للاحتفال بالتأسيس الأسطوري للمدينة، وإحياء مجدها القديم، عادة ما يجوب موكب حاشد المدينة يرتدي فيه المشاركون زي المصارعين الرومان وعذارى المعابد. لكن فيروس كورونا تولى المهمة بأن ترك الشوارع مهجورة بشكل مخيف، في مشهد قريب الشبه من الكارثة التي وقعت عام 537 ميلادية عندما انخفض عدد سكان روما إلى الصفر.
لا يمتلك الفيروس جيشاً يخترق الجدران، أو يلقى بالجثث في نهر التيبر، أو يحرق المباني. لكن المدينة ازدهرت في بعض النواحي في ظل الوباء. في وجود عدد محدود جداً من السيارات والناس في الشوارع، فاحت رائحة أزهار الوستاريا العطرية، التي تتدلى على الجدران القديمة وأسوار الحديقة، لتملأ المكان عبقاً. وعلى جسر «بونت سيستو» الهادئ، الذي كان مزدحماً عادة بفناني الشوارع، شاهدت خمس بطات تومض أعناقها باللون الأخضر وتهبط على نهر التيبر.
من دون عوادم السيارات ودخان كثيف متصاعد من المطاعم الصغيرة، أصبح الهواء بالغ النقاء، لدرجة أنني تمكنت من خلال نوافذ شقتي الواقعة أعلى تل جيانيكولو، وهو نفسه موقع هجوم مدفعي فرنسي أخضع المدينة لحصار في القرن التاسع عشر، من إحصاء النوافذ في القصور الضبابية وسط المدينة. في الأفق البعيد، وخلف المدينة التي طالما امتلأت بأكاسيد الرصاص، أخذت الآن ملامح المدينة تتضح، وبرزت جوانب الجبال المحيطة بصورة بالغة الوضوح، فيما تظهر المدن البعيدة مثل بقع بيضاء من الثلج.
على عكس الغزوات والحرائق والفيضانات، من الواضح أن الفيروس لم يشكل خطراً على جمال روما. لكن ماذا فعل بروحها؟
الأسبوع الماضي، بعد أيام من الاحتفال بميلاد روما، ذهبت إلى وسط المدينة للحصول على بعض الأغراض من المكتب. كانت حالة المدينة غريبة، كما توقعنا جميعاً.
رغم كون ساحة «كامبو دي فيوري» سوقاً سياحية صاخبة، فقد كانت فارغة إلى حد كبير باستثناء فتاة صغيرة تطوف بدراجتها حول تمثال «جيوردانو برونو» - الفيلسوف والفلكي الذي أُحرق حياً عام 1600 بعد عقود من نهب المرتزقة الإمبرياليين الناطقين بالإسبانية والألمانية للمدينة في غزو دموي عام 1527. مشهد آخر كان لتحرك بعض الأشخاص المقنعين حول ضريح القائد الروماني هادريان، الذي حوله الباباوات إلى قلعة وفرت الحماية من الغزاة لعهود. في الحي اليهودي القديم في روما، حيث سحب النازيون، اليهود الإيطاليين، من منازلهم، خلال الاحتلال الألماني، سرت إلى بقايا مبني «بورتيكو أوتافيا» القديم. وفي غياب لتناغم الحياة الحديثة، تذكرت نقش بيرانيسي في القرن الثامن عشر، التي كانت بمثابة «صور إنستغرام» ذلك الزمان، التي جذبت اهتمام أوروبا بروما بعد مرحلة تراجع جديدة. تساءلت عما إذا كانت هذه الشهور - وربما السنوات - من الحجر الصحي أو العيش مع الفيروس ستغير الرومان بشكل لا رجعة فيه، أم أنها ستصبح حلقة في سلسلة طويلة من المصاعب التي شكلت شخصية روما المعروفة بالاجتهاد ومناهضة الاستبداد.
ستعمل الحكومة على تخفيف أطول إغلاق في أوروبا، بدءاً من الاثنين، وقد أعلن رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، الأحد، أنه يمكن للناس أن يبدأوا قريباً في رؤية «كونجيونيتي»، وهي كلمة تعني الأقارب بشكل فضفاض.
يتطلب الفيروس حرصاً شديداً على الحياة والالتزام بتعليمات مثل «ابق في المنزل. اعمل. اذهب إلى السوبر ماركت». لكن شريان الحياة في روما ضعيف، فهو لا يندفع ويبدو متعرجاً، ويعلق في الدوامات، وأحياناً في الأحواض. في العادة يتجول العجائز وأيديهم متشابكة خلف ظهورهم، ويتكئ الطلاب على السيارات، ويقضون الليل بأكمله يتحدثون عما سيفعلونه في تلك الليلة. هناك كسل لطيف، إحساس ما بالاستمتاع بعدم القيام بأي شيء، وهي الحالة التي شكلت ما يشبه لوحة فنية عامة تجسدت في شكل مسرح مفتوح دائم تتردد أصداؤه في الشوارع، ولا يخلو من تعليقات الجمهور. هذه الحساسية لا تتناسب مع الأزمة الحالية، مع دفع أهل روما إلى التقوقع في الداخل، لأن ما يجري يحطم من أيقوناتهم ومن شعورهم. فمطلب البقاء في البيت بات مثل أداء الخدمة العامة أو المهمة الوطنية لإنقاذ الأرواح، لكنها تجعل من روما مدينة مختلفة.
ثمة تيار خفي لمدينة على وشك الانفجار. يبدو أن السلطات تتخذ إجراءات صارمة تحسباً لتخفيف القيود يوم الاثنين. السبت الماضي، حلقت مروحيتان للشرطة فوق الحي بحثاً عن منتهكي قرار الإغلاق. بعد أن انطلقتا، خرجت امرأتان إلى شرفتيهما في المبنى المقابل للشارع، وغنتا الأغنية القديمة «بيلا تشاو» للاحتفال بالذكرى 75 للتحرير من الفاشيين الإيطاليين.
وانطلق صوت تسع طائرات نفاثة، مخلفة ألوان علم إيطاليا الحمراء والبيضاء والخضراء عبر سماء زرقاء.
كان المشهد رائعاً ووطنياً. لكن زوجتي، المولودة في روما، تأثرت أكثر بمشهد ثلاث شابات على ما يبدو من الجيران تسللن إلى سطح ذلك المبنى نفسه في تحدٍ واضح لقواعد التباعد الاجتماعي بالتحدث معاً لست ساعات متتالية.
- خدمة «نيويورك تايمز»
روما تعرضت في تاريخها للغزو والنهب... والآن حان دور «كوفيد ـ 19»
تحتفل بمرور 2773 عاماً على بنائها
روما تعرضت في تاريخها للغزو والنهب... والآن حان دور «كوفيد ـ 19»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة