خمسة آلاف إرهابي في أعتى سجون العالم... والغرف مكتظة

«الشرق الأوسط» تدخل أكبر سجن لـ«الدواعش» (1 من 3)

«دواعش» في سجن المتطرفين بالحسكة (الشرق الأوسط)
«دواعش» في سجن المتطرفين بالحسكة (الشرق الأوسط)
TT

خمسة آلاف إرهابي في أعتى سجون العالم... والغرف مكتظة

«دواعش» في سجن المتطرفين بالحسكة (الشرق الأوسط)
«دواعش» في سجن المتطرفين بالحسكة (الشرق الأوسط)

في الحسكة، هذه البقعة الجغرافية أنشأت الولايات المتحدة الأميركية ودول التحالف الدولي المناهض لـ«تنظيم داعش»، أكبر سجن لمتطرفين بالعالم. يبلغ عدد نزلائه نحو 5 آلاف متطرف. هؤلاء الرجال قاتلوا إلى جانب التنظيم حتى الأيام الأخيرة في بلدة الباغوز شرقاً ربيع العام الماضي، قبل أن يسلموا أنفسهم وانتهى بهم المطاف بهذا المكان.
قبل الدخول يطلب الحراس التأكد بدقة من هوية الزائر ويخضع لإجراءات تفتيش معقدة، خشية من تسلل خلايا نائمة موالية للتنظيم لأن السجن محصن بتدابير أمنية عالية. عند البوابة الرئيسية يقف عشرات من «قوات سوريا الديمقراطية» بكامل بذاتهم وعتادهم العسكري. يطلب القيمون على السجن عدم تبادل الأخبار الميدانية سيما مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي والهجوم التركي على شرق الفرات.
داخل إحدى الزنازين، مهاجع موصدة بأبواب مطلية بلون أخضر مرقمة بأحرف إنجليزية. أولها بلوك (A) وكتب عليها رقم 120 حيث أشار الحارس إلى عدد نزلائه. بداخلها رجال لحاهم طويلة ملامحهم أوروبية وروسية وآسيوية وعربية وتركية حيث قدموا من آلاف الكيلومترات للعيش في وهم طالما حلموا بتحقيقه. أضواء المكان خافتة مع صعوبة وجود بقعة فارغة بسبب تمدد الرجال على الأرض أو الوقوف. بعضهم كان يقوم بحك جلده وكثيرون منهم ناموا على فراش بسيط وآخرون كانوا ينتظرون عند باب الحمام الوحيد. أما الزي الذي كان يرتدونه برتقالي اللون أو رمادي والأخير صنع من الأغطية لبرودة الطقس، وانخفاض درجات الحرارة سيما في ساعات الصباح الباكر.
هؤلاء هم عناصر «تنظيم داعش» الإرهابي الذين أثاروا الرعب بقواعده المتشددة وأحكامه المتوحشة، وأعمالهم والجرائم التي ارتكبوها بين 2014 و2019. ولقد أصدر التنظيم مناهجه الدينية وعملته الخاصة وجنى الضرائب من قرابة 7 ملايين نسمة في ذروة قوته، وأزال الحدود بين مناطق سيطرته في سوريا والعراق المجاور، قبل القضاء على سيطرته الجغرافية والعسكرية في مارس (آذار) العام الفائت، على يد أطراف عدة شكلت رأس حربتها «قوات سوريا الديمقراطية» العربية الكردية المدعومة من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
داخل الجماعية (B) وبلغ عددها 87 شخصاً. افترش رجل بطانية قديمة ملونة يبدو أنه عراقي الجنسية من لهجته بعدما تحدث بصوت منخفض، وقد غزا الشيب شعره وذقنه ويبدو أكبر من سنه مما هو عليه، ويمسك بيده علبة كانت مخصصة للزيت لكنه حولها لإبريق ماء يرتشف منه قبل أن يضعها جانبا. بين الحين والآخر ينظر بفضول إلى الشباك قبل أن يزيح وجهه. بجانبه جلس رجل آخر بملامح آسيوية كان يجيد اللغة العربية وارتسمت علامات الحيرة وتحدث متسائلاً بالفصحى ليقول: «متى سنخرج من هنا».
في جماعية ثالثة مكتظة ظهر رجل طويل بلحية غير مهذبة وشعر أشعث كثيف يبدو أنه روسي الجنسية من ملامح وجهه، كان يلبس سترة مصنوعة من أغطية السجن قال بمفردات عربية صعب فهمها إن ظروف احتجازه «صعبة للغاية، وأنه لا يرى الشمس». حاول الوقوف أمام الطاقة لعدم مشاهدة ما في الداخل، سرعان ما ذهب إلى مكان آخر. وبحسب حراس السجن، يخرج هؤلاء في كل أسبوع مرة واحدة ولمدة ساعة لساحة مخصصة للترويض.
ومنشأة الحسكة من بين سبعة سجون في شمال شرقي سوريا، خاضعة لحراسة «قوات سوريا الديمقراطية»، تبلغ نفقاتها آلاف الدولارات من طعام وطبابة وأجور الحراس والقائمين عليها، وهي تكلفة باهظة تدفعها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، بعدما رفضت معظم الدول والحكومات الغربية والعربية حسم الملف واستعادة رعاياها ومقاضاتهم لديها.
وبحسب مسؤولي «الإدارة الذاتية لشمال شرقي» سوريا يقبع في السجون حالياً قرابة 12 ألف مسلح كان ينتمي إلى التنظيم المتطرف. من بينهم 800 مسلح يتحدر من 54 جنسية غربية، ومنهم ألف مقاتل من بلدان الشرق الأوسط على رأسها تركيا وروسيا أو شمال أفريقيا ودول آسيوية، بالإضافة إلى 1200 مسلح منحدر من دول عربية أكثرهم قدموا من تونس والمغرب، ويبلغ عدد العراقيين نحو 4 آلاف أما الباقي من الجنسية السورية.
ومدينة الحسكة منقسمة السيطرة؛ حيث تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» جنوب السجن وشرقه وشماله، كما أنشأت القوات الأميركية المنتشرة بسوريا قاعدة عسكرية على بعد أمتار من السجن، فيما تبعد قوات الحكومة السورية المدعومة بطائرات حربية روسية خمسة كيلومترات فقط من جهة الغرب وتبسط سيطرتها على مربع أمني بالمركز.
وبحسب إدارة السجن لم يسبق لهؤلاء المحتجزين الخضوع لعمليات استجواب أو تقديمهم لمحاكم، وهم منقطعون عن العالم الخارجي والتطورات الميدانية التي شهدتها المنطقة خلال العام الماضي، ويخضع السجن لمراقبة على مدار 24 ساعة من خلال تفقدهم ومراقبتهم بالكاميرات.
وطالب سجين بلجيكي وآخر ألماني من أصول سورية تسليمهما إلى حكومتيهما حيث تحظر فيهما أحكام الإعدام، خلافاً لدول مثل العراق، وقال الأول: «على حكومتي إعادتي ومحاكمتي أمام قضاء بلدي». أما السجين الثاني فقد أشار إلى أنه سلم نفسه برغبته وادعى أنه لم يكن مقاتلاً: «لقد قمت بتسليم نفسي وأتحمل العواقب، كنت مدنيا أعيش في تلك المناطق»، في إشارة إلى مناطق سيطرة التنظيم قبل القضاء عليها بمارس 2019.
وشاهد موفد جريدة «الشرق الأوسط» شريط فيديو سُجل قبل شهر التقطته كاميرات المراقبة بالسجن، تظهر محاولة عشرات المعتقلين الاستعصاء واحتجاز حراس السجن عبر خدعهم بمرض أحدهم، إلا أن القوات الخاصة تدخلت سريعاً وعالجت الأمر دون وقوع أي ضحايا أو استمرار حالة العصيان.
وقالت إدارة السجن إن القوات الخاصة تدخلت واستخدمت الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع لإعادة النظام، وتمكنت من السيطرة على الوضع وتحرير الرهائن، وأشاروا إلى أن المنشأة تنقصها الكثير من المرافق وأنظمة المراقبة ولا يزال قيد الترميم والإنشاء.
وتخشى السلطات الكردية و«قوات سوريا الديمقراطية» في حال تعرضت باقي المناطق الواقعة تحت سيطرتها للهجمات التركية، والتي تؤوي عدداً من السجون ومراكز الاحتجاز فرار هؤلاء المتطرفين، وبواعث هذا التخوف مرده لوجودهم في أبنية غير «منضبطة أمنياً»، ووقوع حوادث اعتداء وفوضى كتلك التي وقعت في مخيم الهول شرق سوريا، والأخير يعد أكبر المخيمات التي يقطن فيها آلاف من نساء وأطفال التنظيم على مدار السنة الأخيرة.


مقالات ذات صلة

تركيا توقف «داعشياً» عراقياً مطلوباً لـ«الإنتربول»

شؤون إقليمية شرطيان تركيان يقتادان الداعشي العراقي إلى المحكمة في ولاية كيريك قلعة بوسط البلاد (إعلام تركي)

تركيا توقف «داعشياً» عراقياً مطلوباً لـ«الإنتربول»

ألقت قوات مكافحة الإرهاب التركية القبض على أحد العراقيين من العناصر الخطيرة ضمن تنظيم «داعش» الإرهابي.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا استمرت الهجمات المسلحة في بوركينا فاسو على الرغم من وعود الجيش بالتصدي للتمرد (غيتي)

أكثر من 100 قتيل في «هجوم إرهابي» شمال بوركينا فاسو

قال عامل في منظمة غير حكومية وسكان محليون إن أكثر من 100 شخص قتلوا في هجوم شنه مسلحون متشددون في شمال بوركينا فاسو.

«الشرق الأوسط» ( باماكو)
أفريقيا قوات بوركينية خلال إحدى المواجهات (متداولة)

أكثر من 100 قتيل في «هجوم إرهابي» شمال بوركينا فاسو

قال عامل في منظمة غير حكومية وسكان محليون إن أكثر من 100 شخص قتلوا في هجوم شنه إرهابيون في شمالي بوركينا فاسو.

«الشرق الأوسط» (واغادوغو)
شؤون إقليمية ينظر الأكراد في أنحاء العالم إلى أوجلان على أنه بطل ويطالبون بإطلاق سراحه (أ.ف.ب)

أوجلان... يطرح نفسه «صانعاً للسلام» في تركيا بعد 26 عاماً بالسجن

بإعلان حزب «العمال الكردستاني» حل نفسه وإلقاء أسلحته، كتب زعيمه المؤسس عبد الله أوجلان اسمه في التاريخ كـ«صانع سلام» في تركيا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا يخشى المسؤولون الأوروبيون من أنه مع مرور سوريا بمرحلة انتقال سياسي فقد تتشكل جماعات إرهابية داخل البلاد (أرشيفية - رويترز)

الاتحاد الأوروبي: عدم الاستقرار في سوريا يمثل خطراً إرهابياً على أوروبا

أظهرت مسودة وثيقة داخلية للاتحاد الأوروبي بشأن مكافحة الإرهاب اطّلعت عليها «رويترز» أن عدم الاستقرار في سوريا يمكن أن يشكل مخاطر أمنية على أوروبا.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

روسيا «الخاسرة» في سوريا تعيد ترتيب أوراقها: طي صفحة الأسد والتعامل مع واقع جديد

لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
TT

روسيا «الخاسرة» في سوريا تعيد ترتيب أوراقها: طي صفحة الأسد والتعامل مع واقع جديد

لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)

لم يكن قد مر أسبوعان على إطاحة نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، في دمشق، وتسلم «أعداء الأمس»، مقاليد السلطة، حين أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبارته الشهيرة: «لم نُهزم في سوريا، وحققنا كل أهدافنا».

كانت موسكو تلتقط أنفاسها بعد التطور الكبير والمفاجئ الذي قلب الموازين وغيّر الخرائط التي حرصت على تكريسها لسنوات مع شركائها في «محور آستانة». الرواية الرسمية ركَّزت على أن نقل الأسد إلى موسكو جاء نتيجة لـ«توافقات» شملت أيضاً إلقاء الجيش السلاح، وفتح المدن واحدةً تلو الأخرى أمام قوات المعارضة، بهدف «حقن الدماء وعدم السماح باندلاع حرب أهلية طاحنة»، لكنَّ ترديد هذه الرواية لم يمنع من حشر روسيا إلى جانب إيران في معسكر الخاسرين المباشرين.

وعبارة بوتين كانت موجَّهة بالدرجة الأولى للرد على تقارير استخباراتية غربية أفردت مساحات لإحصاء خسائر روسيا المحتملة بعد إطاحة حليفها، ومستوى التراجع المتوقَّع للنفوذ الروسي في المنطقة، في حين نشطت الدوائر الروسية على المستويين العسكري - الاستخباراتي والدبلوماسي في محاولة تلمُّس ملامح الواقع الجديد وتحديد آليات التعامل معه.

أولويات موسكو

تريَّث الكرملين طويلاً في إعلان موقف محدَّد حيال الوضع الجديد في سوريا. وقبل أن يُجري بوتين مكالمته الهاتفية الأولى مع الرئيس أحمد الشرع، في فبراير (شباط) الماضي، كانت موسكو قد أجرت جولات من المحادثات مع تركيا وإيران وأطراف إقليمية أخرى. وأعلنت أن اتصالاتها مع القيادة الجديدة تجري عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية، في إشارة إلى قناتَي السفارة الروسية في دمشق وممثلي القوات الروسية في قاعدة «حميميم».

وفي يناير (كانون الثاني) قام ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بزيارة لدمشق كانت الأولى لمسؤول روسي بعد إطاحة الأسد. وأعلن الدبلوماسي الروسي المخضرم بعد جولة حوار مع القيادة السورية أنه أجرى «محادثات بنَّاءة وإيجابية». ومن نتائج الزيارة أنها نجحت في «إذابة الجليد» بين الطرفين، وأطلقت مسار التفاوض حول ترتيب جديد للعلاقة بينهما.

جندي روسي على مركبة قتالية للمشاة ضمن قافلة عسكرية روسية متجهة إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية على ساحل سوريا 14 ديسمبر الماضي (رويترز)

وقدمت دمشق عدة مطالب للقيادة الروسية؛ بينها المساعدة في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية عبر رفع الغطاء عن رموز النظام السابق، وإعادة الأموال المنهوبة التي تقول تقارير -نفت موسكو صحتها- إنه تم تهريبها إلى روسيا في وقت سابق.

وأبدت دمشق استعداداً لمناقشة أسس جديدة للوجود العسكري الروسي في قاعدتي «حميميم» الجوية و«طرطوس» البحرية.

من جهتها أكدت موسكو استعدادها لأداء دور إيجابي نشط في ملف الحوار السوري الداخلي، وترتيب الوضع في المرحلة الانتقالية، واستخدام نفوذها بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي للمساهمة في رفع العقوبات المفروضة على دمشق. كما تحدثت موسكو عن استعداد للمساهمة في إعادة تأهيل البنى التحتية السورية، وألمحت إلى احتمال إعفاء دمشق من الديون المستحقة لموسكو في إطار مساعدة السلطات الجديدة على مواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية.

وبدا أن أولويات موسكو تقوم على المحافظة على الوجود العسكري الروسي في سوريا في هذه المرحلة على الأقل. ليس فقط بسبب الأهمية المعنوية والرمزية التي تكرِّس عدم تعرض المشروع الروسي لهزيمة كبرى في سوريا، بل لأن هذا الوجود بات يحظى بأهمية خاصة لتسيير عمليات الإمداد الروسية والاحتياجات اللوجيستية إلى القارة الأفريقية ومناطق عدة، مما يعني أن تعرض عمليات موسكو البحرية والجوية في هذه المرحلة لهزة في البحر المتوسط من شأنه أن يكون مكلفاً جداً للكرملين خصوصاً على خلفية استمرار الصراع في أوكرانيا، والمواجهة المتفاقمة مع الغرب عموماً.

العلامة الثانية الفارقة هنا، برزت في الحاجة الروسية إلى فهم آليات تعامل السلطة السورية الجديدة مع الضغوط الغربية التي تدفع إلى التباعد مع موسكو، وإنهاء الوجود العسكري الروسي. وبرزت إشارات مريحة من خلال تأكيد دمشق أكثر من مرة استعدادها لمناقشة آليات جديدة للتعاون، وعدم رغبتها في الانجرار نحو مواجهات مع أي طرف.

منعطف الساحل

بدا أن التريث الروسي كان مدفوعاً برغبة في تلمس آفاق التطورات المحتملة في دمشق وحولها، على خلفية بطء السلطات السورية في إقرار خطوات واضحة للمصالحة الداخلية وتطبيع الوضع مع المكونات وإطلاق مسار الترتيب القانوني والدستوري لهيئات السلطة الحاكمة.

عنصر في العمليات العسكرية السورية أمام مدخل قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية... 29 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لذلك، لم تشكل التطورات الدامية في الساحل، مفاجأة لموسكو. خصوصاً أن معطياتٍ أشارت إلى أن بعض رموز النظام السابق الذين يتحركون بحرية في روسيا، أدَّوا أدواراً في تشجيع التحرك العسكري لبعض المجموعات. وأشارت معلومات إلى أن رجال أعمال موجودين في روسيا دعموا التحرك مالياً. لكن هذا لا يعني أن موسكو لعبت دوراً مباشراً في تأجيج الوضع. وعلى العكس من ذلك، فقط نفت مصادر دبلوماسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط» وجود أي علاقة لموسكو في هذا التطور. وتشير مصادر هنا إلى أن موسكو لا مصلحة مباشرة لها في إشعال فتيل حرب داخلية في سوريا تهدد مسار مفاوضاتها مع السلطات القائمة. كما أن فكرة انفصال أجزاء من سوريا خصوصاً في منطقة الساحل وبناء ما يسمى «إقليم عَلَويّ» من شأنها أن تضر على المدى البعيد بمصالح روسيا وفق تأكيد خبراء دبلوماسيين وعسكريين.

قد يكون هذا واحداً من الأسباب المباشرة التي دعت بوتين إلى توجيه رسالة لافتة إلى نظيره السوري في أبريل (نيسان)، حملت في لهجتها وتوقيتها دلالات مهمة للغاية.

أعلن الكرملين أن بوتين شدد في رسالته على استعداد بلاده لتطوير التعاون مع السلطات السورية في كل المجالات.

وقال الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف، إن الرسالة حملت تأييداً لجهود القيادة السورية الموجهة نحو «تحقيق الاستقرار السريع للوضع في البلاد بما يخدم مصالح ضمان سيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها».

اللافت أن الرسالة تضمنت تأكيداً لتوجه موسكو إلى «تطوير التعاون العملي مع القيادة السورية في كامل نطاق القضايا المدرجة على جدول الأعمال الثنائي، من أجل مواصلة تعزيز العلاقات الروسية - السورية الودية تقليدياً».

اتهام ضمني لموسكو

ومع الأهمية التي حملها هذا المضمون، وحرْص بوتين على تأكيد توجهه إلى إعادة ترتيب العلاقة وإطلاق تعاون جدي و«عملي» مع القيادة السورية، فإن أهمية توقيت الرسالة على خلفية نجاح دمشق في مواجهة تداعيات أحداث الساحل، تكتسب بعداً إضافياً، لأن أصابع اتهام كانت قد وُجِّهت إلى موسكو بشكل غير مباشر بأنها دعمت أو غضَّت الطرف عن تحرك عسكري لفلول النظام المخلوع. واستندت الاتهامات إلى أن عشرات الضباط السابقين لجأوا إلى روسيا بعد إطاحة نظام بشار الأسد. ولم تردّ السلطات الروسية على المستوى الرسمي على هذه الاتهامات، واكتفى الكرملين ووزارة الخارجية بالإعلان عن قلق جدي بسبب الاضطرابات في منطقة الساحل السوري التي أسفرت لاحقاً عن ملاحقات وتصفيات جسدية طالت مدنيين.

على هذه الخلفية تبدو رسالة بوتين متعمَّدة في لهجتها وتوقيتها، وهي تحمل إشارة واضحة إلى استعداد موسكو لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على التعاون بما يلبي مصالح الطرفين.

اللافت أنه مباشرةً بعد الإعلان عن هذه الرسالة، برزت معطيات تناقلتها وسائل إعلام حول قيام دمشق بتقديم «طلب رسمي» لتسليم بشار الأسد. ومرة أخرى بدا أن هذه المعطيات موجَّهة للتغطية على التقدم الحاصل في الاتصالات بين الطرفين، وفق تأكيد دبلوماسيين روس.

مصير الأسد

تقول دمشق إنها طلبت بالفعل خلال الاتصالات تسليم الأسد وزمرة من رموز نظامه، في إطار الحديث عن ضرورة دعم موسكو مبدأ العدالة الانتقالية، لكن الواضح -وفقاً للجهات الروسية- أن هذا الطلب قُدِّم خلال لقاءات على مستوى دبلوماسيين، خصوصاً خلال زيارة بوغدانوف «الاستكشافية»، وليس عبر رسالة رسمية موجهة إلى الكرملين. يوضح أحد الدبلوماسيين هذه النقطة بالإشارة إلى أنه «من السذاجة التفكير بأن دمشق تضع شرط تسليم الأسد لتطبيع العلاقات، خصوصاً أن مغادرة الأسد كانت في سياق الاتفاق على المساهمة في تغيير الوضع في سوريا دون حدوث صدام عسكري أو تفادي حدوث حرب أهلية، وأسهم في ذلك تركيا وروسيا وإيران أيضاً».

صورة للرئيس السوري السابق بشار الأسد في حلب بعد سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة (أ.ف.ب)

ويشير الدبلوماسي إلى أن «القيادة الحالية في دمشق تعي تماماً أنها تتحمل مسؤولية ليس أمام الشعب السوري فقط، بل أيضاً أمام الأطراف الدولية التي سهَّلت لها تسلم هذه المسؤولية؛ لذلك بالنسبة إلى روسيا قضية مصير الأسد قضية محسومة وليست قابلة حتى للنقاش، والقيادة الحالية المؤقتة لسوريا تعي ذلك تماماً».

في المقابل، تقول مصادر روسية وسورية متطابقة إن موسكو قدمت تطمينات كاملة للقيادة السورية بأن الأسد لن يكون له أي دور سياسي، وأن «وجوده الإنساني» في موسكو لا يمنحه الحق في الإدلاء بتصريحات أو القيام بنشاط سياسي من العاصمة الروسية.

ووفق باحثٍ سوري مقيم في موسكو، فإن «موسكو حسمت أمرها، ولا رهان على انقلاب داخلي حالياً». ويقول الباحث الذي تحدثت معه «الشرق الأوسط» إن الروس مرتاحون لمواقف الإدارة الجديدة عموماً، لكن هناك أمور كثيرة لم تُحسَم بعد، وهي التي سوف تحدد مسار العلاقات المستقبلية.

لتوضيح هذه الفكرة، يضع الخبير المطلع على بعض النقاشات الجارية، عدة أمور إلى جانب وضع القواعد العسكرية، بينها آليات التعامل مع عشرات الضباط السابقين الذين ما زالوا يحظون برعاية موسكو، وبعضهم يوجد داخل الأراضي السورية، والثمن الذي قد تدفعه موسكو لتمديد أو تحديث عقود الوجود العسكري في حميميم وطرطوس.

ووفقاً له: «لا هدايا مجانية (...) مصير القواعد يتعلق بالتوافقات على القضايا المطروحة».

هنا يشير الخبير ومعه طيف من المحللين في موسكو، إلى نقطتين مهمتين لا تغيبان، كما يبدو، عن جوهر المناقشات الروسية - السورية الجارية؛ الأولى أن «إبعاد روسيا من المنطقة أمر خطير، ولا بد من إقامة نوع من التوازن يمنع هيمنة طرف غربي على الوضع في سوريا والمنطقة، وهذا يصب في صالح دمشق وموسكو معاً». والأخرى أن ثمة آفاقاً لأن تكون سوريا جزءاً من توافقات روسية - أميركية في المرحلة المقبلة. ويدخل هنا الحديث عن صفقات محتملة قد تكون العلاقة مع طهران، وعرض الوساطة الروسية لتقريب وجهات النظر معها، والتوصل إلى صفقة نووية جديدة مُرضية لكل الأطراف، جزءاً من مقدماتها.