هل تحذّرنا السينما من المستقبل... أم تعدنا لقبوله؟

بين حكايات أورويل ونبوءة سودربيرغ

لقطة من «تقرير الأقلية» لستيفن سبيلبرغ
لقطة من «تقرير الأقلية» لستيفن سبيلبرغ
TT

هل تحذّرنا السينما من المستقبل... أم تعدنا لقبوله؟

لقطة من «تقرير الأقلية» لستيفن سبيلبرغ
لقطة من «تقرير الأقلية» لستيفن سبيلبرغ

تتضمن رواية جورج أورويل الشهيرة «1984» ملامح نتلمسها منذ سنوات في مناهج الحياة السياسية التي تمر بها العديد من الدول في أكثر من قارة: الأعين الإلكترونية المنصبّة على متابعة كل حركة يقوم بها المرء. توجهاته الثقافية والسياسية من خلال المواقع التي يزورها. منظومة 5G الحديثة التي تعد بالمزيد من هذه المراقبة صوتاً وصورة (بالإضافة إلى ما تثيره من إشعاعات قد تكون ضارة بالفعل). هذا بالإضافة إلى تضييق الخناق على الآراء التي كان مسموحاً بها بصورة طبيعية حتى أمد غير بعيد.
في رواية أوروَيل (واسمه الحقيقي إريك بلير) التي نشرت سنة 1949. تقوم المؤسسة المسيطرة على مقاليد الحكم في بلد غربي بما هو أكثر مما سبق. عيونها الإلكترونية مفتوحة، بطبيعة الحال، على الجميع في أعمالهم كما في منازلهم لكن بالإضافة إلى ذلك هناك مسألتان مهمّتان تقوم المؤسسة بهما: تغيير التاريخ ومحو الهوية الشخصية.
في عالمنا اليوم نجد أن التاريخ يتغير تلقائياً على صفحات التواصل الاجتماعي فكل يعمد إلى الزاوية التي تهمّه لكي تفرز التاريخ الذي يناسبه. بالنسبة للهوية الشخصية، فقد صارت محط هجوم شرس من قِبل القوى الكبرى عندما تم العمل على ترسيخ فكرة «القرية الكونية» وأخذت الاختيارات الفردية تتضاءل تبعاً لمحاولة محو الفكرة الذاتية للفرد وتوفير وسائله المعيشية ضمن منهج واحد نلحظه بدءاً بإنتاج سيارات تتشابه في أنـظمتها وموديلاتها وحتى ألوانها المختارة وانتهاء بمحاولة فرض العملة الإلكترونية التي يزداد الحديث عنها لأن العملة الورقية ناقلة للجراثيم (استخدمها الإنسان منذ قرون ولم تتسبب في وباء ما).
- نبوءة؟
تم تحقيق فيلمين رئيسيين عن رواية أوروَيل هذه. الأول حققه مايكل أندرسن سنة 1956 والثانية أنجزها مايكل رادفورد في سنة 1984 الذي اختار البدء بتصوير الفيلم من أبريل (نيسان) إلى يونيو (حزيران) وهي الفترة نفسها التي يرد سردها في الرواية. الفيلم الأول يمتثل للرواية لكنه يختصر بعض جوانبها العديدة مفضلاً البحث في حياة بطله (يؤديه إدموند أو برايان) أكثر بقليل مما يرد في الرواية.
الفيلم الثاني أمين للحكاية الأصلية لكن مع تمرير جوانب مختلفة. مثلاً تهتم الرواية بشخصية ونستون سميث (يؤديها هنا الراحل جون هيرت) لتفحص من خلال سلوكياته قدر معاداته للنظام السائد. في فيلم رادفورد نجد اهتماماً أعلى بقصة حبّه (سوزانا هاملتون) لما قبل اكتشافهما بأنهما مراقبان وقبل إلقاء القبض عليهما وانفصالهما عن بعضهما بعضاً. التغيير الأهم هو أن رواية أوروَيل، وقد كُتبت في أواخر الأربعينات، صوّرت أحداثها مستقبلياً. كونها لم تتحدث عن تطوّرات تقنية مهمّة تتجاوز عيني الرقيب من خلال أجهزة التلفزيون و«المونيتورز» أبقاها بعيدة عن مجال الخيال - العلمي بالمفهوم الشامل للنوع. رادفورد فضّل في فيلمه استخدام الخمسينات كمجال لسرد الحكاية في لافتة غريبة. صحيح أن فيلمه ما زال يتعامل مع الموضوع الرئيسي ذاته، وصحيح أن نظام الهيمنة على المجتمع ما زال واضحاً هنا، إلا أن العودة بالأحداث إلى عقد سابق عوض الثمانينات أو ما بعد ما زال، نقدياً، يثير التعجب.
ما يثير التعجب أكثر هو إذا ما كان «1984» كرواية هي تحذير أم تنبؤ بحالنا اليوم. والجواب على ذلك مستخلص من الرواية كما من الفيلمين الجيدين عنها وهو أن الجانب الأعلى في هذا الشأن هو تحذيري. أوروَيل أراد الحديث عن مغبّة ما سيقع لنا كما تخيّل ذلك سنة 1949. بذلك كان لا بد له من أن يتبنى تحذيره ذاك شكل نبوءة. هذا ما فعله ستانلي كوبريك عندما اقتبس رواية أنطوني بيرجز «كلوكوورك أورانج» وما فعله فرنسوا تروفو عندما اقتبس رواية راي برادبوري «فهرنهايت 451».
على ذلك الخيط رفيع جداً بين التحذير والتنبؤ، وبالتالي بين التنبؤ والتهيئة مما يرفع من قيمة السؤال التالي: هل الأفلام التي تكاثرت في السنوات العشرين الأخيرة حول مستقبل الحياة على الأرض تقوم بدور التحذير أو التهيئة؟ هل هي للترهيب أو للترغيب؟
أحد الأفلام النموذجية التي يمكن طرح هذا السؤال عليها هو «عدوى» (Contagion) للمخرج ستيفن سودربيرغ (2011). فالفيلم بصوّر على نحو كمن يقرأ في كتاب مستقبلي، انتشار وباء على نحو يشمل العالم بأسره منطلقاً من الصين (التي تأكل كل ما يدب على الأرض، حسب الفيلم) ولا تقيم وزناً للنظافة (تبعاً للفيلم أيضاً). تتلقف امرأة أميركية العدوى عن طريق مصافحة طبّاخ في مطعم صيني وتعود إلى أميركا. العوارض التي تداهمها (احتقان وجه، حرارة مرتفعة، جفاف في الحلق) هي ذاتها التي يتعرض لها المصاب بـ«كورونا» اليوم. هي تموت لكن الوباء ينتشر كالنار في الهشيم ويحصد أرواحاً بمئات الألوف ويعرض المحلات التجارية للنهب ويتقوض البناء الاجتماعي وينزل الجيش لضبط الأمور… تماماً كما نرى اليوم.
- صناعة غير بشرية
هل هي قريحة كاتب السيناريو سكوت زد. بيرنز؟ أم كان هو والمخرج على اطلاع بسيناريو مرسوم منذ ذلك الحين؟ الأهم: هو نعتبر هذا الفيلم تحذيراً أم تهيئة؟
قد يكون الاثنان معاً. تحذير من أن هذا سيقع وتهيئة لوقوعه في الوقت نفسه. في كل الحالات نجد أن مثل هذه التنبؤات واردة في العديد من الأفلام الأخرى. من بينها ذلك النظام العسكري الذي سيسود العالم في فيلم ستيفن سبيلبرغ «تقرير الأقلية» (2002) حيث هناك جهاز إلكتروني يراقب الناس ويتنبأ بما سيقومون به فإذا كان ما سيقومون به مخالفاً للقانون يحرك قوى الأمن لاعتقال الأشخاص سواء أكانوا بريئين أو على وشك القيام بجريمة ما.
ومنذ أن شاهدنا فيلم بول فرهوفن «روبوكوب» (1987) بتنا نتوقع أن يكون شرطي المستقبل مزيجاً من البدن البشري (إلى حد) والتفاصيل الإلكترونية التي تجعله مخلوقاً لا يُقاوم. وما فعله ذلك الفيلم هو أنه فتح الباب أمام عشرات الأفلام الأخرى التي تصوّر أبطالاً غير آدميين إلا بنسب محدودة مصنوعين لكي يحلوا محل الإنسان بعدما فشل هذا في إحباط الجريمة.
في المقابل، بدأنا بالفعل نستعد لدخول الروبوتس في شؤون حياتنا تمهيداً لنقلة أكبر يتخيل البعض أنها أكثر ضرورة من الاهتمام بشؤون الإنسان ذاته.
بذات النسبة من التكرار، تلك الأفلام التي تتناول وجود منظّمات ومؤسسات غامضة لديها القدرة على فعل ما يحلو لها فعله في عالمنا اليوم. هذا أيضاً كان موضوع فيلم كوبريك الأخير (1999) «عينان مغلقتان باتساع» (Eyes Wide Shut).
هناك من الأمثلة ونماذج الدراسة ما يكفي لوضع كتاب، لكن بالعودة إلى رواية أوروَيل المرعبة نجد أن تحذير الكاتب مما هو آت مستمد من معطيات كانت سائدة سواء في الصين أو في الاتحاد السوفياتي أو في سواهما من الدول الديكتاتورية آنذاك أو تلك التي عرفت نظام الحزب الواحد مثل ألمانيا النازية. في أحد المقاطع يوافق بطل الرواية، بعد تعذيبه، على ما يقوله له الحزب الحاكم: «إذا قلت لك أن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة فعليك أن توافق».
ونستون سميث يوافق، وكثيرون منا اليوم باتوا يوافقون أيضاً.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

البحرية الأميركية تهدي توم كروز أعلى وسام مدني

توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
TT

البحرية الأميركية تهدي توم كروز أعلى وسام مدني

توم كروز مع الجائزة (أ.ب)
توم كروز مع الجائزة (أ.ب)

حصل الممثل توم كروز على أعلى وسام مدني من البحرية الأميركية، اليوم الثلاثاء، عن «مساهماته الفنية المتميزة في البحرية ومشاة البحرية» في فيلم «Top Gun» وأفلام أخرى.

ووفقاً لـ«رويترز»، حصل كروز، في أثناء عمله بالمملكة المتحدة، على جائزة الخدمة العامة المتميزة من وزير البحرية الأميركي كارلوس ديل تورو في حفل أقيم في استوديوهات لونغ كروس بالقرب من لندن.

وقال الممثل البالغ من العمر 62 عاماً إنه فخور بتلقي «التقدير الاستثنائي» الذي جاء مع ميدالية وشهادة.

وقال كروز: «أنا معجب بكل العسكريين... أعرف أن القيادة تعني الخدمة، وأرى ذلك في العسكريين».

ومن جهتها، قالت البحرية إن كروز «زاد من الوعي العام والتقدير لأفرادنا المدربين تدريباً عالياً والتضحيات التي يقدمونها في أثناء ارتداء الزي العسكري».

لقد حقق فيلم «Top Gun» الذي صدر عام 1986 نجاحاً كبيراً، وهو يدور حول أبطال الطيران في أثناء الحرب الباردة وجعل من كروز نجماً، كما أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد الملتحقين بالجيش.

تجدد الاهتمام بالفيلم عام 2022 «Top Gun: Maverick»، حيث قام كروز بإلهام جيل جديد من الطيارين النخبة.

وقالت البحرية إن الفيلم التكميلي «أعاد الحنين إلى الجماهير الأكبر سناً فيما استهدف بشكل كبير اهتمام الجمهور الأصغر سناً بالمهارات والفرص التي يمكن أن توفرها البحرية».