فاجأنا هذا الزائر «الإرهابي» غير المرحب به بزيارة غير متوقعة لكافة دول العالم بلا استثناء يذكر، حاملا معه هداياه وعطاياه غير المرغوب فيها. وشدد إصراره بالوقوف على أعتاب منازلنا ومؤسساتنا ومصانعنا ينتظر من يفتح له الباب ليمارس عمله التخريبي. ومن وراء النوافذ والأبواب المغلقة وقف الخلق ينظرون ويتأملون آثار زياراته المدمرة ويتساءلون عمن يغيثهم بتقديم سبل الوقاية وعقاقير العلاج، وعمن يقي اقتصاد العالم من فوضى وهيستيريا مالية واحتمالات ركود. ولأن هجوم هذا الإرهابي جاء جامحاً متعدياً للحدود، كان لا بد من إعلان «حرب عالمية» ضده لمنعه من الزيارة أو لمعالجة من تضرروا من هداياه.
واتقاءً لشرور هذا الزائر، تبنت الحكومات سياسة «خليك بالبيت» التي تعني الانغلاق والتقوقع الكل في مسكنه دون حراك. فأغلقت الحدود بين الدول، وأوقفت حركة الطيران بينها، وتعطلت جزئيا بعض الصناعات، وحظرت بعض الصادرات، فتعثرت سلاسل التوريد وارتفعت تكلفة الشحن بارتفاع درجة المخاطر، ووصلت التجارة الخارجية لأعتاب مرحلة التجميد القسري وكأنها لا يكفيها ما عانته من سياسات حمائية اتبعت في السنوات الثلاث الأخيرة.
ولأن سياسة «خليك بالبيت» لم يصحبها معرفة إلى متى؟ أصبحت حالة «عدم التأكد» هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة بين كل أصحاب المصلحة في جميع أنحاء العالم. ولأن من أعدى أعداء أسواق المال ومستثمريها حالة عدم القدرة على التنبؤ، شهدنا رد الفعل في صورة تسييل متسارع للأصول المالية، عبرت عنها مؤشرات أسواق المال المتدهورة مما زاد من حالة الهلع والذعر في أوساط المستثمرين خوفا من تكرار أحداث الأزمة المالية العالمية 2007 - 2008 واقتنعت السلطات المالية والنقدية بأن الركود الاقتصادي يدق الأبواب.
وعندما طبقت الحكومات سياسة خليك بالبيت، تدهورت إيرادات الكثير من الشركات الإنتاجية والخدمية، رغم الالتزامات الواقعة عليها في توقيتات محددة، وضغطت احتمالات التعثر على إداراتها، فبدأ البعض منهم في الإسراع بتحصيل مستحقاته من المدينين، ولجأ آخرون للسحب من خطوط الائتمان التي سبق أن تعاقدوا عليها، ولجأ البعض الثالث إلى تقديم طلبات للاقتراض قصير الأجل من البنوك، مما قد يزيد من تراكم ديونها التي من المحتمل أن تتعثر مستقبلا.
وفي ظل «عدم التأكد» تزايدت مخاطر السوق التي تواجه البنوك، وتزايدت احتمالات تزايد طلبات السحب النقدي منها بما يؤثر في مستويات سيولتها النقدية، خصوصا مع تزايد رغبة أعضاء القطاع العائلي القابعين بالبيوت في الاحتفاظ بسيولة نقدية كبيرة لمواجهة احتمالات أن تطال البنوك وفروعها قرارات الإغلاق القسري كغيرها.
وإزاء كل ما تقدم أصبح أمام الحكومات والسلطات النقدية تحديات هائلة، فهل تطمئِن وتنقذ المستثمرين في أسواق المال؟ أم تلقي بأطواق النجاة لمن تقلصت أحجام أعمالهم وتدهورت إيراداتهم؟ أم تقدم السيولة اللازمة للبنوك لكي تدرأ عنها مشاكل نقص السيولة وتساعدها على مساعدة باقي قطاعات الأعمال؟
وبسبب عدم اختصاص البنوك المركزية وسلطات النقد بمساندة أسواق المال أو دعم المستثمرين فيها، تحتل مساندة البنوك أهميتها القصوى لدرء المخاطر التي يمكن أن تتسلل للبنوك ضمانا لاستقرار القطاع المصرفي وحماية لأسواق النقد، ولمساعدتها على مساندة الشركات قبل تعثرها وتنشيط الطلب قبل ركوده. ولكن كيف يتم ذلك؟ وما هي درجة قدرة علاجات البنوك المركزية على درء احتمالات حلول الركود على اقتصاداتنا أو التخفيف من درجة حدته؟
وكرد فعل لما تقدم، بدأت البنوك المركزية وسلطات النقد في الأسواق المتقدمة والناشئة في مختلف أنحاء العالم بخفض أسعار الفائدة خلال الأسبوعين الماضيين، وهو إجراء حمل في طياته رسالتين؛ الأولى للمقترضين وطالبي الائتمان المصرفي فحواها أن البنوك يمكن أن تقف بجواركم وتقرضكم بتكلفة أقل، والثاني لمستثمري البورصات لتشجيعهم وبث روح تفاؤلية بينهم. لكن خفض أسعار الفائدة عندما تكون أسعار الفائدة قريبة من الصفر، لا يمكن أن يحفز الائتمان المصرفي حتى بأسعار فائدة منخفضة في ظروف تتسم بفقدان شهية الاقتراض لدى بعض الشركات بسبب حالة عدم التأكد التي يعيشونها، وتتسم بعدم ضمان أن يؤدي خفض أسعار الفائدة إلى زيادة رغبة البنوك في منح المزيد من الائتمان لمختلف المنشآت لأسباب تنظيمية ورقابية أخرى. وتخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي كما فعلت الصين سيتيح للبنوك سيولة نقدية قد تقيها شر الوقوع في مشاكل تزايد ضغوط السحب النقدي، ويساعدها على خفض تكلفة الأموال المتاحة للإقراض، وقد يشجعها على توظيف الأموال المستردة من خزائن البنك المركزي. لكن يحتمل أن تتحول هذه السيولة النقدية المستردة إلى احتياطيات فائضة دون توظيف، أو ربما قد تستثمرها البنوك في أصول مالية سيادية آمنة المخاطر كأذون وسندات الخزانة الحكومية.
وعندما أعلنت بعض البنوك المركزية عودتها لممارسة سياسة التيسير الكمي بضخ أموال لشراء أوراق مالية سواء من البنوك مباشرة أو من المؤسسات المالية غير المصرفية كما حدث مؤخرا من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك الصين، فإن الأثر المتوقع هو حقن الاقتصاد الوطني بالمزيد من السيولة النقدية. ومع توافر السيولة لدى البائعين ربما تزداد ودائعهم لدى البنوك التي يتوقع نظريا أن تتوسع في منح الائتمان كنسبة من الودائع الجديدة. وفي ظروف عدم التأكد، والقيود النظامية على التوسع الائتماني لا يوجد ما يضمن أن يزداد حجم الائتمان المصرفي بما يعين الاقتصاد ومنشآته في محنتهما.
وفي ظل كل ما يمكن أن يعيق تأثير محاولات البنوك المركزية وسلطات النقد تنشيط الأسواق والحيلولة دون توسع احتمالات الركود، يتبقى أمام البنوك المركزية تيسيرات أخرى يمكن أن تفرضها على البنوك لمساندة عملائها، مثل إجبار البنوك على تأجيل تحصيل مستحقاتها من بعض نوعيات العملاء، وخفض الرسوم والعمولات التي تتقاضاها عند فتح الاعتمادات المستندية أو عند تقديم خطابات الضمان، وجميعها إجراءات ستؤثر سلبا على ربحية البنوك. ويمكن للبنوك المركزية أيضا أن تسمح بالتيسير على قطاعات معينة كقطاعات الطيران والسياحة والفنادق والمطاعم وغيرها، أو بفرض عمليات التصالح مع المقترضين المتعثرين بما يساعدهم على الاستمرار، أو ببث الثقة في أوساط مديري المحافظ الاستثمارية الراغبين في الخروج من استثمارات الحافظة بتوفير النقد الأجنبي لهم وشراء أوراقهم المعروضة. وأمامها أيضا أن تبث الثقة بين أعضاء القطاع العائلي خصوصا بين من لا يتعاملون إلا باستخدام أوراق النقد.
وختاماً، لا توجد عصا سحرية تضمن أن البنوك المركزية بمفردها ستقي الاقتصاد الوطني من احتمالات حلول الركود، فالسياسات النقدية لا بد أن تعمل جنبا إلى جنب السياسة المالية التي يجب أيضا أن تتحمل جزءا من تكلفة درء المخاطر.
- أستاذ الاقتصاد بجامعة الزقازيق ومحافظ البنك المركزي المصري الأسبق
البنوك المركزية والحرب العالمية الكورونية
البنوك المركزية والحرب العالمية الكورونية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة