جديّة جورج شتاينر

رحل في التسعين وكان كلية من الإنسانيات بنفسه وأكاديمية لوحده

جديّة جورج شتاينر
TT

جديّة جورج شتاينر

جديّة جورج شتاينر

(جورج شتاينر ناقد أميركي أوروبي، ولد في فرنسا لعائلة يهودية نمساوية، برزت شهرته في أعمال نقدية كبيرة من أشهرها كتابه: «بعد بابل» (1975) الذي طرح رؤى جديدة حول اللغة والترجمة تعد تأسيسية في النقد المقارن وفي دراسة الترجمة بصفة خاصة. كما أن من أهم كتبه دراسة شهيرة للرواية، كانت أول كتبه أيضاً، هي: «تولستوي أم دوستويفسكي» (1960) يبرز فيها الكاتبان الروسيان الكبيران بوصفهما ممثلين لرؤيتين مختلفتين للعالم. شغل شتاينر عدة مناصب أكاديمية في الجامعتين البريطانيتين الشهيرتين «أكسفورد» و«كامبردج»، وكذلك في جامعة «هارفرد»، لكن إخلاصه، كما تقول المقالة التأبينية التالية، كان للقارئ العام في مسعى لإشاعة الوعي المستنير والعميق بالأدب والفنون واشتباكاتهما بالثقافة والحياة بصفة عامة: المترجم).
كلمة «رهيب» دارجة على ألسنة المراهقين هذه الأيام، غير أن مساحات المعرفة التي امتلكها الناقد والروائي جورج شتاينر، كانت رهيبة بالمعنى التقليدي؛ المعنى الذي يقصده الكبار: معرفة تبعث على الرهبة، حقيقة وصدقاً. لقد عرف شتاينر، الذي توفي الاثنين الماضي، في التسعين من عمره، لغات حديثة، ولغات قديمة، وعرف الأدب الكلاسيكي، والأدب الحديث. حفظ عن ظهر قلب منظومات لراسين، وكان يمكنه أن يشرح التوريات في أعمال جويس، وأن يقول لك لماذا كان كلاهما، من زاويته المعقدة، ولكن التي امتلكها بجهد كبير، متفوقاً على إطناب شكسبير. كان كما يسميه الكثيرون موسوعة إنسانية - ليس بالمعنى الأميركي، مخزناً للمعلومات، وإنما بالمعنى الذي قصده التنوير الفرنسي: مخزناً للمعرفة النقدية ذات الأهمية. مراجعاته الطويلة التي كتبها لهذه المجلة، والتي كتبها على مدى ثلاثين عاماً، من 1966 حتى 1997، كانت مليئة بالإحالات التي لم يكن باستطاعة مفكر ذي أفق ممتد بطبيعته إلا أن يضمنها. لكنها لم تكن مطلقاً مقحمة أو مفتعلة - في طريقه إلى بورخيس، مر عقله بسوفوكليس، وتوقف لبرهة ليحمل شيئاً من هايدغر. كان شتاينر طوال حياته مرتحلاً عبر تلك الطرق. صفة «الاستعراض» التي استعملها الصحافيون أحياناً لوصفه، كانت أبعد شيء عنه. لم يكن يستعرض. كان كلية من الإنسانيات بنفسه، أكاديمية لوحده.
ولكم تعددت موضوعاته واتسعت: ليفي شتراوس، سيليني، بيرنهارد، شاردان، ماندلشتام، كافكا، الكاردينال نيومان، فيردي، غوغول، بورخيس، بريخت، فتغنشتاين، مونتالي، لست، كوسلر، ولغويات نعوم تشومسكي، والذائقة (إلى جانب الستالينية المشتهاة) عند أنتوني بلنت. (وليس ذلك سوى إحدى المجموعات). لم يكن بالتأكيد ممن يراوحون بين أعلى الثقافة وأسفلها؛ لم يُتبع بابتهاج مقالته حول مفهوم النيئ والمطبوخ عند ليفي ستروس بمقالة أخرى مملوءة بوصفات تشرح كيف يمكن طبخ النيئ. لكن ذلك لم يكن السلوك الأخلاقي لجيله؛ كان، وهو المولود سنة 1929، من أهل الثقافة الرفيعة والأرفع، النوع الذي آمن بكل أحاسيسه بقدرة الفن الجاد على منح الحياة معنى وقيمة، بغض النظر عن كيف يبدو ذلك الإيمان هشاً.
لكن ذلك لا يعني بالتأكيد أن يجعل «العالم» ذا معنى وقيمة. لقد تعرضت جدية شتاينر لانقطاع حاد بسبب المحرقة اليهودية التي نظر إليها بوصفها الحدث الرئيس في العصر الحديث. (هربت أسرته من فيينا قبل وقت قصير من حدوث الأسوأ). كان جزءاً من رؤيته الحقيقية، وليس مجرد الأرستقراطية، أن ينظر إلى سنوات الحرب من حيث هي انقطاع جذري، ليس في التاريخ فحسب، وإنما في إيماننا بالثقافة: متعلمون فعلوا تلك الأشياء بمتعلمين آخرين. لم تكن جيوشاً جاهلة تتصارع في الظلام هي التي أحدثت الرعشة في روح جورج شتاينر؛ كانوا ألماناً مثقفين يستمعون لشوبرت هم الذين قتلوا يهوداً متعلمين وثقوا في غوته، يهوداً شُحنوا في القطارات. هذا الإدراك لمحدودية الثقافة في قدرتها على تغيير العالم مثّل الحد الذي توقف عنده حبه للأدب، وكان ما منح ذلك الحب لوناً مظلماً وأكثر مأسوية مما يستطيع أي تبشير بـ«الكتب العظيمة» أن يقدمه.
بموت شتاينر أحسن كتاب التأبينات صنعاً بتذكير القراء بكتبه الكبيرة - الأسفار الضخمة، كما أطلق عليها ذات يوم. دراسته للغة في كتاب «ما بعد بابل» وروايته المرهقة، ولكن المذهلة بطريقتها الخاصة، «نَقْل أ. هـ. إلى سان كريستوبل» (حول اكتشاف متخيل لأدولف هتلر (أ.هـ) في غابات الأمازون)، هما الأقرب إلى أن يجتذبا القراء باستمرار، أو على الأقل أن يبقيا في الذاكرة. ولكن ما يستحق الاستمتاع به في لحظة وفاته هي الحقيقة التي تنكرها كل تلك المؤهلات. مع أنه احتل عدة مناصب أكاديمية في هارفرد وكامبردج، بين مناصب أخرى، لم يكن شتاينر منتمياً تماماً إلى الأكاديمية. لم تكن له «مدرسة» ولا أتباع، كان له قراء فقط. ما كان مذهلاً، إذا أخذنا في الاعتبار كم كان ملتزماً بمعيار أدبي صعب، هو كم كان ملتزماً أيضاً بدور شعبي؛ دور قد نسميه، حتى إن تحسس هو من العبارة، دوراً متوسط المستوى. حضوره في الأكاديمية، على الرغم من استمراره، كان يدعمه حضوره الأكبر في الدوريات والمجلات، كهذه المجلة، التي أضفى عليها من علمه. في وقت سعى فيه معظم النقاد في الأكاديمية، إما أن يكونوا جذابين على نحو غامض، أو غامضين على نحو جذاب، سعى هو أن يكون جاداً ومعلماً.
تحدى شتاينر قراءه دون أن يقلل من أهميتهم. افترض أنهم مهتمون بقدر اهتمامه. كان الشيء الحقيقي، آخر الكبار من المثقفين الرحالة القادمين من وسط أوروبا، مثقفاً يقف إلى جانب بنيامين وسيوران والمنفيين الآخرين، الذين كانت الكتب بالنسبة لهم وطناً دائماً والقراءة مسألة حياة أو موت. برحيله، ليس لنا إلا أن نعيد قراءة ما كتب، مصممين على احترام كثافة التزامه بتكثيف التزامنا.

نشرت هذه المقالة التأبينية في مجلة «النيويوركر»، 5 فبراير (شباط) 2020.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).