كيف سيكون شكل التسوق في المجمعات التجارية بعد «كورونا»؟

من تغيّر طريقة تجربة مستحضرات التجميل إلى التباعد في غرف القياس والدفع عن بعد

في متاجر لين كروفورد بهونغ كونغ العملاء والعمّال يخضعون لفحص درجات الحرارة (نيويورك تايمز)
في متاجر لين كروفورد بهونغ كونغ العملاء والعمّال يخضعون لفحص درجات الحرارة (نيويورك تايمز)
TT

كيف سيكون شكل التسوق في المجمعات التجارية بعد «كورونا»؟

في متاجر لين كروفورد بهونغ كونغ العملاء والعمّال يخضعون لفحص درجات الحرارة (نيويورك تايمز)
في متاجر لين كروفورد بهونغ كونغ العملاء والعمّال يخضعون لفحص درجات الحرارة (نيويورك تايمز)

عندما تعيد المتاجر فتح أبوابها، ستجد ذلك الشخص المعتاد يحيي العملاء بإيماءة عند المدخل، وستشعر بلفحة التكييف المفاجئة وبوميض الأرضيات الرخامية المصقولة، وسينتابك إحساس بالحيرة من أين تبدأ جولتك.
لكن خلف الأبواب ستكون هناك مشاهد جديدة وغير مألوفة تنتظرك: ستجد عبوات مطهر اليدين منتشرة على كل جدار، وستلحظ الموظفين يبتسمون مستترين خلف الأقنعة، وسترى علامات تعرض إرشادات «لما يتعين عليك القيام به للحفاظ على سلامتك». فعندما أعيد فتح متاجر «ساكس فيفث أفينيو» في هيوستن، طبع المتجر سلسلة من التحذيرات على أرضيات البلاط الأبيض، بخط أسود عريض يقول: «الرجاء الحفاظ على التباعد الاجتماعي بمسافة لا تقل عن ستة أقدام عن الآخرين».
بعد أشهر من الإغلاق، بدأ عالم تجارة التجزئة يستيقظ مجدداً، وبدأت أوامر البقاء في المنزل تتلاشى حتى مع تزايد حالات الوفاة الناجمة عن الإصابة بفيروس كورونا. ففي تلك الأماكن كانت المتاجر متعددة الأقسام من بين أول العائدين بعد أن طرحت خطط أمان تفصيلية.
عاودت متاجر «ساكس فيفث أفينيو» فتح أبوابها في تكساس الجمعة الماضية، وأفادت بأنها تهدف إلى فتح عدد محدود من متاجر أوهايو وفلوريدا الأسبوع الحالي، في حين فتحت «غالاري لافييت» متاجرها في فرنسا الاثنين. وفي هذا الصدد، أعلنت شركة «نوردستروم» أنها تخطط بحلول مطلع الأسبوع المقبل لفتح 32 متجراً. ومن المتوقع أيضاً إعادة فتح محال «سلفريدج» و«هارودز» في لندن خلال الأسابيع المقبلة، وفقاً لتوجيهات الحكومة البريطانية.
تبدو جميع الخطط متشابهة حتى الآن، حيث سيرتدي الموظفون أقنعة الوجه وسيخضعون لفحوص صحية، وسيجري إعادة تخطيط للمتاجر لتوفير مساحة أكبر وتعزيز تدفق حركة المرور في اتجاه واحد، وستكون قدرة العملاء على الحركة محدودة، وستخضع المتاجر للتنظيف أكثر من ذي قبل، وسيجري تخفيض ساعات العمل، وسيكون مطهر اليد متاحاً بحرية، وسيتم تعليق أو تعديل أي نشاط أو خدمات تتطلب اتصالاً وثيقاً في المتجر (مثل دروس التجميل، وغرف القياس).
ومع ذلك، حتى مع الإعلان عن تلك الخطط أو عن غيرها من التي سيتم الإعلان عنها قريباً، فإن أياً من تجار التجزئة يبدو على دراية بكيفية تلقيها وتنفذيها. وعلى الرغم من سنوات الاضطراب المالي، فقد ظلت الخدمات التي تقدمها المتاجر الكبرى من دون تغيير إلى حد كبير.
بحسب مايكل سولومون، استشاري سلوك المستهلك، فإن كثيراً من الناس متعطشون لتجربة التسوق مجدداً، «لكن الكثيرين أيضاً يشعرون بضعف نفسي». أضاف «من الواضح أن هذه الروح الضعيفة ستتلاشى... لا أحد يريد أن يكون هناك مرتدٍ قناعاً، حتى لو كان من ماركة غوتشي».
قد يلجأ المستهلكون إلى التسوق كما فعلوا في الماضي للتعامل مع الضغط العاطفي في هذه الأوقات. ومع ذلك، كيف يمكنهم الهرب من هذه الضغوط عندما يكونون محاطين بكل ما يذكرهم به؟
«إن أبسط شيء يبحث عنه الناس هو الصحة والرفاهية؛ ولذلك فإن كل منا يتساءل: هل سأكون بأمان؟» وفي هذا الإطار، قالت ماري بورتاس، مستشارة التجزئة والمذيعة التلفزيونية في بريطانيا، «رغم ذلك، فإن حقيقة أن الناس يريدون الخروج إلى هذا المكان يعني أنهم سيشترون. لقد بذلوا الجهد ولديهم النية».

الانطباعات الأولى
شأن الفنادق والمطاعم الفاخرة، حاولت المتاجر الراقية دائماً إخفاء جهود الصيانة عن عيون العملاء خشية أن يخفف عازل الأرضيات الخفي بريق الفخامة.
وبالنسبة لبائعي التجزئة في زمن الوباء، كلما كانت علامات التنظيف أكثر وضوحاً، كان ذلك أفضل لهم. ولذلك؛ بدأت شركة تنظيف تجارية واحدة تحمل اسم «أنفيرو ماستر» في تقديم شهادات للعملاء لتعليقها في نوافذهم لإثبات أنهم تلقوا خدمة «مبخر الفيروسات».
إن مشاهدة ذلك بعينيك تعطي قدراً من الاطمئنان؛ إذ إن المتسوقين القلقين يحتاجون إلى الاطمئنان، وهي الخطوة التي تبدأ عند مدخل المتجر.
وقال أندرو كيت، رئيس سلسلة متاجر «لين كارفورد» الراقية في هونغ كونغ والصين، حيث لا تزال فروعها مفتوحة رغم انتشار وباء كورونا - باستثناء واحد في أحد مركز للتسوق في بكين - «من المهم أن تكون الإجراءات المطبقة مرئية، وأن تصبح طقوساً».
استطرد كيت قائلاً، إن موظفي متجره، شأن الآخرين في المتاجر الأخرى، يجب عليهم ارتداء أقنعة وفحص درجات الحرارة عند وصولهم، وهو ما يتعين فعله أيضاً من قبل عملاء لين كروفورد (الذين يتعين عليهم أيضاً الإفصاح عن تواريخ سفرهم)، مشيراً إلى أن مثل هذه السياسات من غير المرجح أن تطبق بالدقة نفسها في مناطق أخرى.
وأردف «لا أرى مكاناً مثل بريطانيا يجري فحوص درجة الحرارة في كل نقطة دخول وخروج للعملاء. فما يحدث لا يبدو كأنه نوبة ثقافية. فما يبعث على الاطمئنان في آسيا يبعث على شعور الارتياح نفسه عند شراء قطعة أزياء جديدة هنا. لا يزال الأمر يتعلق ببيع حلم، حتى وإن كان هذا هو الواقع الجديد للبيع بالتجزئة».
القلب النابض للمتجر هنا هو العداد الذي يحصي الجمال.
نقدم هنا دروساً في استخدام مستحضرات التجميل وتزيين العينين. كذلك يجري رش العطور وأخذ عينات من المستحضرات المرطبة لتجربتها؛ ولذلك فإن الكثير من المال ينفق هنا، لكن من دون التلامس مع الجلد. ستتغير تجربة اختبار المنتجات وشرائها بدرجة كبيرة، بحسب كيت.
وفي سياق متصل، قالت إم جيه مانسيل، مصممة تجارة التجزئة، «يجب أن تكون العلامات التجارية مبتكرة للغاية. ما زلنا في حاجة إلى شخص ما لمساعدتنا من خلال مجموعة واسعة من الخيارات».
فالمحاولات الافتراضية عبر الإنترنت، وهي التكنولوجيا المستخدمة بالفعل من قبل شركات مثل «سيفورا» و«أولتا»، يمكن أن تصبح شائعة بعد أن يجري تعميمها. ولذلك سيحتاج الموظفون إلى إيجاد طرق جديدة لتوضيح كيفية استخدام المنتجات.
كما هو الحال بالنسبة للماكياج، ستتغير أيضاً أساليب تجربة الملابس في غرفة القياس في مساحات مشتركة صغيرة وضيقة.
تساءلت مونسل «هل سيشعر العملاء بالأمان عند دخولهم غرفة قياس الملابس؟»، مضيفة «هل نحتاج إلى إعادة النظر في تباعدها أو تكبيرها؟ هل يتعين تطهيرها من قبل العمال المساعدين قبل دخول العملاء وبين كل عميل واخر؟».
في «ساكس» و«نوردستروم»، سيتم عزل الملابس التي يجري جلبها إلى غرف القياس (عزل لمدة 48 ساعة في ساكس، 72 في نوردستروم) قبل إعادتها إلى طابق المبيعات. وينطبق الشيء نفسه على عمليات الإرجاع - وتتوقع «نوردستروم» أن تتسبب عمليات إرجاع السلع المشتراة عبر الإنترنت أثناء الإغلاق في جلبة في الأيام الأولى للعمل.
وفي «ساكس»، سيتم التخلص من أغطية القدم المستخدمة عند تجربة الأحذية بعد الاستخدام في كل مرة. وقالت الشركة، إن «نوردستروم» ستعتمد على تباعد غرف الملابس وستنشر النماذج التي تشير إلى آخر مرة تم تنظيفها - والتي ستكون بعد كل عميل.

تناول الطعام والاندفاع
قبل الوباء، كان تجار التجزئة يدخلون بشكل متزايد إلى خدمات الضيافة مثل المطاعم والمقاهي، لكن في الوقت الحالي يتم إغلاق خيارات تناول الطعام في المتاجر الكبرى في مدن مثل لندن ونيويورك. عندما يتم إعادة فتحها سوف يلتزم معظمها بالتوجيهات المحلية المطبقة في مجال الضيافة، وأهمها التباعد المزدوج بين الطاولات وطلب الوجبات عبر شاشات الإنترنت بدلاً من قوائم الطعام الورقية.
في بريطانيا على الأقل، بدأت خدمة الطعام تستأنف في بعض المتاجر، حيث أعيد فتح قاعة الطعام في «سيلفريدجز» في 1 مايو (أيار)، وإن كان ذلك مع عدد محدود من المتسوقين المسموح لهم بالدخول، مع تطبيق سياسة مرور أحادية الاتجاه وتشغيل مضخات مطهرة يدوية في كل مكان، مع مراعاة فحص درجات حرار الموظفين والعمال مرة واحدة في اليوم.
في النهاية، يُفترض أن تعود خدمة الطعام والشراب إلى طبيعتها، وأن يجري تخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي الصارمة - مثل قرار متاجر «ساكس» إغلاق المصاعد أمام العملاء باستثناء المسنين أو السيدات الحوامل أو المعاقين. ولا تزال السلالم المتحركة في الخدمة، وإن كان من المقرر وضع علامة على الدرج لإبقاء المتسوقين على بعد 6 أقدام.
لكن المحطة الأخيرة التي يمر بها العملاء عادة في متجر متعدد الأقسام هي الخزينة لسداد الحساب، وهو ما قد تتغير بشكل دائم.
في «لين كراوفورد، على سبيل المثال، تم استبدال نقط الدفع (كاشيير) بنقاط بيع متحركة للحد من الطوابير، حيث يتجول المساعدون حاملين هواتف أو كومبيوترات لوحية ويرتدون قفازات لإتمام جميع المعاملات النقدية ومعاملات بطاقات الائتمان دون الحاجة إلى انتظار الدور في طابور طويل.
- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)