هذه لحظة تاريخية بامتياز...!، حزينة وكئيبة وموحشة، بل ومفجعة، لكنها تمّثل الفاصل التاريخي بين عالمين: عالم آفل، وآخر يولد من رحم المعاناة، قُدر لنا أن نشهد ولادته، كأشد حالات المخاض وجعاً ونزفاً وحزناً. عالم ما بعد «كورونا» لن يكون كما قبله. سيكون مختلفاً، لكنه ليس بالضرورة أفضل على كل حال.
سيندحر هذا الوباء، لا ريب، وسيخرج الناجون من تحت الركام ليستعيدوا عافيتهم وينتصروا على الألم والعذاب، وليؤبنوا ضحاياهم الذين لم يتسع الوقت لرثائهم أو تلقي كلمات العزاء والمواساة في حقهم.
أهمية هذه اللحظة، أنها تمنحنا الفرصة – رغم الخوف والقلق – أن نشهد ولادة المستقبل أمامنا، لحظة أكبر من كل الأحداث التي شهدناها من قبل: انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام الأمم المتحدة، وسقوط جدار برلين، وانهيار المعسكر الشرقي، وضرب البرجين، وتفجر الثورة الرقمية وثورة الاتصالات. لحظة تمنح هذا الجيل فرصة لا تعوض في أن يطوي مراحل من الزمان للتحول إلى العالم الجديد، العالم الذي يُعاد صياغته بعيداً عن النظريات القديمة. المنتصرون في الحرب الكونية الأولى رسموا خريطة أوروبا وقسّموا التركة العثمانية (في سايكس بيكو)، أما المنتصرون في الحرب الثانية فقد رسموا خريطة العالم برمته.
«العولمة» التي فرضها الغرب تترنح، أمام صعود «الوطنية» القُطرية، مع اتجاه لتكريس السلطويات، لكن الفيروس التاجي فرض عولمته الطاغية المستبدة على البشرية، فما يحدث في مدينة صينية يرتد سريعاً في أرجاء الكوكب وتتداعى له الأرواح، وتتجمد الحركة، وتقف خطوط التجارة والاقتصاد. ماذا تبقى من الليبرالية وأجزاء العالم كله تقطعت بالمتاريس والحواجز، وأجبر الناس قسرياً على الانكفاء في بيوتهم. أما الديمقراطية فقدمت نموذجاً يرثى له لتراخي أنظمة قوية وجبارة أمام الفيروس، حتى عجزت عن حماية شعوبها وتركتهم في مهب الوباء ينهشهم بلا رحمة، بينما نجحت أنظمة لم تدعِ يوماً أنها «ديمقراطية» في استخدام كامل سلطتها وصلاحياتها لحماية شعبها حتى لو اضطرت إلى أشد الإجراءات حزماً وصرامة.
ستفرز هزيمة هذه الجائحة: ناجين، وفائزين. الناجون هم الذين تمكنوا من الإفلات من الوباء ونجوا بأرواحهم من الهلاك، أما الفائزون فهم الذين استجابوا لهذه اللحظة التاريخية وتمكنوا من ركوب القاطرة نحو صناعة التحول، ليس على الصعيد التقني فحسب، بل صناعة الإنسان فكراً وروحاً وقيمة عليا.
من يملك العلم يملك المستقبل. وهذا أحد معالم الصورة القادمة: فأصحاب البزات البيضاء (الأطباء) برهنوا أنهم خط الدفاع الأول في هذه الأزمة. أما الجيوش الجبارة الذين تنقلهم حاملات الطائرات فقد أصبحوا أدوات من التاريخ. والاستثمار المقبل سيكون في بناء المعاهد والمختبرات والجامعات التي تخرّج علماء وأطباء وكوادر صحية.
التحديات أيضاً أصبحت مختلفة. العالم الذي خاض الحروب في الأرض والبحر من أجل السيطرة على الملح والنفط والغاز والمياه، ولم يتوقع أن يخوض حرباً (خارج أفلام الخيال العلمي) ضد فيروس لا يراه، صارت الجيوش تتسابق للحصول - ولو بالقوة والبطش والجبروت - على أجهزة التنفس وكمامات الوجه، ويغامر القادة بكل السمعة الأخلاقية وهم يستولون على شحنات الأدوية العابرة نحو جيرانهم المرضى...!، هذه أيضاً الصورة التي سترسم ملامح العصر القادم، فالتحالفات القارية والدولية شهدت امتحاناً خاسراً، سقطت ضحيته السمعة القوية التي كسبتها على مدى السنين... الأوروبيون فيما بينهم يتقاذفون التهم بالتردي والأنانية، والعالم كله يتودد للمنافس الصيني لكي ينتشله من الفاقة والعوز للأدوات والخبرات الصحية، ليس لدى الصين حاملات طائرات تجوب بحار العالم، بل ظلت تبشر بطريق الحرير، وخطوط التجارة وتبادل المنافع، وفيروس «كورونا» الذي وُلد في أرضها سيمنحها الفرصة رغم مسؤوليتها عن تفشيه لتحتل وسط الصورة الأولى لعصر ما بعد «كورونا».
العالم الجديد يوشك أن يولد، بموازين ومعايير ومفاهيم وأنظمة ووسائل تتجدد، والمنتصرون وحدهم من يصنع التغيير.
الناجون من «كورونا»
الناجون من «كورونا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة