40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

تنسيق بين الإدارة الكردية شرق سوريا وبغداد لإعادتهم (2 من 3)

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
TT

40 ألف عراقي يعيشون في «الهول»... ونصفهم يريد العودة إلى بلده

مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)
مخيم الهول في الحسكة شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)

يؤوي مخيم الهول، الواقع أقصى شمال شرقي سوريا، عشرات آلاف النازحين ومنهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال العراقيين. منهم من جاء برغبته، وعددهم قليل، بعد فراره من موطنه إثر سيطرة تنظيم داعش المتطرف، أو هجمات معاكسة من ميليشيات الحشد الشيعي الموالية لإيران. ومنهم أيضاً أفراد عائلات مسلحي داعش، ويشكلون الغالبية، الذين خرجوا من مناطق التنظيم بعد القضاء على سيطرته الجغرافية ربيع العام الماضي.
ويضم مخيم الهول اليوم أكثر من 40 ألفاً من العراقيين، وهم نحو 9 آلاف عائلة، من أصل 68 ألفاً، ويؤوي نساءً وأطفالاً تخلى عنهم آباؤهم من عناصر التنظيم، إما بالذهاب إلى جبهات القتال حيث لقوا مصرعهم، وإما لأنهم استمروا بالقتال، واستسلموا في معركة الباغوز بريف دير الزور، لدى القضاء على آخر معقل للتنظيم في مارس (آذار) العام الماضي. ومن بقي على قيد الحياة من الرجال ظل محتجزاً خلف القضبان، وبات مصيرهم مجهولاً. كما تخلت حكومة بغداد عنهم، وهي ترفض استعادتهم، رغم مطالبات السلطات الكردية والولايات المتحدة بذلك.
- عائلة عراقية
تروي شيمة، وهي في منتصف عقدها الخامس، المنحدرة من مدينة الموصل العراقية، كيف فروا في أثناء المعارك في مسقط رأسها صيف 2015، وكيف قتل زوجها وابنها الأكبر، وكانا مقاتلين في صفوف تنظيم داعش، إذ نزحت هي ومن تبقى من عائلتها إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا. وبعد اشتداد المعارك هناك، دخلت الأراضي السورية، وقصدت قرية أبو حمام، بريف دير الزور الشمالي، بداية، ثم هجين والسوسة والشعفة، وآخر مكان كانوا فيه بلدة الباغوز.
ومن تحت خيمتها التي لا تقيها برودة الطقس وسخونة فصل الصيف التي تتعدى درجات الحرارة فيه 45 درجة مئوية، بدأت رواية قصتها، وكانت يداها متشابكتين، لتقول: «خرجت أنا وبناتي الثلاث، وبقي عندي ولدان، أحدهما عمره 10 سنوات، والأصغر عمره 5 سنوات، يسكنون معي في هذه الخيمة».
وحولت خيمتها إلى شبه منزل، بأثاث بسيط، حيث خصصت قسماً للمطبخ، ووضعت بعض الأواني والملاعق وكاسات الشاي، وقسماً آخر لحمام معزول بغطاء رمادي داكن، فيما افترشت مدخله، وبات صالون بيتها، ببساط عربي قديم، وزاوية صغيرة لوضع الحاجات الشخصية، وخزانة رسم عليها شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وطلبت ابنتها البكر الحديث لتعرف عن نفسها، قائلة: «أنا هيفاء، عمري 30 سنة، متزوجة من مقاتل لا يزال بصفوف التنظيم، ولا أعلم عنه شيئاً، وربما يكون قد قتل، وقد رزقت منه بطفلة ولدت بالباغوز، وعمرها اليوم عام وشهران»، لتتحمس أختها الثالثة وتتحدث قائلة: «أنا وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة من مقاتل مغربي قتل بمعركة هجين قبل عامين. عندما تزوجت، كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 17، وقد أنجبت منه طفلة عمرها سنة». وسكتت برهة واغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى ابنتها الوحيدة، وأعربت عن مشاعرها المشوشة، لتزيد: «لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر: من كان والدها؟ وكيف قتل؟ وهل سأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
في هذه البقعة الصحراوية من سوريا، التي تبعد نحو 30 كلم عن حدود العراق، تتعدى درجات الحرارة 45 درجة مئوية. فالمخيم الذي صمم في تسعينات القرن الماضي لاستقبال 20 ألف شخص، تجاوز عدد قاطنيه 70 ألفاً بعد معركة الباغوز العام الفائت.
- غضب وأسئلة
وقد تحول هذا المكان منذ عام إلى إناء كبير يفيض بالغضب والأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية. فالمخيم يقطن فيه نسوة وأطفال تنظيم داعش الإرهابي، الذين تخلى عنهم أزواجهم وآباؤهم، وخلافتهم المزعومة التي التحقوا بها، علاوة على حكوماتهم. ووسط السوق، تجمع كثير من النسوة العراقيات، وصرخن بصوت مرتفع: «أين هم أزواجنا؟ لماذا لا يفرجون عنهم؟ لماذا لا تسمح حكومة بغداد بإعادتنا؟». أسئلة تكررت كثيراً دون وجود أجوبة شافية.
ويستقبل مخيم الهول العراقيين منذ سنة 2016. وبحسب عدنان العبيدي، رئيس مجلس مخيم الهول للاجئين العراقيين: «عاد إلى العراق أكثر من 50 ألفاً طواعية حتى نهاية 2018. لكن منذ عام ونصف العام، ترفض السلطات الحكومية في بغداد استقبال مواطنيها الراغبين بالعودة».
وذكرت إدارة المخيم أن أكثر من 20 ألفاً من العراقيين يريدون العودة إلى بلدهم، شريطة نقلهم تحت إشراف ومراقبة منظمات الأمم المتحدة، والجهات الدولية الإنسانية، خشية من عمليات انتقامية من الحشد الشعبي الذي بات يسيطر على مناطق كثيرة بالعراق.
وأخبر العبيدي أن القوائم المسجلة لدى المكتب وصلت نسخة منها إلى حكومة بغداد، وقال: «الأسماء رفعت عن طريق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والصليب الأحمر الدولي. وفي كل مرة، يصلنا إخطار بالموافقة وبدء الترحيل، لكن يتم إيقافه لأسباب نجهلها».
وعلى مد النظر، تمتد صفوف متراصة من الخيام، رسم عليها شعار المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، وسط هبوب رياح جافة مغبرة، وتلبد الغيوم، وأكوام من النفايات، وخزانات ضخمة حمراء اللون، يتزود منها قاطنو المخيم بالمياه. فاللجنة الدولية للصليب الأحمر قدمت هذه الصهاريج، إلى جانب بناء المطابخ في كل قسم، مع دورات المياه والحمامات.
وحولت عائشة، ذات الثلاثين عاماً، خيمتها إلى محل لبيع الألبسة ومستحضرات التجميل، فغالبية سكان المخيم، لا سيما النساء والفتيات منهنّ، فروا بملابسهم التي عليهم. وتنحدر هذه السيدة من مدينة القائم العراقية، وقد فرت إلى سوريا رفقة زوجها الذي كان بصفوف التنظيم، وقتل في معارك دير الزور قبل عام، وقالت: «أبيع الألبسة الملونة والمزركشة. كنا نحلم أيام (الدواعش) بلبسها، لأنهم كان يجبروننا على ارتداء السواد، حتى أنهم كتبوا ذلك على جدران مدينتنا وشاخصات الإعلانات للتقيد بما سموه بـاللباس» المسموح به.
وعلى كل حبل أو سور خيمة، تشاهد مزيجاً من الألوان الزاهية، غير الأسود الذي كانت ترتديه جميع النساء والفتيات اللواتي يعشن في هذه البقعة: الوردي، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر، وهي ألوان الملابس المغسولة من فساتين وبيجامات وقمصان وجوارب أطفال.
بيد أنّ خديجة (28 عاماً)، المنحدرة من بلدة الحديثة العراقية، وصلت للمخيم قبل سنتين. ورغم وجودها وعائلتها في خيمة مشتركة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، فإن مشاعر الارتياح ارتسمت على وجهها وهي تتحدث: «كنت أعيش في الجحيم، إذ صادف أنه كان مقابل بيتي مقر للتنظيم، أشاهد عناصره يومياً، وأسمع آهات المعذبين وصراخ الجلادين». أما اليوم، فهي تنتظر العودة لبلدها، وتضيف: «نجوت من التنظيم، برفقة زوجي وأطفالي، ونفضل السكن تحت هذه الخيمة على العيش تحت حكم (الدواعش)، أو العودة لبلد تحكمه ميليشيات طائفية وحشد شيعي».
وتحدثت مديرة المخيم، ماجدة أمين، لـ«الشرق الأوسط»، من مكتبها بالمخيم، عن وجود تنسيق دبلوماسي عالي المستوى بين «الإدارة الذاتية - شمال شرقي» سوريا، والحكومة العراقية، حيث زارت وفود رسمية المنطقة، واطلعت على شؤون اللاجئين، وتعهدت بدرس وضع اللاجئين العراقيين في المخيمات السورية، وإعادتهم بإشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وقالت: «منذ بداية العام الماضي، توقفت رحلات إعادة العراقيين الراغبين بالعودة إلى بلدهم لأسباب تتعلق بالجانب العراقي. سلمنا قوائم الراغبين، ومنذ أشهر ننتظر الموافقة، دون نتيجة».
ووصفت مديرة المخيم الوضع بأنه «شديد الصعوبة وكارثي» في مخيم الهول، لوجود عشرات الآلاف من الأشخاص في حاجة حقيقية إلى المساعدة، حيث تعرض القسم الأكبر منهم لفظائع، وشهدوا حروباً ومشاهد موت يعجز عنها الوصف، ومعاناة بدنية ونفسية، وتشير إلى أن هؤلاء العراقيين يحتاجون إلى «الأمان والمأوى والغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي، إذ يفتقر المخيم لمراكز ومؤسسات تعليمية وترفيهية. وبإمكانات بسيطة، قمنا بافتتاح حديقة، كمتنفس لهذه الأسر والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة». وينتظر عزو عناد، البالغ من العمر ستين عاماً، وزوجته وأفراد أسرته، استقرار مناطقه، وسماح الحكومة العراقية. وهذه الأسرة تنحدر من منطقة جبال سنجار (شمال العراق)، التي تحكمها جهات عسكرية عدة، من بينها الحكومة المركزية في بغداد، وقال: «نعيش هنا منذ صيف 2017، ولا نريد العودة قبل بسط الأمن والأمان».
وفي سوق المخيم بسطات شعبية ومحال يتوفر فيها كل ما يطلبه الزبون، من مواد غذائية ومستحضرات، إلى مطاعم الكباب التي تشتهر بها معظم المدن العراقية. وأصحاب المحال عراقيون أو سوريون، ويتعالى ضجيج الأطفال والنساء اللواتي يتحدثن بلهجات متعددة.
وكحال الأخريات من العرقيات، قالت جواهر (45 سنة) إن صبرها قد نفد، وأصبحت حالة الانتظار كابوساً تعيشه مرغمة، وارتسمت علامات الحيرة على وجهها، وتساءلت قائلة: «إلى متى نبقى هنا؟ هل يشاهد العالم مأساتنا؟ هل تعلم الحكومة العراقية كيف نعيش في هذا المكان؟ متى سنعود؟».


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».