كان من المفترض أن نكون على بعد شهر من إطلاق الدورة الجديدة من مهرجان «كان» السينمائي.
جميع أهل السينما وقممها من فنانين ومنتجين وإداريين كانوا سيؤدون ذلك التقليد السنوي المتكرر: يحطون في مطار نيس. تحملهم سيارات المهرجان إلى فنادقهم. يدخلونها ويصعدون إلى شققهم. يتمددون ويحلمون بمشاغل اليوم التالي.
والمشاغل دائماً ما كانت كثيرة وأوقاتها مفتوحة من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة بعد منتصف الليل. هناك أفلام للمشاهدة ليلاً أو نهاراً. هناك اجتماعات وعقود لنيل التواقيع. هناك ممثلون وممثلات ينتظرون أدوارهم لترويج ما قاموا به من أفلام أو ما سيقومون به. موزعون يتسابقون على إبرام الصفقات. حسب أحدهم: «أشاهد عشر دقائق من كل فيلم لا أكثر لأنه إذا ما كان جيداً أريد أن أسبق سواي لشرائه وإذا لم يكن ليس هناك داعياً لمشاهدته أساساً».
للعاملين في الإنتاج والتوزيع وشتّى أمور الترويج تم إنشاء سوق كبيرة تمتد في ثلاثة مواقع تحيط بقصر العروض: واحد تحت القصر وآخر إلى يمينه والثالث إلى يساره. مكاتب و«ستاندات» ومئات الموظفين والعاملين وألوف الداخلين والخارجين والكثير من الحفلات الإعلامية.
والحفلات كانت بدورها لا تنتهي ومن الليلة الأولى للأخيرة. ولا تأتي هذه الحفلات في تتابع منفرد، بل تشهد كل ليلة من ليالي المهرجان ثلاث حفلات كبيرة وما لا يُحصى من تلك الصغيرة.
- سؤال الـ32 مليون يورو
السعادة كانت من نصيب القادمين بأموالهم من الخارج وأصحاب الشقق المفروشة والفنادق والعاملين في الخدمات العامة وسائقي التاكسيات وأصحاب المحلات المستحوذين على هذه الأموال. مشرّدون في الشوارع الخلفية لكن الزائر ليس عليه أن يمر بهم إذا ما كان على مقربة من قصر المهرجان ومن الشارع الرئيسي الممتد ما بين فندق مارتينيز وفندق ماجستيك والقصر المواجه له.
المقاهي والمطاعم وتلك الفنادق تعيش ازدهارها المثالي في كل عام. كيف لا ومطابخها لا تتوقف عن العمل ولا صناديق إيداع الإيرادات؟
وفوق كل ذلك، لديك أهل القمة: رؤساء ومديرو المهرجان وأقسامه ومظاهراته، والإعلاميون الفرنسيون الآتون بجيوشهم من التقنيين لنقل الوقائع والابتسام دوماً لكل مشاهد فرنسي محتمل.
- كل هذا وسواه تلاشى هذا العام.
وتلاشيه ليس نسبة لنشوب حرب عالمية ثالثة (كما حدث في الدورة التأسيسية للمهرجان عندما ابتلعت ألمانيا بولندا في الأول من سبتمبر (أيلول) 1939 ولا لخلاف داخلي بين إدارات المهرجان أو تبعاً لفقدان التمويل (32 مليون يورو كل سنة)، بل لانتشار مرض غريب قضى على عشرات ألوف الناس في عموم فرنسا وأصبح من المستحيل إقامة عرض سينمائي واحد ناهيك عن مهرجان بحجم كان.
وكما ذكرنا في مقال سابق، حاول «كان»، في بداية المحنة، بث الأمل في أن الدورة الثانية والسبعين ستقام في موعدها، ثم تخلّى عن ذلك الموعد واعداً بإقامته في نهاية الشهر السادس أو مطلع الشهر السابع.
هذا قبل أن يضطر المهرجان، في مطلع هذا الأسبوع للإعلان عن إلغاء الدورة بكاملها وعدم برمجتها من قبل أن تنتهي أزمة كورونا برمتها.
الحال المؤسف ليس شذوذاً عن المتوقع. كل نشاطات الحياة العادية أُلغيت أو تأجلت لم لا يمكن القبول بلجوء المهرجان الفرنسي العتيد لأحد هذين المصيرين؟ كيف كان سيبدو الوضع لو أقيم المهرجان ولم يأته أحد؟
لكن سؤال المليون دولار (أو الـ32 مليون يورو في حسبان ميزانية المهرجان) هو إذا ما كان المهرجان سيفضل العودة، كما يأمل مديره العام تييري فريمو، مباشرة بعد تلاشي الوباء أو سيتم إلغاء دورة 2020 برمّتها؟
لم يجب المكتب الصحافي لمهرجان «كان» على رسالة بعثت بها وحملت هذا السؤال ضمن استفسارات أخرى، والغالب أنه لا يملك جواباً يستطيع توفيره على نحو محدد. هذا ما يفتح كلا الاحتمالين على نحو متوازٍ: إما أن يتم عقد الدورة 72 في تاريخ لاحق من هذه السنة أو ينضوي العام من دون دورة ولأول مرّة منذ سنة 1968 عندما غزته السياسة متمثلة بالثورة الثقافية الفرنسية التي وقعت في ذلك العام.
يفضّل مدير المهرجان فريمو أن يعقد المهرجان دورته في زمن لاحق. لكن هذا لن يكون فعلاً سهلاً على الإطلاق، وذلك لبضعة أسباب أهمها البحث عن الموعد المتاح لإقامة مهرجان بمثل هذا الحجم.
الاختيارات محدودة. لدينا مهرجان فينيسيا على أبواب الشهر التاسع من هذه السنة. إذا ما استطاع مهرجان «كان» تدبير موعد إقامته في مطلع الشهر السابع تجنباً للاصطدام مباشرة مع المهرجان الإيطالي الذي يوازيه أهمية، فإن ذلك سيكون عملية محشورة تضر بالمهرجانات الأخرى التي تقام في تلك الآونة في أوروبا أهمها لوكارنو وسراييفو. هذا مع حسبان أن الضرر قد يصيب الدورة ذاتها على أكثر من نحو.
وإذا آخر موعد إقامته لما بعد فينيسيا، فإن المهرجان الإيطالي سينال بالتأكيد سبق الفوز وسينجز ضعف ما سينجزه من نجاح فني وإعلامي. هذا لجانب تعارض الموعد اللاحق مع مهرجانات كبيرة أخرى مثل لندن وسان سابستيان وبوسان.
أما إذا أقيم في الوقت ذاته فسينافس مهرجانان ضخمان آخران هما فينيسيا، كما تقدّم، ومهرجان تورونتو، ومن المستبعد أن يأتي ذلك التنافس بأي نتيجة إيجابية للمهرجان الفرنسي، فالعديد من السينمائيين لديهم تفضيلهم لمهرجان فينيسيا الذي يتميّز بنبرته الفنية خالصة من هموم التوزيع التجاري ونشاطاته، والكثير من السينمائيين، منتجين ومخرجين وممثلين، يفضلون التوجه إلى مهرجان تورونتو لأنه الباب الواسع لدخول السوق الأميركية بأسرها.
كل هذا يأتي في أعقاب دورة العام الماضي وما نتج عنها من نجاح تمثّـل معظمه في حقيقة أن فيلم «باراسايت» (الطفيلي) الكوري (الجنوبي) لم يكتف بفوزه بسعفة مهرجان «كان» بل انطلق ليفوز بأكثر من 250 جائزة عالمية من بينها 4 أوسكارات وبضعة عشر جائزة رئيسية من محافل أخرى.
هذا وضع «كان» على المحك من جديد بعد مرور بضع سنوات أمّن فيها منافسه الأول، فينيسيا، إيصال أفلامه الفائزة إلى محافل الجوائز السينمائية الأولى حول العالم.
التداعيات الحاصلة أصابت المظاهرات المصاحبة للمسابقات الرسمية فأسبوع النقاد، الذي تم إطلاقه أول مرة سنة 1962 تم إلغاؤه كذلك مظاهرة «نصف شهر المخرجين» التي توالت منذ إطلاقها أول مرّة سنة 1969.
لكن «كان» سيكون حاضراً على الإنترنت… ليس كأقسام رئيسية وعروض أفلام عادة ما تمر على الشاشة الرئيسية، بل على صعيد السوق التجارية التي ستنطلق، كما تقرر، في الثاني والعشرين من يونيو (حزيران). سيوفّر ملايين الدولارات على جيوب الموزّعين والمنتجين، لكن حتى هذا الحل لا يبدو كما لو أنه سيثمر عن نجاح كبير.
جديد «كان» بين المطرقة والسندان
الحلول صعبة والتوقعات كبيرة
جديد «كان» بين المطرقة والسندان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة