مع توقف عجلة صناعة الرياضة، يبدو طبيعياً تماماً أن تسيطر على المرء مشاعر الصدمة، وربما الجزع.
متى شعرت أخيراً بأن الأمر أصبح حقيقياً ولم يعد مجرد كابوس تتمنى لو تفيق منه؟ ربما عندما بدأت أولى الصور المروعة في التدفق من مدينة ووهان الصينية، وبدت الشوارع البائسة وكأنها تحكي تفاصيل كارثة إنسانية تفوق قدرة المرء على الاستيعاب. ربما عندما رأيت طائرة ركاب خالية تماماً، عندما ضربت الفوضى جميع الخطط والجداول الزمنية المحددة سلفاً. ربما عندما اتخذت الحكومة الإيطالية قرارها بوضع أمة بأكملها قوامها 60 مليون نسمة قيد الإقامة الجبرية الفعلية، أو عندما أغلقت جميع مدارس آيرلندا أبوابها.
أو ربما عندما صدر قرار إلغاء مباراة فولهام أمام برنتفورد التي كانت مقررة مساء يوم الحظر للكرة الإنجليزية. وإذا كان الحال كذلك، فلا داعي لأن تشعر بالخجل، فالكثيرون منا لا تشكل الرياضة لهم مجرد وسيلة لقتل الوقت، وإنما وسيلة لعيش لحظات حقيقية لا تنسى. الرياضة تقدم لنا الهيكل العام الذي تبعاً له نحسب مرور الأيام والمواسم. الثلاثاء والأربعاء: مباريات دوري أبطال أوروبا. والخميس: الدوري الأوروبي، ليلة الجمعة والسبت والأحد الدوري الإنجليزي الممتاز، وعطلة نهاية الأسبوع رغبي الدوري الممتاز ومباريات الغولف. ويأتي كل هذا عبر ساعات وساعات تمتد أمام أعيننا مثل نزهة رائعة. في الأوقات المثيرة للفزع، سواء مع وجود فيروس أو لا، كانت تلك هي الطقوس التي نلجأ إليها لنضفي على حياتنا مسحة من المظاهر الطبيعية العادية، وخلفية من ضوضاء وضجة لبث الطمأنينة في نفوسنا والتغلب على وخزات دقات الساعة.
الآن، توقفت الصناعة الرياضية العالمية العملاقة فجأة وعلى نحو مخيف. لذا؛ يبدو من الطبيعي تماماً أن يشعر المرء بالصدمة والارتباك، بل وربما الجزع. الغريب أن الأحداث تمر بسرعة كبيرة للغاية في إطار ملحمة فيروس كورونا التي نعيشها: ففي غضون أسبوعين فقط انتقلنا من الاستمتاع بمشاهدة المباريات داخل المقاهي والحانات برفقة حشود من الأصدقاء إلى التعطيل الكامل لجميع الفعاليات الرياضية، في الوقت الذي تحولت فيه بطولة «يورو 2020» فعلياً إلى «يورو 2021»، بينما يخضع الإسباني ميكيل أرتيتا، مدرب آرسنال، للحجر الصحي وتبعه الكثير من اللاعبين. ويبدو أن كل يوم يمر، بل وكل ساعة، تحمل معها مزيداً من الصدمات والضربات لنظام كنا ننظر إليه جميعا باعتباره حقيقة مؤكدة ومسلَّماً بها.
اليوم، جرى تجميد فعاليات جميع الأقسام الأربعة لكرة القدم الإنجليزية للمحترفين، وأكبر قسمين بدوري كرة القدم للسيدات، وبطولات الدوري الأوروبية الخمس الكبرى، ودوري أبطال أوروبا والدوري الأوروبي. وبالمثل، تأجلت بطولة العالم لألعاب القوى داخل الصالات التي كان من المقرر إقامتها في الصين. وتأجل ماراثون بوسطن وماراثون لندن، وكذلك كل منافسات الماراثون ونصف الماراثون البارزة خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان). وألغيت اللقاءات الثلاثة الأولى بالدوري الماسي لألعاب القوى، التي كانت مقررة في قطر والصين (الثاني والثالث)، وألغيت الاستعدادات لدوري البيسبول الرئيسي، كما تأجلت منافسات الموسم التي كان من المقرر أن تنطلق في 26 مارس الحالي. وجرى تعليق منافسات دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين. وتأجلت جولة المنتخب الإنجليزي للكريكيت في سريلانكا، وألغيت جميع منافسات اللعبة للمحترفين في أستراليا وجنوب أفريقيا والهند، وكذلك دوري السوبر الباكستاني. وتأجلت انطلاقة سباق إيطاليا الدولي للدراجات (جيرو دي إيطاليا). أما مباريات التنس ومسابقات «فورمولا1» فلن تعود للنشاط ببساطة. باختصار، هذه أضخم موجة تعطل تتعرض لها الروزنامة الرياضية منذ الحرب العالمية الثانية، مع احتمالات امتداد هذا الاضطراب والتوقف الكامل للفعاليات حتى نهاية العام.
إلا أنه ثمة نقاط هنا ينبغي التأكيد عليها، أولها أنه على الكثير من المستويات لا يحمل أي مما سبق أهمية تذكر، ذلك أن حرمان «ليفربول» من لقب بطل الدوري الإنجليزي بسبب عامل فني، وتوقف بطولة «الأمم الستة للرغبي» وإلغاء دورة الألعاب الأوليمبية ـ جميعها أمور لا تحمل أهمية تذكر لدى مقارنتها بحجم الخسائر البشرية: الخوف والوحدة والحرمان والآلاف، بل وربما حتى ملايين يجري نقلهم سريعاً إلى المستشفيات للمرة الأخيرة. وبصورة ما، تبدو هذه النتيجة الأولى والأهم على الصعيد الرياضي لوباء «كورونا»: فرغم كل الوقت والمجهود والأمل والغضب الذي استثمرناه في المجال الرياضي، يبدو كل ذلك في النهاية أمراً بمقدورنا الاستغناء عنه.
أما النقطة الثانية، فإنه من وجهة نظر البعض، يحمل هذا الأمر أهمية بعض الشيء. وللتأكد من ذلك ليس عليك سوى قراءة الردود على الحساب الرسمي لبطولة الدوري الممتاز أسفل خبر إرجاء مباراة مانشستر سيتي وآرسنال لاعتبارات تتعلق بالسلامة العامة. على سبيل المثال، كتب أحدهم غاضباً «قرار يعتبر بمثابة أضحوكة»، بينما انتقد آخر القرار قائلاً «هذا محض هراء، ومجرد مثال آخر كيف أن لعبة كرة القدم تدار عن طريق الصدفة البحتة». وكتب ثالث «أنتم حفنة من الفاشلين».
ويبدو ذلك واضحاً كذلك في الحدة التي استقبلت بها بعض الجماهير حالة الفوضى التي ضربت الموسم. وأمام هذا القطاع، ظلت مجموعة من علامات الاستفهام عالقة دونما إجابة: هل سيصعد ليدز يونايتد أو كوفنتري من الدرجة الأولى إلى الدوري الممتاز؟ هل سيكون من الإنصاف هبوط أستون فيلا بوجوده في المركز الـ19 ولا تزال لديه مباراة مؤجلة؟ هل أنت على استعداد لخوض مخاطرة تعرض غرباء للموت لمجرد أن ترى ناديك المفضل يتوج بطلاً للدوري؟ لا أعلم كيف يمكن أن يجيب بعض عشاق الساحرة المستديرة عن السؤال الأخير بالإيجاب، لكن التعليقات عبر شبكات التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية توحي بأن النسبة بالتأكيد تفوق الصفر.
إذا كان الحال كذلك، فإن ثمة جانباً سلبياً لكل الخطاب الإيجابي الذي نقوله لأنفسنا عن العمل بالمجال الرياضي؛ ذلك أنه إذا كنا صادقين في الحديث عن قوة الرياضة كمصدر إلهام ونشر السعادة وتوحيد صفوف الناس، فإنه لزاماً علينا التحلي بالصدق لدى الحديث عن تداعيات غيابها. في الواقع، هذا الأمر يتجاوز مجرد عدم وجود شيء في التلفزيون لمشاهدته يوم سبت، وإن كان لا يحق لنا الاستهانة بهذا الأمر لو أنك عزيزي القارئ ترى أنه يضفي على حياتك معنى. الحقيقة، أن غياب كرة القدم يشي بما تحمله لنا الأيام والشهور المقبلة من تراجع وانسحاب من المساحات العامة المشتركة نحو التقوقع على الحياة الخاصة والفردية.
بطبيعة الحال سيبقى أمام القنوات وقت يتعين عليها ملئه، وسيبقى لدى صحف أيام الأحد مساحات يتعين عليها ملئها هي الأخرى. وفي تلك الأثناء، ستستمر أصوات الغضب في التفجر عبر فضاء الإنترنت كما لو أن شيئاً لم يحدث بالعالم. وسيستمر الجزء المظلم من التعليقات الرياضية عن التوتر والغضب والرسائل والمنشورات التي لا حصر لها عن أهداف وأعمال تحايل، حتى في ظل غياب مباريات فعلية على أرض الواقع.
ربما على امتداد الأسابيع الطويلة المقبلة سيتعين علينا جميعاً إبداء قليل من الصبر، وربما التواضع أمام مأساة إنسانية تتشكل ملامحها يوماً بعد يوم. وربما سنستسلم أمام شغف جديد: لعبة «فيفا» عبر «يوتيوب» أو مصارعة الأنوف في بوليفيا عبر قناة «يوروسبورت 2»، أو التحول إلى رياضة أخرى، مثل سباقات السرعة والخيول وكرة القدم لغير المحترفين، وغيرها من النشاطات التي قررت المضي قدماً.
وبعد ذلك، ربما يوماً ما سينتهي كل ذلك. وسيعاود الرياضيون الظهور على الساحة ويستأنفون تدريباتهم. ويجري وضع جدول جديد للمباريات وتفتح الاستادات أبوابها. وشيئاً فشيئاً تعود الحياة لتدب في مجال الرياضة لنتذكر جميعاً أنه من بين جميع الأمور الهامشية في حياتنا تبقى الرياضة الهامش الأهم.
توقف النشاطات الرياضية اصاب العالم بالفراغ... لكنه اختبار للصلابة
الملاعب الخاوية تحكي تفاصيل كارثة إنسانية تفوق قدرة المرء على الاستيعاب
توقف النشاطات الرياضية اصاب العالم بالفراغ... لكنه اختبار للصلابة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة