كيف انتشر «بلانديميك» وما فيه من زيف على الإنترنت؟

كيف انتشر «بلانديميك» وما فيه من زيف على الإنترنت؟
TT

كيف انتشر «بلانديميك» وما فيه من زيف على الإنترنت؟

كيف انتشر «بلانديميك» وما فيه من زيف على الإنترنت؟

ما أكثر اللحظات الرقمية المذهلة في زمن وباء «كورونا»، لكن لم ينتشر مقطع مصور بهذا الشكل مثلما انتشر مقطع بعنوان «بلانديميك» مدته 26 دقيقة، وهو سرد أُنتج بطريقة جذابة يزعم أن جماعة سرية تنتمي إلى النخبة كانت تستخدم الفيروس ولقاحاً محتملاً له من أجل تحقيق أرباح ولامتلاك السلطة. وتظهر في المقطع جودي ميكوفيتس، وهي عالمة سيئة السمعة، ذكرت أنّ بحثها الخاص بأضرار اللقاحات قد خُفي. ونشر ميكي ويليس، منتج أفلام مغمور، «بلانديميك» على موقع «فيسبوك»، و«يوتيوب»، و«فيميو»، وموقع إلكتروني منفصل أُنشئ خصيصاً لمشاركة المقطع المصور، في 4 مايو (أيار). وأخذ المقطع في الانتشار على صفحات «فيسبوك» المخصصة لنظريات المؤامرة، والحركة المناهضة لإنتاج اللقاحات، على مدى ثلاثة أيام. وأكثر تلك الصفحات نشرت رابط المقطع على «يوتيوب»، وبعد أسبوع تزايد الزخم الذي حققه، وانتشر انتشاراً واسعاً، ووصل عدد مشاهداته إلى أكثر من 8 ملايين على كل من «يوتيوب»، و«فيسبوك»، و«تويتر» و«إنستغرام».
وركزت صحيفة «نيويورك تايمز» على انتشار المقطع على «فيسبوك» باستخدام بيانات من «كراود تانغل»، وهي أداة لتحليل التفاعلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وساهمت مجموعات وصفحات على «فيسبوك»، في تعزيز الزخم الذي حققه المقطع. ووصل عدد نقرات الإعجاب والتعليقات، أو المشاركات الخاصة به، إلى نحو 2.5 مليون حسب بيانات «كراود تانغل». وبدأ المقطع يظهر في إشعارات مستخدمي مواقع «فيسبوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب»، على الرّغم من دحض وتفنيد ما جاء فيه، وتعهدت شركات مواقع التواصل الاجتماعي بحذف المقطع. ورغم ذلك فقد انتشر المقطع المصور بشكل أكبر، مما يثير التساؤل عن احتمال تقويضه للثقة في الدوائر الطبية، وتغيير آراء الناس بشأن لقاح فيروس «كورونا». ولم يرد ويليس، الذي قال إنه يعتزم نشر مقطع مصور آخر، على طلبنا بالتعليق على الأمر.
في صباح 5 مايو، أي بعد نشر ويليس للمقطع بأقل من 24 ساعة، نشرت صفحة على «فيسبوك» مخصصة لدعم مجموعة «كيو إيه نون» ذات التوجه اليميني المؤيدة لنظريات المؤامرة، مقطع «بلانديميك» على صفحات أعضائها البالغ عددهم 25 ألف تقريباً، تحت عنوان «محتوى حصري ينبغي مشاهدته». وفي غضون أيام شارك أكثر من 1660 مستخدم المقطع على صفحاتهم، بعد مشاهدته على «كيو إيه نون» حسب «كراود تانغل».
وخلال فترة ما بعد الظهيرة من 5 مايو، شاركت الدكتورة كريستيان نورثروب، وهي طبيبة متخصصة في صحة المرأة، المقطع مع نحو نصف مليون من متابعيها على «فيسبوك». وكانت كريستيان، التي ذاع صيتها وزاد عدد متابعيها بفضل ظهورها كخبيرة في المجال الطبي في برنامج «أوبرا»، قد تحدثت عن شكوكها ومخاوفها تجاه اللقاحات. وزاد دعمها بصفتها طبيبة مشهورة للمقطع من انتشاره ومنحه قدراً من المصداقية، وشارك أكثر من ألف شخص المقطع بعد نشرها له، وكان أكثرهم من مجموعات معارضة للقاحات الإجبارية حسب تحليل أجرته الـ«تايمز». ورفضت كريستيان أيضاً طلبنا بالتعليق على الأمر.
وفي مساء 5 مايو، ظهر «بلانديميك» على صفحة سياسية واسعة الانتشار على «فيسبوك»، باسم «ري أوبن ألاباما» (أعيدوا فتح ألاباما) التي يتجاوز عدد أعضائها 36 ألفاً، وكانت جزءاً من حملة يشنها أميركيون لدعم إلغاء قرارات الحجر الصّحي المنزلي.
وفي تلك الليلة، شارك نيك كاتوني، المتخصص في فنون قتالية عدة، المقطع على صفحته على «فيسبوك». وقد أصبح نيك (38 سنة، وعدد متابعيه نحو 70 ألف مستخدم)، ناشطاً مناهضاً للقاحات منذ وفاة ابنه الذي كان يبلغ نحو عامين في 2017. وكان نيك، الذي لم يرد على طلبنا بالتعليق، قد عبّر علناً عن اعتقاده بأنّ اللقاحات هي السبب وراء وفاة ابنه. وسرعان ما عبر أكثر من ألفي شخص عن إعجابهم بالمنشور، الذي حثّ فيه المستخدمون على مشاهدة المقطع قبل حذفه. ومشاركته كانت الأولى من جانب شخصية عامة مشهورة ليس لديها خبرة في المجال الطبي.
وجذب المقطع بعد نشره بيومين انتباه ميليسا أكيسون، التي خسرت المنافسة على ترشيح الحزب الجمهوري في ولاية أوهايو في مجلس الشيوخ خلال الشهر الماضي. وفي 6 مايو نشرت أكيسون البالغة من العمر 41 سنة، والمشاركة في الحملة المناهضة لبرنامج الرعاية الصحية «أوباما كير»، المقطع وقالت لمتابعيها على «فيسبوك»، «إذا شاهدتم أي شيء على صفحتي، فينبغي أن يكون هو هذا المقطع». وساعدت مشاركتها للمقطع في انتشاره بين مستخدمين ينتمون إلى الفئة السياسية، ثم مشاركته بين مجموعات من المحافظين، فضلاً عن صفحات أخرى خاصة بحملة الحزب الجمهوري. وقالت «كنت أعلم عند مشاركتي له، أنّ الناس سيشاهدونه، لأنّهم يعلمون أنني أُشكّك في أخبار وسائل الإعلام السائدة».
على الجانب الآخر، نشر موقع «باز فيد» مقالاً بتاريخ 7 مايو عن «بلانديميك»، وما يتضمنه من أكاذيب؛ ويعد هذا من المؤشرات الأولى التي توضح ملاحظة وسائل الإعلام الإخبارية السائدة له. وتم مشاركة المقال على 63 صفحة على «فيسبوك»، من بينها صفحة «أوكيوباي ديموكراتس»، وهي مجموعة شهيرة ذات توجه يساري، حسب تحليل أجرته صحيفة الـ«تايمز».
ويعد «بلانديميك» جزءاً من عالم أكبر ينشر نظريات المؤامرة، ويسلّط عليه الضوء الصحافيون المضللون منذ بدء الوباء بحسب ما أوضحت جين ليتفاينينكو، التي كتبت عن المقطع المصور لموقع «باز فيد»، عبر رسالة بالبريد الإلكتروني. وأضافت قائلة «توضح مدى شعبيته أهمية فضح المعلومات والأخبار المغلوطة والمضللة، والتعامل مع ما يحدث على الإنترنت بالقدر نفسه من الجدية التي نتعامل بها مع ما يحدث على أرض الواقع». وبعد نشر «باز فيد» للمقال، حدث تحول في التعليقات والمشاركات الخاصة بمقطع «بلانديميك»، فازداد عدد المشككين فيما تضمنه والمفندين لما جاء فيه. وفي اليوم نفسه حذفه كل من موقعي «يوتيوب» و«فيسبوك»، نظراً لمخالفته للسياسات المطبّقة المتعلقة بنشر المعلومات المضللة.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)