادوا منذ زمن قديم، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا خلال الأيام الأخيرة.
وتقول «أم محمد»، وهي أم لثلاثة أطفال أجبرت على النزوح منذ أواخر عام 2012 من منزلها في مخيم اليرموك جنوب دمشق: «منذ نزوحنا لم نشعر بالفرح، لا بفرحة الأعياد ولا بفرحة المناسبات الأخرى. الأعياد لم تعد تمرّ علينا».
هي فقدت زوجها خلال معارك سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على المخيم منذ أواخر عام 2012. وتوضح أن «أمثالنا نسوا شيئاً اسمه فرح وأعياد، وهمهم الوحيد حالياً العودة إلى منازلهم»، وتعدّ أن العودة إلى منازلهم قد تنسيهم «مرارة النزوح» وقد تفرحهم «نوعا ما». وتضيف: «قلوب الناس ماتت. لم يعد فيها مكان للفرح لا بالأعياد ولا غيرها» جرّاء ما خلفته الحرب من ويلات ومآسٍ للناس، على حد تعبير «أم محمد» التي تستبعد أن تعود مظاهر الاحتفال بالعيد إلى سابق عهدها كما كانت قبل سنوات الحرب التي دخلت عامها العاشر منتصف مارس (آذار) الماضي. ومنذ قرون، اعتاد الدمشقيون ممارسة طقوس خاصة بعيدي الفطر والأضحى، والاستعداد لاستقبالهما قبل أيام من قدومهما بإظهار الفرح وشراء الملابس الجديدة لأفراد العائلة كافة، وأنواع كثيرة من الحلويات والسكاكر، والتواصل خلالها مع الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران وتبادل التهاني بهما.
ورغم مشهد الازدحام الكبير في أسواق الألبسة الجاهزة مع اقتراب عيد الفطر، فإن حركة إقبال المواطنين على الشراء ضعيفة جداً بسبب ارتفاع الأسعار الخيالي الذي يفوق قدرة الناس الشرائية عشرات الأضعاف.
ويتحدث سهيل (40 عاما) بحسرة خلال تجوله وحيداً في إحدى أسواق وسط العاصمة، عن أنه يتهرب منذ أسبوع من ولديه لعدم استطاعته «تلبية رغبتهما بشراء ملابس جديدة للعيد، فكسوة ولد واحد تحتاج إلى مرتب شهرين! (مرتب موظف الدرجة الأولى نحو 50 ألف ليرة سورية)، ولم تعد هناك مدخرات بسبب الارتفاع اليومي للأسعار وتضخم مصاريف العائلة»، ويضيف: «لم أسمع بحياتي أن السوريين مرّ عليهم مثل هذه الضائقة التي نعيشها».
ورغم تشديد وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على أصحاب المحال التجارية ضرورة الإعلان وبشكل واضح عن الأسعار، فإن المتجول في الأسواق نادراً ما يرى قطعة ملابس معروضاً عليها سعرها.
محمود شاب لا يتجاوز الثامنة عشرة من العمر كان يتجول مع عدد من أصدقائه في سوق تجارية شرق العاصمة على أمل شراء ثياب جديدة للعيد، لكن كلما أعجبته قطعة على واجهة محل ما ودخل لمعاينتها وقياسها، يفاجأ بعد ذلك بسعرها «الجنوني غير المعقول»، ويقول: «من يصدق أن قميصاً بـ38 ألف ليرة، والمصيبة أن كل أصحاب المحال يتمسكون بالسعر الذي يطلبونه ولا يتنازلون عنه ليرة واحدة».
ويوضح الشاب أنه بهذه الأسعار لا يمكنه أبداً شراء ثياب جديدة للعيد، ومثله معظم أصدقائه؛ لأن الأحوال المادية لعائلاتهم لا تسمح بذلك، وبالتالي «بات العيد مثله مثل باقي الأيام؛ لا بل أيام العيد أصبحت ممزوجة بغصة كبيرة، لأننا لم نعد نستطيع عيشها كما في السابق».
ويقدر «البنك الدولي» أن 87 في المائة من السوريين في مناطق سيطرة الحكومة يعيشون تحت خط الفقر جراء الحرب المستمرة في البلاد. وجاءت موجة الغلاء التي تسببت بها الإجراءات الحكومية لمواجهة انتشار وباء «كوفيد19» لتزيد من معاناتهم التي فاقمها أكثر تفجر الخلاف بين الحكومة ورامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد حيث تدهور سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي منذ ظهور هذا الخلاف من 1200 ليرة إلى أكثر من 1800 ليرة بعدما كان قبل اندلاع الأحداث في سوريا التي دخلت عامها العاشر منتصف مارس (آذار) 2011، بين 45 و50 ليرة.
وقدّر «برنامج الأغذية العالمي» ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمعدل 107 في المائة خلال عام واحد، في وقت يؤكد فيه واقع الأسعار الحالية والمتعاملون مع السوق من مواطنين وباعة مفرق تسبب أزمة انتشار وباء «كوفيد19» في ارتفاع الأسعار بنسبة أكثر من 100 في المائة عما كانت عليه قبل الإجراءات الوقائية لمواجهته، وتضاعفها بالنسبة ذاتها مع تفجر الخلاف بين الحكومة ومخلوف، مما يعني أن الأسعار ارتفعت بنسبة 200 في المائة خلال أزمتي «مخلوف والحكومة» و«كوفيد19».
وكان لافتاً في الموجة الجديدة لارتفاع الأسعار، هو التحليق الجنوني لأسعار الحلويات بشكل خيالي؛ إذ يصل سعر الكيلو غرام الواحد من «المبرومة» أو «الآسية» ذات النوعية «الإكسترا» في عدد من المحال، إلى 32 ألف ليرة، والوسط إلى 16 ألفاً، بينما يبلغ سعر الكيلو من «معمول العجوة» أو «البرازق» أو «بتيفور» إلى 12 ألفاً. وفي ظل إقبال ضعيف على محلات بيع تلك الأصناف من الحلويات، يصف رجل في العقد السادس من العمر أسعار تلك الحلويات وهو يشاهد منظرها الجذاب على واجهات المحلات، بأنه «سرقة كبيرة»، ويتساءل باستغراب: «ماذا يحشونها: فستق أم ذهب؟ حتى يبيعوها بهذه الأسعار».
سوسن، وهي لاجئة فلسطينية اعتادت في سنوات ما قبل الحرب تصنيع قسم كبير من الحلويات (معمول الجوز والفستق والعجوة) في المنزل بينما تشتري «بقلاوة» و«مبرومة» و«آسية» من السوق، تقول: «منذ اندلاع الحرب في البلاد، نادراً ما قمت بتصنيع حلويات العيد في المنزل، ويقضي الأمر بشراء كمية قليلة من السكاكر لإسكات الأطفال. أما بالنسبة لنا نحن الكبار؛ فنفوسنا ماتت، ونسينا الحلويات، وتعودنا على المرار».


مقالات ذات صلة

صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل يرتدي كمامة ويركب دراجة في مقاطعة هوبي بوسط الصين (أ.ف.ب)

الصين ترفض ادعاءات «الصحة العالمية» بعدم التعاون لتوضيح أصل «كورونا»

رفضت الصين ادعاءات منظمة الصحة العالمية التي اتهمتها بعدم التعاون الكامل لتوضيح أصل فيروس «كورونا» بعد 5 سنوات من تفشي الوباء.

«الشرق الأوسط» (بكين)

الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)

كثّفت الجماعة الحوثية استهدافها مدرسي الجامعات والأكاديميين المقيمين في مناطق سيطرتها بحملات جديدة، وألزمتهم بحضور دورات تعبوية وزيارات أضرحة القتلى من قادتها، والمشاركة في وقفات تنظمها ضد الغرب وإسرائيل، بالتزامن مع الكشف عن انتهاكات خطيرة طالتهم خلال فترة الانقلاب والحرب، ومساعٍ حثيثة لكثير منهم إلى الهجرة.

وذكرت مصادر أكاديمية في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء لـ«الشرق الأوسط» أن مدرسي الجامعات العامة والخاصة والموظفين في تلك الجامعات يخضعون خلال الأسابيع الماضية لممارسات متنوعة؛ يُجبرون خلالها على المشاركة في أنشطة خاصة بالجماعة على حساب مهامهم الأكاديمية والتدريس، وتحت مبرر مواجهة ما تسميه «العدوان الغربي والإسرائيلي»، ومناصرة فلسطينيي غزة.

وتُلوّح الجماعة بمعاقبة مَن يتهرّب أو يتخلّف من الأكاديميين في الجامعات العمومية، عن المشاركة في تلك الفعاليات بالفصل من وظائفهم، وإيقاف مستحقاتهم المالية، في حين يتم تهديد الجامعات الخاصة بإجراءات عقابية مختلفة، منها الغرامات والإغلاق، في حال عدم مشاركة مدرسيها وموظفيها في تلك الفعاليات.

أكاديميون في جامعة صنعاء يشاركون في تدريبات عسكرية أخضعهم لها الحوثيون (إعلام حوثي)

وتأتي هذه الإجراءات متزامنة مع إجراءات شبيهة يتعرّض لها الطلاب الذين يجبرون على حضور دورات تدريبية قتالية، والمشاركة في عروض عسكرية ضمن مساعي الجماعة لاستغلال الحرب الإسرائيلية على غزة لتجنيد مقاتلين تابعين لها.

انتهاكات مروّعة

وكان تقرير حقوقي قد كشف عن «انتهاكات خطيرة» طالت عشرات الأكاديميين والمعلمين اليمنيين خلال الأعوام العشرة الماضية.

وأوضح التقرير الذي أصدرته «بوابة التقاضي الاستراتيجي»، التابعة للمجلس العربي، بالتعاون مع الهيئة الوطنية للأسرى والمختطفين، قبل أسبوع تقريباً، وغطّي الفترة من مايو (أيار) 2015، وحتى أغسطس (آب) الماضي، أن 1304 وقائع انتهاك طالت الأكاديميين والمعلمين في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية التي اتهمها باختطافهم وتعقبهم، ضمن ما سمّاها بـ«سياسة تستهدف القضاء على الفئات المؤثرة في المجتمع اليمني وتعطيل العملية التعليمية».

أنشطة الجماعة الحوثية في الجامعات طغت على الأنشطة الأكاديمية والعلمية (إكس)

ووثّق التقرير حالتي وفاة تحت التعذيب في سجون الجماعة، وأكثر من 20 حالة إخفاء قسري، منوهاً بأن من بين المستهدفين وزراء ومستشارين حكوميين ونقابيين ورؤساء جامعات، ومرجعيات علمية وثقافية ذات تأثير كبير في المجتمع اليمني.

وتضمن التقرير تحليلاً قانونياً لمجموعة من الوثائق، بما في ذلك تفاصيل جلسات التحقيق ووقائع التعذيب.

ووفق تصنيف التقرير للانتهاكات، فإن الجماعة الحوثية نفّذت 1046 حالة اختطاف بحق مؤثرين، وعرضت 124 منهم للتعذيب، وأخضعت اثنين من الأكاديميين و26 من المعلمين لمحاكمات سياسية.

وتشمل الانتهاكات التي رصدها التقرير، الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب الجسدي والنفسي والمحاكمات الصورية وأحكام الإعدام.

عشرات الأكاديميين لجأوا إلى طلب الهجرة بسبب سياسات الإقصاء الحوثية وقطع الرواتب (إكس)

وسبق أن كشف تقرير تحليلي لأوضاع الأكاديميين اليمنيين عن زيادة في طلبات العلماء والباحثين الجامعيين للهجرة خارج البلاد، بعد تدهور الظروف المعيشية، واستمرار توقف رواتبهم، والانتهاكات التي تطال الحرية الأكاديمية.

وطبقاً للتقرير الصادر عن معهد التعليم الدولي، ارتفعت أعداد الطلبات المقدمة من باحثين وأكاديميين يمنيين لصندوق إنقاذ العلماء، في حين تجري محاولات لاستكشاف الطرق التي يمكن لقطاع التعليم الدولي من خلالها مساعدة وتغيير حياة من تبقى منهم في البلاد إلى الأفضل.

إقبال على الهجرة

يؤكد المعهد الدولي أن اليمن كان مصدر غالبية الطلبات التي تلقّاها صندوق إنقاذ العلماء في السنوات الخمس الماضية، وتم دعم أكثر من ثلثي العلماء اليمنيين داخل المنطقة العربية وفي الدول المجاورة، بمنحة قدرها 25 ألف دولار لتسهيل وظائف مؤقتة.

قادة حوثيون يتجولون في جامعة صنعاء (إعلام حوثي)

لكن تحديات التنقل المتعلقة بالتأشيرات وتكلفة المعيشة والاختلافات اللغوية الأكاديمية والثقافية تحد من منح الفرص للأكاديميين اليمنيين في أميركا الشمالية وأوروبا، مقابل توفر هذه الفرص في مصر والأردن وشمال العراق، وهو ما يفضله كثير منهم؛ لأن ذلك يسمح لهم بالبقاء قريباً من عائلاتهم وأقاربهم.

وخلص التقرير إلى أن العمل الأكاديمي والبحثي داخل البلاد «يواجه عراقيل سياسية وتقييداً للحريات ونقصاً في الوصول إلى الإنترنت، ما يجعلهم يعيشون فيما يُشبه العزلة».

وأبدى أكاديمي في جامعة صنعاء رغبته في البحث عن منافذ أخرى قائمة ومستمرة، خصوصاً مع انقطاع الرواتب وضآلة ما يتلقاه الأستاذ الجامعي من مبالغ، منها أجور ساعات تدريس محاضرات لا تفي بالاحتياجات الأساسية، فضلاً عن ارتفاع الإيجارات.

إجبار الأكاديميين اليمنيين على المشاركة في الأنشطة الحوثية تسبب في تراجع العملية التعليمية (إكس)

وقال الأكاديمي الذي طلب من «الشرق الأوسط» التحفظ على بياناته خوفاً على سلامته، إن الهجرة ليست غاية بقدر ما هي بحث عن وظيفة أكاديمية بديلة للوضع المأساوي المعاش.

ويقدر الأكاديمي أن تأثير هذه الأوضاع أدّى إلى تدهور العملية التعليمية في الجامعات اليمنية بنسبة تتجاوز نصف الأداء في بعض الأقسام العلمية، وثلثه في أقسام أخرى، ما أتاح المجال لإحلال كوادر غير مؤهلة تأهيلاً عالياً، وتتبع الجماعة الحوثية التي لم تتوقف مساعيها الحثيثة للهيمنة على الجامعات ومصادرة قرارها، وصياغة محتوى مناهجها وفقاً لرؤية أحادية، خصوصاً في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وفي حين فقدت جامعة صنعاء -على سبيل المثال- دورها التنويري في المجتمع، ومكانتها بصفتها مؤسسة تعليمية، تُشجع على النقد والتفكير العقلاني، تحسّر الأكاديمي اليمني لغياب مساعي المنظمات الدولية في تبني حلول لأعضاء هيئة التدريس، سواء في استيعابهم في مجالات أو مشروعات علمية، متمنياً ألا يكون تخصيص المساعدات لمواجهة المتطلبات الحياتية للأكاديميين غير مشروط أو مجاني، وبما لا يمس كرامتهم.