يوميات الحرب الليبية (الحلقة الخامسة) خريطة ولاءات القبائل في الصراع مع المتطرفين

(«الشرق الأوسط») تقتحم خطوط النار وترصد يوميات الحرب الليبية

أبناء قبيلة التبو ممن انضموا للجيش الوطني لبسط الأمن في البلاد والحرب ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)
أبناء قبيلة التبو ممن انضموا للجيش الوطني لبسط الأمن في البلاد والحرب ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)
TT

يوميات الحرب الليبية (الحلقة الخامسة) خريطة ولاءات القبائل في الصراع مع المتطرفين

أبناء قبيلة التبو ممن انضموا للجيش الوطني لبسط الأمن في البلاد والحرب ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)
أبناء قبيلة التبو ممن انضموا للجيش الوطني لبسط الأمن في البلاد والحرب ضد المتطرفين («الشرق الأوسط»)

من النادر أن تجد في ليبيا أسرة لا تمتلك سيارة. ومن النادر أيضا ألا تجد في هذه السيارة أسطوانة للشعر الشعبي لأحد شعراء القبائل. وتغص ليبيا بالشعراء الذين تعبّر قصائدهم وأهازيجهم عن المزاج العام في البلاد. وفي الماضي، تعرّض العديد من هؤلاء الشعراء الذين انتقدوا معمر القذافي للاضطهاد، واضطروا للسكوت أو تسريب القصائد دون ذكر لأسماء مؤلفيها. أما في الوقت الحالي، فإن الشعراء الذين يرفضون في قصائدهم حكم جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من المتطرفين، أصبحوا عرضة للقتل. ووصلت تهديدات لأبرز هؤلاء، ويُدعى نصيب السكوري، الذي رد على «الإخوان» و«أنصار الشريعة» وغيرهم من الموالين لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، بقصائد انتشرت في عموم ليبيا أخيرا، منها قصيدة «يا العين لي زمان»، وقصيدة «غيبة عزيز خسارة»، وقصيدة «يا نسوم سلّم لي على مصراتة.. اللي جميل برقة كلها نسياته».

شاركت قبائل «إقليم برقة»، وعاصمته بنغازي، في شرق البلاد، في إطلاق شرارة الثورة المسلحة ضد نظام القذافي في 2011. وحين لحقت قبائل «مصراتة» الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر شرق العاصمة طرابلس، بالثورة، حاصرها القذافي ونشر القناصة في شوارعها ودك مبانيها بالصواريخ والقنابل. وبدأت برقة في تسيير مراكب من ميناء بنغازي لإمداد مصراتة بالسلاح والمؤن والمقاتلين والصحافيين، إلا أن الخلافات دبت بين مصراتة والعديد من القبائل الليبية الأخرى، ليس في برقة فقط، ولكن في مدن وبلدات في طول البلاد وعرضها. وتعكس قصيدة «السكوري»، وهو يخاطب «النسيم» ويقول له «سلم لي على مصراتة التي نسيت ما فعلته لها برقة»، المرارة التي تشعر بها القبائل من جراء الانقسامات والاقتتال فيما بينها، بعد أن كانت تجتمع على هدف واحد، هو إسقاط القذافي وتأسيس دولة ديمقراطية».
والمشكلة لا تتعلق بالحرب بين القبائل التي شاركت في الحرب ضد النظام السابق، ولكنها تتعلق أيضا بالقبائل التي كان لها تحفظات منذ البداية على مسلك «ثوار 17 فبراير 2011» واستعانتهم بحلف الناتو لضرب قوات البلاد العسكرية. ولهذا توجد في ليبيا اليوم 3 جبهات بـ3 ولاءات، كما يقول صابر مبري، أحد نشطاء مدينة بنغازي التي تشهد في الوقت الراهن مواجهات بين قوات الجيش والمتطرفين. وتتوزع هذه الولاءات بين «مصراتة» التي يقود بعض متشدديها قوات «فجر ليبيا»، و«جماعة البرلمان الجديد»، الذي ينعقد في طبرق في أقصى الشرق، و«جماعة القبائل»، والمقصود بهم القبائل التي اتُهمت بعد ثورة فبراير بأنها كانت منحازة لنظام القذافي.
وتعد قوات «فجر ليبيا» التي تسيطر في الوقت الحالي على العاصمة طرابلس، الخصم الصعب أمام الجيش. وهي تتكون من خليط قبلي وديني أغلبه متشدد، وإن كان داخله بعض السياسيين المعتدلين. ويقود «فجر ليبيا» رجل إخواني في العقد الخامس من العمر ومن أصول قبلية مصراتية، يدعى صلاح بادي. ويتميز «بادي» بأن لديه اعتقادا قويا وراسخا بأنه «يدافع عن ثورة فبراير ضد من يريد الانقلاب عليها»، ويُؤخذ عليه أن تفكيره ما زال متوقفا عند مرحلة مقاتلة القذافي، وكأن الزمن لم يتغير، كما يقول مبري. وتحت غطاء من قوات «فجر ليبيا» عاد المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) المنتهية ولايته، الذي يسيطر عليه «الإخوان» وحلفاؤهم، للانعقاد في العاصمة، وجرى تشكيل حكومة تسيير أعمال في طرابلس، في تحدٍ للبرلمان الجديد وحكومته وجيشه.
وينخرط في قوات «فجر ليبيا» بالإضافة لـ«الإخوان» والمتطرفين، أبناء عدة قبائل من المدن القريبة من طرابلس ومصراتة، وبعض قبائل الجنوب، ممن لديهم إيمان بأنهم «هم حرّاس الثورة». لكن غالبية القبائل الأخرى موزعة بين أمرين، إما موالاة الجيش، أو الاستمرار على موقف الحياد إلى حين. وتنحاز غالبية قبيلة «المقارحة» لعملية الكرامة والبرلمان الجديد، لكنها لم تُلقِ بكل ثقلها في الصراع الدائر بين الجيش والميليشيات لأن لديها بعض التحفظات أو الشروط.
ويتركز وجود قبيلة «المقارحة» في مناطق سبها والشاطئ في جنوب البلاد، ويمتد وجودها إلى مناطق أخرى في الشمال خاصة في طرابلس وغربها حتى تخوم الزنتان وغريان، إضافة لبعض مناطق الشرق. ويقول أحد شيوخ قادة القبيلة في بنغازي، ويدعى سليمان بوحلومة، إن المقارحة تعرضوا للعسف والضيم من الأحداث التي وقعت منذ الانتفاضة المسلحة ضد القذافي، والحكام الجدد حين تولوا السلطة عملوا على معاقبة أبناء القبيلة بسبب عدد محدود من القيادات التي كانت تعمل في الدولة أثناء حكم النظام السابق، رغم أن القبيلة لم تتبنَّ مواقف تلك القيادات ولم توافق على سياسات القذافي على طول الخط، كما أن عددا من أبنائها شارك، طيلة 8 أشهر، في الثورة ضد حكم معمر الذي استمر 42 سنة.
ومن بين القيادات التي عملت مع القذافي من قبيلة «المقارحة»، عبد السلام جلود، الذي كان يوصَف بأنه الرجل الثاني في ليبيا، وكذا هناك عبد الله السنوسي، الذي ينتمي للمقارحة أيضا، وكان يشغل موقع رئيس المخابرات ويُعد بمثابة الصندوق الأسود لحقبة القذافي، وهو مسجون حاليا.
واقترن اسم «المقارحة» مع اسم قبيلة «القذاذفة» التي ينتمي إليها معمر، وكان مصيرهما مشابها لمصير و«ورفلة» وغيرها، في العزلة التي فُرضت عليهم من جانب الحكام الجدد. وسعت قيادات في «فجر ليبيا» لإجراء مفاوضات لكسب ود تلك القبائل مقابل الإفراج عن قيادات ممن ما زالوا في سجون «الثوار»، خاصة في مصراتة وطرابلس. كما يحتفظ الجيش هو الآخر بسجناء من القبائل المسحوبة على النظام السابق، وله شروطه في فتح أبواب الحوار من أجل الإفراج عنهم وفق آليات شبه رسمية، مثل «لجان العدالة الانتقالية» وغيرها من الإجراءات، لكن تلك القبائل تشكو أيضا مما تسميه «ابتزاز الحكام الجدد لشراء مواقف مساندة لهم في معاركهم حول السلطة».
ويتركز وجود «القذاذفة» في سبها وسرت، أي في الجنوب والوسط، وهي تقف، نظريا على الأقل، مع «عملية الكرامة»، لكن لديها مطالب تشترط الدخول في حوار حولها قبل اتخاذ موقف رسمي ومعلن بمساندة الجيش، ومن أشد هذه الشروط صعوبة، على ما يبدو، معرفة مكان دفن القذافي وتسلمه لإعادة دفنه بمعرفتها. ويعطي كل فريق قبلي في ليبيا أرقاما مبالغا فيها لعدد أبناء قبيلته. ولو جمعت ما تحصل عليه من أرقام من كل قبيلة فيمكن أن يصل عدد أبنائها في ليبيا إلى 60 مليون نسمة، بينما، في الواقع، لا يزيد إجمالي عدد السكان عن 6 ملايين نسمة إلا قليلا، بل إن العدد يتناقص بسبب القتل اليومي المستمر منذ فبراير 2011 حتى الآن.
وعلى كل حال يبدو أن قبيلة «التبو»، التي يتركز وجودها في مدن الجنوب والشرق وبعض مناطق جنوب طرابلس، حسمت أمرها منذ وقت مبكر بالانحياز للجيش. لكن القبيلة تعاني من قلة العتاد والسلاح.
ويقول هاني جمعة، وهو ناشط حقوقي من الجنوب: «التبو يقفون في وجه المدفع. هم موالون للجيش، ولهذا يدفع أبناؤهم ثمن هذا الموقف». ويتقاسم أبناء القبائل الرافضة لحكم المتطرفين ولفتاواهم التي تكفر الخصوم وتدعو لقتالهم، الأهازيج الغنائية الشعبية، التي تنتقل كالبرق بين مدن الشمال والجنوب، وتسخر هذه الأهازيج من قادة «الإخوان» والمتطرفين.
وتقع في كثير من الأحيان مواجهات بين أبناء «التبو» وأبناء قبيلة أخرى لها وجود في جنوب ليبيا وشمال النيجر وكل من جنوب الجزائر وشمال مالي، وهي قبيلة «الطوارق» التي تتخذ من منطقة «الأبيض» مستقرا لها، وهي منطقة تقع بعد مدينة سبها بقليل، ناحية الجنوب والغرب، وتمتد على جانبي الطريق، عبر عشرات الكيلومترات، حتى مدينة أوباري. ورغم أن العلاقة بين «التبو» و«الطوارق» جيدة في معظم الأحيان، فإن انخراط مجموعات من «الطوارق» مع المتطرفين يتسبب في وقوع مناوشات ومعارك مع «التبو» وغيرهم، يسقط فيها القتلى بين وقت وآخر.
وتستمد مجموعات المتطرفين الشجاعة من وجود قطاعات من قبائل أخرى توالي جماعة الإخوان ومن معها من ميليشيات متطرفة، مثل قبيلة «الحساونة»، المنقسمة على نفسها في الموقف من الجيش. ويوجد «الحساونة» في مناطق الشاطئ وسبها، في الجنوب أيضا. ويقول عبد الرحمن علوان، الضابط السابق في الجيش، وهو من «الحساونة»، إنه تعرض لضغوط من قبيلته لترك الخدمة.. «وافقتُ على ذلك، لكنني لم أتورط في الانضمام للمتشددين. وأفكر في العودة إلى الجيش مجددا والانخراط في قوات حفتر.. وكما يوجد لدينا في القبيلة شبان يتبعون الإسلاميين، هناك قطاع يؤيد عملية الكرامة ويعترف بالبرلمان الجديد. لكن المشكلة لدينا في الشباب الذين يستجيبون لإغراءات المتطرفين، رغم أنهم شبان عاديون ولم يُعرف عنهم أنهم متشددون».
ويضيف أن «من بين أبناء القبيلة من يتولى قيادة مجموعات من المسلحين، وهذا أحد أسباب انضمام شبان طامحين لتلك المجموعات»، مشيرا إلى أن أحد قادة هذه الميليشيات، يدعى الشيخ أحمد الحسناوي، و«يعمل آمرا لـ(درع الجنوب) التابع لـ(فجر ليبيا)، إلا أنه، مع ذلك، يوجد لدى الحساونة أيضا مجموعة معتبرة موالية لعملية الكرامة». ويتفاخر أبناء القبيلة بارتباط اسم قبيلتهم بعدة وقائع ومعالم في ليبيا، من بينها سنوات الجهاد ضد «الطليان». ويجاور بعضٌ من قبيلة «الحساونة» قبيلة «أولاد سليمان»، التي يتمركز أغلبها في سبها. والمشكلة أن القبائل تريد أن تتفاخر بوجود ميليشيات يرأسها قادة من أبنائها، وكأنها تريد استعادة التاريخ القديم حين كان التنافس بين القبائل ينصب على عدد ما تملكه من خيول وفرسان حرب.
ويقول علوان: «الفرق هو أن التنافس القديم بين القبائل كان يدور حول مقاومة الاستعمار التركي فالطلياني، أما التنافس هذه الأيام فأصبحت حدوده لا تتجاوز الليبيين بعضهم ضد بعض». ولدى قبيلة «أولاد سليمان»، مثل قبائل ليبية أخرى، تاريخ طويل من «الجهاد» و«التمرد» على سلطات الاحتلال الأجنبي، ولها قادة تاريخيون ما زالوا يُذكرون حتى اليوم، رغم مرور نحو 150 سنة على المعارك الوطنية التي قادوها، مثل عبد الجليل سيف النصر، الذي تزعّم ثورة مسلحة ضد الحكم التركي في بلاده.
وقصم ظهر قبيلة «أولاد سليمان» موقعتان؛ الأولى خسارتهم للمعارك ضد الطليان عام 1929، مما اضطرهم للهجرة مجددا إلى بلدان مجاورة مثل مصر وتشاد والنيجر، والثانية وقوف القذافي، منذ تقلده الحكم عام 1969، ضد طموحاتها في الاستمرار بحكم إقليم فزان. ويقول أحمد الجاولي، وهو ناشط حقوقي وأحد أبناء القبيلة ممن نزحوا من سبها للإقامة في بنغازي، بسبب الاشتباكات الجارية حاليا في الجنوب، إن القبيلة، مثلها غيرها، عملت مع القذافي فيما بعد، وتقلد العديد من أبنائها المشهورين مراكز متقدمة في الدولة لسنوات، من بينهم القائد الأمني في تسعينات القرن الماضي، عبد السلام زادمة، لكن القبيلة أرادات بعد «ثورة 17 فبراير 2011» أن تنفض عن نفسها غبار القذافي، فسارعت بموالاة منظومة الحكم الجديدة، إلا أن هذا الأمر أصبح يقتصر الآن على قطاعات من الشباب المتحمسين فقط، بعد أن اكتشف قادة القبيلة محاولات جماعة الإخوان وإغراءاتها للهيمنة على الدولة.
وحين تريد قبيلة من القبائل إبعاد تهمة اتصالها بالقذافي، تسرد عليك، على الفور، قائمة من أسماء أبنائها الذين أُعدموا أو سُجنوا أو فروا للخارج بسبب ملاحقات النظام السابق، وانضمامهم للمعارضة، مثل ابن قبيلة «أولاد سليمان»، غيث سيف النصر، الذي شغل موقع الرجل الثاني في «جبهة إنقاذ ليبيا» المعارضة للقذافي من المنفى، وجرى الأمر أيضا مع قبيلة «المغاربة» التي ينتمي إليها محمد المقريف، أول رئيس للبرلمان السابق، قبل أن يتسبب المتطرفون في استقالته من منصبه بإصدارهم قانون العزل السياسي، بحجة أنه، قبل أن يكون معارضا، عمل مع النظام السابق، وغيرها من التقاطعات المعقدة التي أصبح يتميز بها المجتمع الليبي، سواء على مستوى القبائل أو الميليشيات.
ويوجد فرع مهم لقبيلة «أولاد سليمان» في منطقة «هراوة» جنوب مدينة سرت بوسط البلاد قرب مناطق نفوذ قبيلة «القذاذفة». لكن محاولات التعاون بين القبلتين في المرحلة الجديدة يبدو أنها باءت بالفشل. ويقول أحد قيادات «أولاد سليمان»، ممن لا يريد الإشارة لاسمه في الصحافة، إن بعض الميليشيات التابعة للقبيلة في محيط سبها جنوبا، موالية للمتطرفين، والبعض الآخر، وهو عدد قليل، ولا يُذكر، مع عملية الكرامة. لكن التخبط في موقف القبيلة يتجلى، وفقا لـ«الجاولي»، من خلال تعاملها مع أحد أبنائها المهمين ممن كانوا يعدون من الأذرع الرئيسية في حكم القذافي، وهو الشاعر عبد الله منصور، الذي لجأ لدولة النيجر المجاورة، عقب سقوط النظام، وجرى تسليمه للحكام الجدد في طرابلس في ظروف غامضة، في فبراير (شباط) الماضي، وذلك أثناء رئاسة الدكتور علي زيدان للحكومة الليبية.
وتغنى بأشعار منصور، طوال نحو 30 عاما، العديد من المطربين المعروفين، ولم يكن يخلو مسجِّل سيارة من كلماته عن «النجع»، و«الإبل»، و«الربيع»، و«رفاق العمر». وكان يشغل، أيام القذافي، موقع رئيس جهاز الأمن الداخلي ومسؤول إذاعات الدولة. وتقول المعلومات المتوفرة إنه حاول جرّ قبيلته، أثناء إقامته في النيجر، لكي تنضم لجبهة مناوئة لحكم المتطرفين في طرابلس، و«قدمت حكومة زيدان للنيجر ما يثبت قيامه بإجراء اتصالات بهذا الشأن، وقامت بتسلمه بعد أن جرى نقله في طائرة من النيجر لطرابلس». ويقبع منصور الآن مع آلاف من أبناء القبائل الأخرى في عدة سجون ومعتقلات سيئة السمعة بعيدا عن سلطة الدولة.
ويكشف أحد قادة الأمن الليبي عن أن جماعة الإخوان قدمت وعودا لفرع قبيلة «أولاد سليمان» في الجنوب، ممن لا يحملون أوراقا ثبوتية بسب هجرتهم الطويلة في تشاد والنيجر، وأبلغهم قادة من الجماعة أن وقوف القبيلة مع قوات «فجر ليبيا»، سيسهل الاعتراف بهم بصفتهم مواطنين ليبيين لاحقا، مشيرا إلى أن مشكلة إثبات الهوية الليبية جعلت جانبا من أبناء هذه القبيلة «يتحركون بحسابات خاصة من أجل الحفاظ على مصالحهم في المستقبل.. إنهم يوالون من يمكن أن يتعهد بالاعتراف بهم ليبيين كاملي الأهلية».
وعلى النقيض من الموقف الملتبس للعديد من القبائل، تبدو قبيلة «ورفلة» التي ينتمي إليها محمود جبريل أول رئيس لحكومة الثورة ضد القذافي، واضحة في موالاتها للجيش، لكن المشكلة التي تحول دون نزول القبيلة بثقلها في غمار الحرب ضد الميليشيات المتطرفة تتلخص في رفضها لكثير من شعارات «ثورة فبراير» التي تسببت في تخريب أحد أهم معاقلها العام قبل الماضي، وهي مدينة بني وليد جنوب سرت، على أيدي ميليشيات «الإخوان» وقادتها المتشددين من مدينة مصراتة.
وتسبب اجتياح الميليشيات للمدينة الواقعة في منخفض داخل الصحراء، في تهجير ألوف المدنيين وقتل وإصابة المئات، وترك مشاعر متعطشة للثأر. ويقول أبناء القبيلة إن هذه الواقعة «لن تُمحى من ذاكرة ورفلة»، ويقول علي عبد الحليم من أبناء القبيلة إنها لم تكن مؤيدة للقذافي على طول الخط، بل عاقبها القذافي كثيرا بعد قيام ضباط منها في الجيش بمحاولة الانقلاب عليه عام 1992 بقيادة الضابط مفتاح قروم.
ولم تقف القبيلة بشكل صريح مع ابنها جبريل حين كان رئيسا لحكومة الثوار في ربيع 2011. ولم يغير أغلب قادتها موقفهم المعادي للحكومات التي جاءت من بعده. وظلت بعض المباني في معقل ورفلة في بني وليد ترفع أعلام القذافي الخضراء حتى وقت قريب. لكن يوجد فرع آخر للقبيلة في جنوب البلاد، وهو فرع صغير يتركز في مدينة سبها، و«ذو موقف غامض حتى الآن فيما يتعلق بتعامله مع الإسلاميين وعملية الكرامة». لكن أحد المصادر الأمنية أفاد بأن المعلومات تقول إنه «يوجد بيت صغير من بيوت ورفلة في سبها يتبع الإسلاميين».
ويبدو أن الخوف من المستقبل يسيطر على العديد من القبائل الصغيرة الأخرى، أو «البيوت»، خاصة في الجنوب، وهي، كما يقول هذا المصدر الأمني.. «لا تريد أن تحسم أمرها إلى حين انتهاء الصراع في الشمال بين المتطرفين والجيش، ومنها بيوت أولاد حضير الذين يميلون إلى التوجه الصوفي، والسهكة، وقبيلة الحطمان، التي تتركز معاقلها في سبها والشاطئ».
وقبل ترك القبائل التي لها ثقل في الجنوب، الذي توجد فيه حقول غنية بالنفط والغاز، لا بد من الإشارة إلى قطاع مهم هناك يُسمى الأهالي، وهم من غير المنتمين للقبائل العربية، لكنهم عبارة عن خليط من أصول ليبية قديمة وأخرى زنجية وأفريقية «ولا ولاء محددا وواضحا لهم حتى الآن حيال طرفي الصراع. وموقفهم يشبه موقف قبيلة الشرفة التي يتركز وجودها في بلدات جنوب سبها وجنوب الجفرة، ومنها بلدة تمسا وهون».
ويُعد الشمال الليبي مركز الثقل للقبائل، ويطلق البعض على مدينة بنغازي «ليبيا المصغرة» بسبب وجود فروع لنحو 280 قبيلة فيها، بمن فيهم قبائل مصراتة والعبيدات والمغاربة والبراعصة والقطعان وقبائل أخرى من أولاد علي، الذين لديهم امتداد قوي داخل مصر. ويقول أحد المتخصصين في هذا الشأن من بنغازي، وطلب عدم ذكر اسمه بسبب الصراع المسلح الدائر في المدينة، إن فروع جميع القبائل موجودة هنا، وحين تحدث مشكلة في بنغازي تتأثر بها كل المدن الليبية.
ويضيف الرجل الذي يدير مركزا للدراسات، وجرى تهديده من قبل متطرفي المدينة: «بنغازي فيها الداء والدواء. القذافي كان يقسم بنغازي لـ4 أقسام قبلية لا بد أن يكون لها ممثلون في السلطة، وهم: العواقير والمصاريت والمرابطين والسعادي. ولو كانت هناك 20 وزارة، فكل قسم من هذه الأقسام يحصل على 5 وزارات، لكن هذه الأقسام الـ4 ليست متساوية في الحقيقة. قبيلة العواقير أكبر ربع في بنغازي.. بينما المصاريت أقلية. وتضم قبائل المرابطين: المنفي والعوامة والشهيبات والفرجان والتراهنة.. أما قبائل السعادي، فمنها البراعصة والعبيدات والحاسة وأولاد علي».
ويضيف أنه من الغريب أن «معظم قادة الميليشيات المتطرفة ليسوا من القبائل الكبرى واسعة الانتشار، وغالبية من يقودون الميليشيات في شرق البلاد وفي الغرب أيضا هم أساسا من مصراتة، مثل القيادي الإخواني علي الصلابي، الذي يقيم في بنغازي، وصاحب فكرة توحيد الإسلاميين في ليبيا مع مصراتة، وتسببت هذه العلاقة في خلافات بين قبائل مصراتة وباقي القبائل»، ومنها قبيلة الزنتان الموالية للجيش، التي تتمركز في الجبل الغربي من العاصمة.
ويقول إن مصراتة شعرت بالغبن بسبب تجاهلها بعد مقتل القذافي.. «قبائل مصراتة لم تحصل على أي مقاعد ذات شأن في حكم الدولة الجديدة، ولم تشغل أي موقع من المواقع الـ26 العليا في البلاد، ولهذا انتفضت حين شعرت بأن بعض القبائل تريد أن تهيمن على السلطة وحدها، بالقوة، وقام بعض قادتها بالتحالف مع (الإخوان) والمتطرفين، وأسست قوة فجر ليبيا.. تريد أن تقول إنها هي أكثر من قدّم شهداء في الثورة، وأنها الأقوى عسكريا».
ومن القبائل المجاورة للعاصمة التي حسمت الأمر وانضم غالبية أبنائها لقوات الجيش ورشفانة التي تتكون من 7 بيوت كبيرة. ويتركز وجودها في جنوب وجنوب غربي طرابلس، وتمتلك مساحات جغرافية واسعة وكبيرة، وتسليحها جيد جدا، مثلها مثل قبيلة العجيلات، التي يوالي أغلبها الجيش، وهي قبيلة كبيرة يتركز وجودها في صبراتة وصرمان، ومشهورة في تاريخ ليبيا بالشجاعة والإقدام والقتال، كما يقول أحد قادة القبيلة، لكن تسليح قبيلة ترهونة القريبة من العاصمة أيضا والموالية للجيش أيضا، غير معروف.
وما زالت ولاءات العديد من القبائل والمناطق الأخرى لم تُحسم بشكل نهائي بعد، ومنها المناطق القريبة من الحدود الليبية - التونسية التي ينحدر منها البغدادي المحمودي، آخر رئيس للحكومة في عهد القذافي، كما لا يُعرف موقف الأصابعة ونالوت وصرمان، وهذه الأخيرة ينتمي إليها اللواء الخويلدي الحميدي، أحد رفاق معمّر، وكذلك ما زال موقف غدامس غامضا، وهي البلدة التي ينحدر منها رئيس الحكومة الليبية الحالي، عبد الله الثني. هذا مع ملاحظة أن بعض المناطق هناك يتحكم فيها المتطرفون بشكل صريح، مثل منطقة صبراتة التي كانت مستقرا، لمدة أسبوعين في مطلع هذا العام، للقيادي الجزائري في تنظيم القاعدة، مختار بلمختار، والتقى فيها مع قيادات من المتشددين الليبيين والتونسيين والجزائريين، وفقا للمصادر الأمنية. كما لوحظ ميل أبناء منطقتي المشاشية ومزدة لـ«قوة فجر ليبيا» لأسباب تتعلق بوجود ثأر قديم مع بعض قبائل معادية للمتطرفين.
وبينما ما زالت مدينة الخُمس منقسمة في الولاء لطرفي الصراع، اضطرت مجموعات من شبان المدن القريبة من طرابلس ومصراتة، مثل زليتن، لمغادرتها والانضمام لقوات الجيش التي تتركز عملياته حتى الآن في المنطقة الشرقية (بنغازي ودرنة). وعلى النقيض من هذا، يقف غالبية الأمازيغ الذين لهم وجود غرب طرابلس مع جماعة الإخوان «بعد أن تلقوا وعودا بمساعدتهم مستقبلا في الاعتراف باللغة الأمازيغية، وأن يكون لهم وجود في البرلمان بنظام الكوتة وحق الفيتو على قرارات المجلس التشريعي، ومن أشهر بيوت الأمازيغ هناك جادو، والقلع، ونالوت، وزوارة الذي ينتمي إليه رئيس البرلمان السابق نوري أبو سهمين.
أما فيما يتعلق بالتجمعات القبلية الأخرى الواقعة بين طرابلس وبنغازي، فهناك في سرت، قبائل فرجان ومعدان، إضافة للقذاذفة وغالبية هؤلاء ضد المتطرفين، لكن باقي المدينة، كما يقول أحد ضباط الاستخبارات الليبية: «تحولت لأوكار لأنصار الشريعة والجهاديين الأجانب واللصوص وقطاع الطرق»، بينما يوجد في مدينة إجدابيا قبائل المغاربة والفواخر والعوامة والعواقير، وأغلب هذه القبائل منحازة للجيش والبرلمان، لكن «بعض الأطراف الصغيرة تقف ضد عملية الكرامة، وإن لم تكن بالضرورة مع الإسلاميين»، بينما تقف مناطق البيضاء والمرج والقبة بالكامل تقريبا مع الجيش، حيث يقع على تخوم هذه المنطقة الجبلية الخضراء مقر الحكومة ومقر إدارة عمليات الحرب ضد المتطرفين، ومن قبائل المنطقة هناك العرفة والمسامير والدرسة وغيرها، بالإضافة إلى العبيدات التي ينتمي إليها اللواء عبد الفتاح يونس رئيس أركان الجيش الليبي الراحل، الذي يُعتقد أن المتطرفين كانوا وراء عملية اغتياله البشعة، حين كان يقود الحرب ضد قوات القذافي، وهي حادثة ما زالت غامضة، وتثير قريحة الشعراء وهم يؤلفون القصائد والأهازيج الشعبية عن الغدر، وعما آل إليه حال البلاد والعباد.

يوميات الحرب الليبية (الحلقة الرابعة): مقتل قيادات مهمة في أنصار الشريعة بينهم جزائريون ومصريون في معركة «جسر بنينة الأول»
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الثالثة): زعيم «إمارة درنة» يتحصن بضاحية «لميس التركية» ويستخدم طيور الكناري لمراقبة هجمات الجيش
يوميات الحرب الليبية (2): «إخوان» ليبيا أسسوا جهاز مخابرات في طبرق.. وسعوا لاغتيال نواب من البرلمان الجديد ترصد خط النار بين مصراتة وبنغازي
يوميات الحرب الليبية (الحلقة الأولى): عناصر الأمن أكثر من المسافرين على حدود ليبيا.. وتحذير من «بوابات» للمتطرفين


انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
TT

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)

بموازاة استمرار الجماعة الحوثية في تصعيد هجماتها على إسرائيل، واستهداف الملاحة في البحر الأحمر، وتراجع قدرات المواني؛ نتيجة الردِّ على تلك الهجمات، أظهرت بيانات حديثة وزَّعتها الأمم المتحدة تراجعَ مستوى الدخل الرئيسي لثُلثَي اليمنيين خلال الشهر الأخير من عام 2024 مقارنة بالشهر الذي سبقه، لكن هذا الانخفاض كان شديداً في مناطق سيطرة الجماعة المدعومة من إيران.

ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد واجهت العمالة المؤقتة خارج المزارع تحديات؛ بسبب طقس الشتاء البارد، ونتيجة لذلك، أفاد 65 في المائة من الأسر التي شملها الاستطلاع بانخفاض في دخلها الرئيسي مقارنة بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والفترة نفسها من العام الماضي، وأكد أن هذا الانخفاض كان شديداً بشكل غير متناسب في مناطق الحوثيين.

وطبقاً لهذه البيانات، فإن انعدام الأمن الغذائي لم يتغيَّر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بينما انخفض بشكل طفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين؛ نتيجة استئناف توزيع المساعدات الغذائية هناك.

الوضع الإنساني في مناطق الحوثيين لا يزال مزرياً (الأمم المتحدة)

وأظهرت مؤشرات نتائج انعدام الأمن الغذائي هناك انخفاضاً طفيفاً في صنعاء مقارنة بالشهر السابق، وعلى وجه التحديد، انخفض الاستهلاك غير الكافي للغذاء من 46.9 في المائة في نوفمبر إلى 43 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وضع متدهور

على النقيض من ذلك، ظلَّ انعدام الأمن الغذائي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية دون تغيير إلى حد كبير، حيث ظلَّ الاستهلاك غير الكافي للغذاء عند مستوى مرتفع بلغ 52 في المائة، مما يشير إلى أن نحو أسرة واحدة من كل أسرتين في تلك المناطق تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

ونبّه المكتب الأممي إلى أنه وعلى الرغم من التحسُّن الطفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الوضع لا يزال مزرياً، على غرار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث يعاني نحو نصف الأسر من انعدام الأمن الغذائي (20 في المائية من السكان) مع حرمان شديد من الغذاء، كما يتضح من درجة استهلاك الغذاء.

نصف الأسر اليمنية يعاني من انعدام الأمن الغذائي في مختلف المحافظات (إعلام محلي)

وبحسب هذه البيانات، لم يتمكَّن دخل الأسر من مواكبة ارتفاع تكاليف سلال الغذاء الدنيا، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية، حيث أفاد نحو ربع الأسر التي شملها الاستطلاع في مناطق الحكومة بارتفاع أسعار المواد الغذائية كصدمة كبرى، مما يؤكد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الاسمية بشكل مستمر في هذه المناطق.

وذكر المكتب الأممي أنه وبعد ذروة الدخول الزراعية خلال موسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر، الماضيين، شهد شهر ديسمبر أنشطةً زراعيةً محدودةً، مما قلل من فرص العمل في المزارع.

ولا يتوقع المكتب المسؤول عن تنسيق العمليات الإنسانية في اليمن حدوث تحسُّن كبير في ملف انعدام الأمن الغذائي خلال الشهرين المقبلين، بل رجّح أن يزداد الوضع سوءاً مع التقدم في الموسم.

وقال إن هذا التوقع يستمر ما لم يتم توسيع نطاق المساعدات الإنسانية المستهدفة في المناطق الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحديات هائلة

بدوره، أكد المكتب الإنمائي للأمم المتحدة أن اليمن استمرَّ في مواجهة تحديات إنسانية هائلة خلال عام 2024؛ نتيجة للصراع المسلح والكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.

وذكر أن التقديرات تشير إلى نزوح 531 ألف شخص منذ بداية عام 2024، منهم 93 في المائة (492877 فرداً) نزحوا بسبب الأزمات المرتبطة بالمناخ، بينما نزح 7 في المائة (38129 فرداً) بسبب الصراع المسلح.

نحو مليون يمني تضرروا جراء الفيضانات منتصف العام الماضي (الأمم المتحدة)

ولعبت آلية الاستجابة السريعة متعددة القطاعات التابعة للأمم المتحدة، بقيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي و«اليونيسيف» وشركاء إنسانيين آخرين، دوراً محورياً في معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة الناتجة عن هذه الأزمات، وتوفير المساعدة الفورية المنقذة للحياة للأشخاص المتضررين.

وطوال عام 2024، وصلت آلية الاستجابة السريعة إلى 463204 أفراد، يمثلون 87 في المائة من المسجلين للحصول على المساعدة في 21 محافظة يمنية، بمَن في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً، الذين كان 22 في المائة منهم من الأسر التي تعولها نساء، و21 في المائة من كبار السن، و10 في المائة من ذوي الإعاقة.

وبالإضافة إلى ذلك، تقول البيانات الأممية إن آلية الاستجابة السريعة في اليمن تسهم في تعزيز التنسيق وكفاءة تقديم المساعدات من خلال المشاركة النشطة للبيانات التي تم جمعها من خلال عملية الآلية وتقييم الاحتياجات.