الأزمة المعيشية تعيد اللبنانيين إلى الشارع بـ«الكمامات»

بعد تعبئة عامة وفوضى سعر صرف الدولار والأسعار

احتجاجات طرابلس في لبنان نهاية الشهر الماضي (أ ب)
احتجاجات طرابلس في لبنان نهاية الشهر الماضي (أ ب)
TT

الأزمة المعيشية تعيد اللبنانيين إلى الشارع بـ«الكمامات»

احتجاجات طرابلس في لبنان نهاية الشهر الماضي (أ ب)
احتجاجات طرابلس في لبنان نهاية الشهر الماضي (أ ب)

لم يصمد اللبنانيون أكثر من شهر ونصف الشهر في الحجر المنزلي المفروض نتيجة التعبئة العامة لمواجهة «كورونا». فالأوضاع المعيشية الصعبة التي وضعتهم أمام خيارين: إما الإصابة بالفيروس وإما الموت جوعاً، كانت أقوى من أي قرار بالبقاء في البيوت، بعدما خسر عدد كبير من اللبنانيين أعمالهم وباتوا عاجزين عن تأمين لقمة عيش أبنائهم في ظل فوضى غير مسبوقة من ارتفاع سعر صرف الدولار الذي انعكس على أسعار المواد الغذائية التي تضاعفت خلال أيام. وإذا كان الوباء انعكس سلباً على اقتصاد جميع الدول، فإن الإجراءات التي فُرضت لمواجهته في لبنان فاقمت الأزمة التي كان يعاني منها المواطنون في السنوات الأخيرة، وهي كانت السبب في خروجهم إلى الشارع في 17 أكتوبر (تشرين الأول) رفضاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وللمطالبة بالإصلاح، فكان أن سقطت حكومة سعد الحريري، وشُكّلت حكومة حسان دياب بوزراء محسوبين بشكل أساسي على فريق «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وحلفائه.
ورفع دياب والوزراء منذ تشكيل الحكومة لواء «الإصلاح»، طالبين من الشعب اللبناني منحهم فرصة لوضع خطة إنقاذية. وانقسم المتظاهرون بين من رفض منح هذه الفرصة، معتبراً أن الحكومة لا تختلف عن سابقاتها وبين من دفع بهذا الاتجاه خصوصاً بعدما وجد أن التحركات تنعكس سلباً على حياة اللبنانيين وترافقت مع إجراءات غير مسبوقة من المصارف بوضع اليد على ودائعهم. هذا الانقسام بدا واضحاً على الأرض عبر تراجع حجم التحركات في كل المناطق إلى أن دخل لبنان مرحلة «كورونا»، واضطر الناس للبقاء في منازلهم خوفاً على صحتهم.
لكنّ فترة الحجر المنزلي أدخلت لبنان واللبنانيين في جحيم الفوضى المرتبطة بارتفاع سعر صرف الدولار الذي وصل إلى 4200 ليرة لبنانية في السوق السوداء وارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل غير مسبوق، حيث بات قسم كبير من اللبنانيين غير قادر على شرائها، فتجددت الدعوات للخروج إلى الشارع مرفقة بضرورة الالتزام بإجراءات الحماية من «كورونا»، حيث كان لافتاً مشهد المتظاهرين المنتفضين والكمامات على وجوههم. وفيما لبّت مختلف المناطق اللبنانية الدعوة وإن بدرجة متفاوتة، كانت بوصلة التحركات مدينة طرابلس، عاصمة الشمال، التي لطالما كانت تُعرف بـ«مدينة الفقراء»، وأُطلق عليها في تحركات «17 تشرين» تسمية «عروس الثورة» ولتكون أول منطقة تخسر أحد أبنائها الشباب في المرحلة الثانية من الانتفاضة، نتيجة المواجهات بين المتظاهرين والجيش اللبناني.
ويرى الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي جاد شعبان، أن «فترة التعبئة العامة لم تكن أكثر من مرحلة فرضت على اللبنانيين خيار البقاء بمنازلهم لحماية عائلاتهم، لكنها لم تكن فترة سماح للحكومة التي من الواضح منذ تشكيلها لم ولن تحقق مطالب الناس من الانتخابات النيابية المبكرة واستعادة الأموال المنهوبة والمحاسبة وإقرار الخطة الاقتصادية، والتي أُضيف إليها اليوم ارتفاع سعر صرف الدولار وزيادة غير مسبوقة للأسعار من دون أي إجراءات وقرارات توقف كل ما يحصل». ويرى شعبان أن «عودة اللبنانيين إلى الشارع ليست ثورة جوع إنما هي استكمال لثورة أكتوبر»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «غضب الناس يكبر ودائرة الذين يعانون من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تتوسّع، والتحركات التي نشاهدها اليوم ستتضاعف في الأيام المقبلة وهي بالتأكيد ستشمل أيضاً مواطنين لم يشاركوا في تحركات (تشرين) بعدما تفاقم الوضع وباتت المعاناة واحدة في كل منطقة من لبنان». ويرى شعبان أن عمر هذه الحكومة بقدراتها المحدودة لن يكون طويلاً، موضحاً: «رغم وجود بعض الوزراء الجيدين إنما قرار هذه الحكومة ليس بيدها بل بيد الأفرقاء السياسيين الذين شكّلوها، بينما الفريق الآخر المعارض يستفيد من الوضع سياسياً، والدليل على ذلك التعيينات وغيرها من القضايا التي أظهرت سياسة المحاصصة نفسها التي لطالما كانت في الحكومات السابقة».
ومع ترجيحه أن الأيام المقبلة ستشهد المزيد من التحركات الشعبية و«قد نذهب إلى وضع أكثر سوءاً ما لم يصار إلى تهدئة الشارع عبر قرارات وإجراءات حاسمة»، يؤكد أن «مطلب الشعب اللبناني العيش بكرامة وهو الذي يعلم أن بلده ليس منكوباً إنما منهوب، ومن يحكمونه ليسوا إلا سارقين للأموال العامة ولا يزالون بعيدين عن المحاسبة». ومع تأكيده أن «هذه الثورة جمعت الناس بكل طوائفهم وفئاتهم»، لا يستبعد شعبان أن «تستغل القوى السياسية الوضع القائم لليوم للعودة إلى الحرب الأهلية التي باتت أرضيتها جاهزة أو هي تعمل على تجهيزها».
ووفق تقديرات البنك الدولي فإن 55% من الشعب اللبناني بات تحت خط الفقر، فيما سُجل في الأشهر الأخيرة إقفال مئات المؤسسات التجارية ترافق مع صرف واقتطاع رواتب عشرات الآلاف من الموظفين، في الوقت الذي تستمر فيه المصارف في حجز ودائع اللبنانيين، وهو ما جعلها الهدف الأول للتحركات الشعبية في الأيام الماضية وسجل إحراق عدد منها في بيروت والجنوب وطرابلس.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم