«المرأة العصامية»... دراما عن حياة أول مليونيرة سوداء في أميركا

مسلسل قصير على «نتفليكس» يبهج أجواء هيمنت عليها كآبة الوباء

آدي وسارة... علاقة تنافسية في لون البشرة والتطلعات (نتفليكس)
آدي وسارة... علاقة تنافسية في لون البشرة والتطلعات (نتفليكس)
TT

«المرأة العصامية»... دراما عن حياة أول مليونيرة سوداء في أميركا

آدي وسارة... علاقة تنافسية في لون البشرة والتطلعات (نتفليكس)
آدي وسارة... علاقة تنافسية في لون البشرة والتطلعات (نتفليكس)

يحقق مسلسل «المرأة العصامية» أو «Self Made» الذي بثته «نتفليكس»، مؤخراً، عدة شروط تجعله واسع المشاهدة، فهو ممتع وغير سطحي، ويحمل الجديد للمشاهد المشبع بكم كبير من الأعمال الدرامية المعروضة على خدمة «نتفليكس» وغيرها، إضافة إلى أن بطلته أوكتافيا سبنسر، كانت قد لفتت الأنظار إليها في فيلم «المساعدة» عام 2011 الذي فازت فيه بأوسكار أحسن ممثلة مساعدة، لتستمر في الحضور بأدوار أخرى كان آخرها هذا المسلسل القصير المكون من أربع حلقات، في أول بطولة مطلقة لها.
برغم متابعتي الشخصية لتجارب السود في أميركا، سواء في زمن العبودية أو فترة النضال لتحقيق المساواة في الحقوق المدنية، إن كان على شكل معارض صور أو دراما وأعمال وثائقية أو تقارير صحافية، لم يصدف أن قرأت عن مليونيرة أميركية من أصول أفريقية، تدعى مدام سي جي ووكر، برزت بداية القرن العشرين وكانت أول سوداء تحقق نجاحاً في عالم الأعمال اعتمد على منتجات العناية بالشعر وحمل اسمها وتوجه إلى الملونات، أساساً، ممن يعانين من تجعد الشعر أو سقوطه، الأمر الذي يجعلهن أقل ثقة بأنفسهن.
يبدأ المشهد الأول للمسلسل، بامرأة في سوق عامة تبيع منتجاً للشعر تروج له بصوت عال. تسألها فتيات سمراوات شدهن الفضول، إن كان المنتج مضمون النتائج، فترد عليهن: «طبعاً مضمون. أنا جربته بنفسي وحصلت بعد ذلك على رجل».
هذه المرأة هي سارة التي تعمل في غسل الملابس في البيوت، التي تزوجت في عمر الأربعة عشر بعد أن تيتمت في سن السابعة وعانت الفقر، ونتيجة لإهمالها نفسها وربط شعرها طوال الوقت، إضافة إلى ضغوطات الحياة لتوفير لقمة العيش، تصاب بمرض في فروة رأسها، مما يجعل زوجها يخونها مع امرأة أخرى ويعيرها ببقع الصلع. يهجرها الزوج، الذي يتركها مع طفلتها الصغيرة، لتدخل في مزيد من الضغوط النفسية وسقوط الشعر، حتى تدق بابها، يوماً، بائعة متجولة جميلة نصف سوداء، تدعى آدي مونرو، تروج لمنتج مقوي للشعر تبيعه بين النساء الملونات. ولأن سارة لا تملك المال الكافي لشراء منتج من هذا النوع، تعقد المرأتان صفقة، وهي أن تهتم سارة بغسيل آدي، مقابل تجريب الثانية المرهم على شعر سارة التي تساعدها أيضاً في إعداد منتج تقوية الشعر.
سارة البسيطة التي تملك ذكاءً فطرياً، عرضت على آدي التي تبحث عن مندوبات يروجن منتجها، أن تقوم هي بهذا الدور فهي تجيد جذب الزبونات، لكن آدي، تنظر لسارة باستخفاف وتقول لها، إنها تريد مندوبات فاتحات البشرة تنتشرن في الشوارع والبيوت وتكونن مقبولات لترويج منتجها. الشعور بالإهانة والتحدي يدفع سارة إلى بيع بعض العبوات من دون علم مالكة المشروع وتعود بالمال إلى آدي لثبت لها كفاءتها، لكن هذه تطردها، وتتهمها بأنها تسرق منها، مذكرة إياها، أن دورها يكمن في «تنظيف الغسيل الوسخ فقط».
تكشف هذه الدراما عن العنصرية التي يمارسها الملونون على بعضهم بعضاً، إذ كلما خف لون البشرة السوداء تباهت المرأة على غيرها من السوداوات، وحظيت بإعجاب الرجال السود أنفسهم. يحدث هذا في ظل عنصرية أوسع في المجتمع الأميركي الأبيض كانت تشمل جميع الملونين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، المجتمع الذي كان حديث العهد بتحرير العبيد في شمال البلاد وجنوبها على يد الرئيس إبراهام لنكولن في عام 1865 نتيجة لانتهاء الحرب الأهلية وانتصار الشمال على الجنوب (مناطق مزارع التبغ والسكر التي شهدت حشداً للعبيد المخطوفين من القارة الأفريقية). وسارة نفسها ولدت بعد تحرير العبيد بسنتين، لأبوين كانا من عبيد ملاك المزارع. غير أن المجتمع الأميركي بعد عدة عقود على الإعلان الدستوري الذي حرر العبيد، كان لا يزال يمارس التسلط على السود ولا يعترف بهم سواسية لهم، حتى لو منحهم الدستور هذا الحق.
الموقف الجارح بسبب اللون من أبناء جنسها، سيواجه سارة مرة أخرى، عندما يخونها زوجها الثاني (سي جي ووكر الذي حملت اسمه وعرفت به في نشاطها التجاري ولم تغيره حتى بعد الطلاق)، مع فتاة ببشرة أفتح منها كانت تعمل عندها في المشروع الذي توسع لاحقاً. غير أن سارة التي ولدت حرة وتحمل كبرياءً وثقة بنفسها، كانت تعلق على تباهي ذوات البشرة الأفتح والشعر الأشقر قليلاً بأنفسهن، بأن هذا اللون هو دليل على أن «أمهاتهن وجداتهن تعرضن للاغتصاب من الرجل الأبيض».
سيستمر هذا الصراع بين السوداء سارة وخفيفة السمرة آدي طوال الحلقات الأربع، يلعب عليه المخرج بإدخال مقاطع كرتونية عبر المشاهد تظهر حلقة مصارعة تتخيلها سارة وترى نفسها تفوز على آدي في الجولات.
يدفع التحدي سارة ووكر الذكية ذكاءً فطرياً، إلى تركها مهنة الغسيل التي تشينها، وتقرر أن تحول بيتها إلى معمل لمنتجات الشعر بمساعدة زوجها وابنتها، فقد تعلمت سر المهنة من آدي مونرو، لكنها تعمل على تحسين المنتج الذي كان يتميز برائحة كريهة كبريتية، وتجعله مقبولاً برائحة طيبة، وتبدأ بالانطلاق عبر البيوت والأسواق المفتوحة لتطور العمل لاحقاً، فتنتقل إلى أنديانا بوليس الأكثر تحضراً فتبدأ بالتوسع من خلال معمل خاص وتوسع المنتجات إلى جهاز لفرد الشعر الذي كان فكرتها الخاصة ومنطلقاً للأجهزة التي عرفت في العالم لتمليس الشعر. كما افتتحت صالونات تجميل توسع إلى عدة ولايات بينها حي هارلم في نيويورك. وراحت سارة تنشر بين النساء السود ضرورة الاهتمام بإطلالتهن لكي يحسن من وضعهن في المجتمع، وتحثهن على قص شعورهن واختيار تسريحات جريئة كما تفعل المرأة البيضاء. كانت تقول إن كل سوداء رثة غير مرتبة تترك تأثيراً على النظرة العامة إلى بقية النساء السوداوات.
لم تكن الأرض مفروشة أمام مدام سي جي ووكر، هناك من خانها ونقل أسرار العمل إلى منافستها، مثل صهرها وزجها، وهناك الذكورية العالية بين الرجال السود التي لم تتقبل فكرة حضور النساء الملونات في عالم الاقتصاد والمجتمع «لأن الرجل الأسود لم يحقق نفسه بعد»، بحسب شخص بارز يقود حراكاً للدفاع عن حقوق السود، قالها لها في مؤتمر، رافضاً وجودها نداً للرجال، رغم أنها بينت أن مشروعها سيدعم مئات النساء اللواتي سيعملن في صالوناتها. لكن سارة الدؤوبة الذكية التي تتعلم من تجاربها رغم الطعنات، ورفضت أن تحضر الاحتفالات والمؤتمرات لتكتفي بالمساهمة في إعداد الطعام للحضور كما تفعل بقية زوجات المشاركين. غير أن المفاجأة تأتي من الزوجات وقريبات أولئك الرجال تحديداً، فقد دعمن فكرتها وجمعن لها مبلغاً من المال لتمضي في مشروعها الذي يسهم في دعم النساء الملونات في أميركا وقد وصلت إلى تشغيل 2000 امرأة في فروع متاجرها.
التوسع الذي حققته شركة مدام سي جي ووكر، حتى باتت منتجاتها موجودة في محلات وصيدليات كثيرة في الولايات الأميركية، نقلها اجتماعياً إلى الحي الراقي في نيويورك، فتستثمر هذا النجاح في العمل الخيري والمواقف السياسية ويعترف بها لا الرجال السود فقط، بل حتى رجال الأعمال والشركات الكبرى الذين تهافتوا على عرض منتجاتها في متاجرهم. وتوكل لابنتها أليليا، بعضاً من مسؤولياتها وتدعم بعض الفتيات القادمات من مجتمع السود بفرص العمل أو المنح الجامعية. لكنها ترحل وهي ما زالت في قمة عطائها بسبب وهن صحتها نتيجة متاعب في الكلى. لتكمل ابنتها ومن بعدها سلالتها مسيرة الجدة ونجاحاتها وتبرز ضمن الطبقة العليا بين الأميركيين الأفارقة.
اعتمد مسلسل «المرأة العصامية» بتصرف على سيرة ذاتية عن سارة ووكر كتبتها حفيدة ابنتها، أليليا بندلز، الصحافية والمنتجة التلفزيونية المعروفة، في كتاب صدر عام 2001 وحصل على عدة جوائز في أميركا.
الحلقات الأربعة ممتعة، وأداء أوكتافيا سبنسر، في أول بطولة مطلقة لها، جاء مميزاً جداً غطى على بقية فريق الممثلين معها وسيثبتها في بطولات مطلقة قادمة، رغم أن الحلقة الأخيرة تسارعت فيها الأحداث كثيراً لتسدل الستارة على حياة مدام سي جي ووكر. أما كاتبة العمل ومخرجته نيكول جيفرسون أشر، فقد نجحت في تقديم مناخات حياة السود في أميركا في تلك الفترة، وهي كانت كتبت أعمالًا درامية سابقة عن حياة الأميركيين من أصول سوداء، بينها فيلم «مدام الملكة»، عن امرأة رئيسة عصابة في حي هارلم بنيويورك، مما منحها المهارة في تفهم عالم النساء السوداوات بين أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.


مقالات ذات صلة

«نتفليكس» تطلق مسلسل «موعد مع الماضي» في «القاهرة السينمائي»

يوميات الشرق آسر ياسين وركين سعد في لقطة من المسلسل (الشركة المنتجة)

«نتفليكس» تطلق مسلسل «موعد مع الماضي» في «القاهرة السينمائي»

رحلة غوص يقوم بها بعض أبطال المسلسل المصري «موعد مع الماضي» تتعرض فيها «نادية» التي تقوم بدورها هدى المفتي للغرق، بشكل غامض.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق مسلسل «6 شهور»   (حساب Watch IT على «فيسبوك»)

«6 شهور»... دراما تعكس معاناة حديثي التخرّج في مصر

يعكس المسلسل المصري «6 شهور» معاناة الشباب حديثي التخرج في مصر عبر دراما اجتماعية تعتمد على الوجوه الشابة، وتحاول أن ترسم الطريق إلى تحقيق الأحلام.

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل كيليان مورفي يعود إلى شخصية تومي شلبي في فيلم «The Immortal Man» (نتفليكس)

عصابة آل شلبي عائدة... من باب السينما هذه المرة

يعود المسلسل المحبوب «Peaky Blinders» بعد 6 مواسم ناجحة، إنما هذه المرة على هيئة فيلم من بطولة كيليان مورفي المعروف بشخصية تومي شلبي.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق الفنان يحيى الفخراني (صفحته على فيسبوك)

لقب «ملك الدراما» يثير انقساماً «سوشيالياً» في مصر

أثار إطلاق لقب «ملك الدراما» انقساماً بين جمهور «السوشيال ميديا» بمصر، بعد أن طرحت صفحات على «إكس» أسماء ليختار المتابعون من بينها من يستحق لقب «ملك الدراما».

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد مالك يهوى الأدوار المؤثّرة (حسابه في «فيسبوك»)

أحمد مالك: بـ«مطعم الحبايب» تحدّيتُ الصورة النمطية حيال ما أقدّم

وجوده في المطبخ جعله يتعلّم طهي الحَمام المحشوّ بالأرز بطريقة احترافية، وهي الوجبة التي يحبّها من يدَي والدته.

أحمد عدلي (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)