معركة «الثلاثاء الكبير» قد تحدد هوية منافس ترمب في الانتخابات

الديمقراطيون متخوفون من صبغ ساندرز حزبهم بـ«الاشتراكية» وخسارة الرئاسة و«الكونغرس»

معركة «الثلاثاء الكبير» قد تحدد هوية منافس ترمب في الانتخابات
TT

معركة «الثلاثاء الكبير» قد تحدد هوية منافس ترمب في الانتخابات

معركة «الثلاثاء الكبير» قد تحدد هوية منافس ترمب في الانتخابات

يتوجّه الناخبون الأميركيون يوم الثلاثاء المقبل، 3 مارس (آذار) المقبل، إلى صناديق الاقتراع للمشاركة فيما يُعرف بـ«الثلاثاء الكبير»، الذي يشكل الاختبار الحقيقي الأول لجماهيرية المرشح الذي يطمح للفوز بسبق التنافس على رئاسة أكبر دولة في العالم. ومع أن الانتخابات التمهيدية تشبه إلى حد كبير الانتخابات العامة المقررة، يوم الثلاثاء 3 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإنها قد لا تشكّل الفيصل الذي سيحسم هوية المنافس الديمقراطي في مواجهة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب. ومن ناحية ثانية، فإن ترمب لا يواجه خصماً جدّياً داخل حزبه في معركة تجديد ولايته الثانية والأخيرة، ذلك أن تسميته رسمياً ستبقى مؤجلة حتى «مؤتمر الحزب الجمهوري» المبرمج عقده يوم 24 أغسطس (آب) المقبل.

اسم «الثلاثاء الكبير» ليست مصطلحاً رسمياً، لكنّ النقاد السياسيين والصحافيين درجوا على استخدامه، للإشارة إلى يوم الانتخابات الذي تجري فيه مجموعة من الولايات الأميركية انتخاباتها التمهيدية وتجمّعاتها الحزبية، لتحديد عدد كبير من المندوبين إلى المؤتمرات الحزبية.
المعروف أن يوم الثلاثاء هو اليوم التقليدي للانتخابات في الولايات المتحدة. وتعود تسمية «الثلاثاء الكبير» إلى عام 1976 حين حاولت الولايات زيادة نفوذها في التأثير على عملية الترشيح. وكان أحد الأساليب هو إنشاء كتل جغرافية لتشجيع المرشحين لمنصب الرئاسة على تنظيم حملاتهم، وتمضية بعض الوقت في تلك الولايات. كما أن أحد الدوافع الرئيسية لـ«الثلاثاء الكبير» هو الرد على الانتقادات وتنفيذ اقتراحات لإصلاح النظام الأساسي الحالي، التي ينادي كثير منها بإنشاء قاعدة ابتدائية وطنية أو إقليمية أولية، للقياس عليها في تحديد هويّة المرشح، في وقت مبكر نسبياً.

نبذة تاريخية

يقول بعض الخبراء في الانتخابات الأميركية إن «الثلاثاء الكبير»، كما نعرفه، جاء نتيجة رغبة الديمقراطيين خلال عقد الثمانينات في ترشيح مرشح أكثر اعتدالاً. ولقد رشّح الديمقراطيون عام 1984 والتر مونديل، الذي كان يُعتبر من المعتدلين، لكنه هُزم في النهاية في الانتخابات العامة أمام الرئيس رونالد ريغان. وفي انتخابات 1988، نقل الحزب الديمقراطي في الولايات الجنوبية الانتخابات التمهيدية بشكل جماعي إلى شهر مارس (آذار)، في محاولة منه للحصول على جناح أكثر محافظة على أمل تعزيز حظوظ مرشح أكثر اعتدالاً. لكن المحاولة لم تسفر عن النجاح المأمول، إذ رشّح الديمقراطيون حاكم ولاية ماساتشوستس (آنذاك) مايكل دوكاكيس، الذي كان يُعتقد أنه أكثر ليبرالية من الديمقراطيين الجنوبيين، ولكن دوكاكيس خسر أمام المرشح الجمهوري جورج بوش (الأب).
اليوم، «الثلاثاء الكبير» أكثر تنوّعاً جغرافياً وأقل اهتماماً بمناطق محددة تحاول التأثير على الانتخابات. وبدلاً من ذلك، تسعى كل ولاية لأن تكون لها الكلمة في وقت مبكّر من السباق الرئاسي خوفاً من استبعادها من عملية صنع القرار. ويتطلب الأمر حسن الاختيار لمعرفة المرشح الذي يمكنه الفوز.
لقد تضخّم يوم «الثلاثاء الكبير» لدرجة أنه خلال انتخابات عام 2008 لكل من الديمقراطيين والجمهوريين، أجرت نصف الولايات الأميركية تقريباً انتخاباتها فيه. ويضيف الخبراء أن يوم «الثلاثاء الكبير» يمكن أن يكون حاسماً، ويشير إلى نهاية الانتخابات التمهيدية، كما كان الحال بالنسبة للحزبين عام 2000، كما أنه قد يكون منقسماً بشكل كبير وكافٍ للحفاظ على استمرار السباق الرئاسي التمهيدي لفترة أطول.
وتختلف الولايات التي تعقد الانتخابات التمهيدية (Primaries) يوم «الثلاثاء الكبير» من سنة إلى أخرى، حيث تختار كل ولاية يوم الانتخابات بشكل منفصل، وهو ما يؤدي إلى تقليص أو زيادة عدد المندوبين، الذين يتم اختيارهم لتمثيل الولايات في المؤتمرات العامة للحزبين الجمهوري والديمقراطي في الصيف المقبل. ومن المعروف أن سياسات الولايات المتحدة يهيمن عليها حزبان سياسيان رئيسيان، هما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. ويختار الحزبان مرشحهما للرئاسة في «تجمّعات» حزبية (Caucuses) يحضرها مندوبون من الولايات أو عبر انتخابات تمهيدية. ويحدّد قانون كل ولاية كيفية اختيار مندوبي كل حزب، إما عن طريق الانتخابات الأولية أو التجمعات.
هذا العام هناك أكثر من ثُلث المندوبين في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي يعملون للفوز يوم «الثلاثاء الكبير»، والنتائج التي يحققها المرشحون فيه ستحدد إلى حد كبير هوية المرشح الذي يمكنه إقناع جمهور الحزب بالشخصية التي ستمثله في مواجهة ترمب. ذلك أن الانتخابات التمهيدية والمؤتمرات الحزبية التي أجريت منذ بداية هذا الشهر، في ولايات آيوا ونيوهامبشير ونيفادا، واليوم تجري في ولاية ساوث كارولينا، لم تشكل مؤشراً حقيقياً لتحديد الخاسرين والرابحين لدى الديمقراطيين، لا سيما أن عددهم ما زال كبيراً نسبياً، إذ يستمر في حلبة المنافسة 8 مرشحين يتأهّبون للمواجهة يوم «الثلاثاء الكبير».
وتجدر الإشارة إلى أن الجمهوريين يمكنهم أن يشاركوا في التصويت، في معظم ولايات «الثلاثاء الكبير»، ولكن بما أن الرئيس ترمب لا يواجه منافساً جدياً، فالتركيز سيكون على انتخابات الديمقراطيين.

ولايات «الثلاثاء الكبير» هذا العام

ما الولايات التي ستصوّت في هذا اليوم، وما عدد المندوبين الذين يُتوقع فوزهم لدى الديمقراطيين؟
ستجري 14 ولاية، بجانب إقليم أميركي واحد، انتخاباتها التمهيدية، لاختيار ما مجموعه 1357 مندوباً. وهي تتوزّع على رقعة الولايات المتحدة، من ولاية كاليفورنيا غرباً إلى ولاية ماين في أقصى شمال شرقي البلاد، وتشمل ولايات آلاباما وأركنساس وكولورادو وماساتشوستس ومينيسوتا ونورث كارولينا وأوكلاهوما وتينيسي وتكساس ويوتاه وفيرمونت وفيرجينيا، ومعها إقليم ساموا في المحيط الهادي، كما سيبدأ الديمقراطيون الذين يعيشون في الخارج في الإدلاء بأصواتهم.
تصويت يوم «الثلاثاء الكبير» سيؤدي إلى تسمية مجموع المندوبين، وليس عدد الأصوات التي تُحسب عند معرفة مَن يفوز بترشيح الحزب للرئاسة؛ إذ يُصار إلى تخصيص عددٍ معيّن من المندوبين لكل ولاية بناءً على عدد السكان ووزنها في الحزب الديمقراطي. ثم تمنح الولايات أصوات المندوبين إلى المرشحين تبعاً للأصوات التي يحصلون عليها. وفي نهاية الانتخابات التمهيدية والمؤتمرات الحزبية يفوز المرشح الأول الذي يحصل على غالبية المندوبين، البالغ عددهم 3979، بترشيح الحزب الديمقراطي.

أهميته هذا العام؟

غير أن أهمية «الثلاثاء الكبير» هذا العام تعود إلى أن نتائج الانتخابات ستؤدي إلى تحديد 34 في المائة من المندوبين لمؤتمر الحزب العام، دفعة واحدة، وذلك بعد انضمام ولاية كاليفورنيا، أكبر ولاية أميركية من حيث عدد السكان، إلى الولايات التي ستجري انتخاباتها في هذا اليوم، مع عدد مندوبين يشكل 30 في المائة من المندوبين الذين سيفوزون يوم الثلاثاء.
في المقابل، فإن الانتخابات التي أُجريت في ولايات آيوا ونيوهامبشير ونيفادا، بجانب انتخابات ولاية ساوث كارولينا التي تجري اليوم، لا تقدّم مجتمعة أكثر من 5 في المائة من عدد المندوبين، لترتفع النسبة بعد «الثلاثاء الكبير» إلى 38 في المائة من عدد أصوات المندوبين. وفي حين يصعب تحديد اسم الفائز في هذا اليوم، إلا أن النتيجة ستظهر حتماً حسن أداء هذا المرشح أو ذاك، ومن الذي سيتمكّن من إكمال السباق الطويل للفوز بغالبية المندوبين.
أمر آخر يستحق الإشارة، هو أنه تختلف أوقات إغلاق الاقتراع حسب توقيت الولايات. إذ تغلق صناديق ولاية فيرمونت قرب الساحل الشمالي الشرقي أولاً في الساعة 7 مساء، بينما تغلق في كاليفورنيا على الساحل الغربي في الساعة 11 مساء بالتوقيت الشرقي. ولن تُعرف جميع النتائج يوم الثلاثاء، لأن فرز الأصوات قد يستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، لا سيما على الساحل الغربي. بل، قد يستغرق فرز الأصوات في كاليفورنيا أياماً لأن بطاقات الاقتراع بالبريد يجب ختمها يوم الانتخابات.
حتى اللحظة لا يزال سباق الحزب الديمقراطي يفتقر إلى الوضوح. وعلى الرغم من الفوز المقنع الذي حققه السيناتور اليساري بيرني ساندرز (78 سنة) في ولاية نيفادا، واحتمال تحقيقه نتيجة طيبة أمام منافسه الأبرز نائب الرئيس السابق جو بايدن في انتخابات ولاية ساوث كارولينا المقرّرة اليوم، وهذه الولاية الجنوبية المحافظة هي آخر الولايات التي تجري انتخاباتها الأولية خلال فبراير (شباط) المودّع. إلا أن ساندرز، الذي يمثل ولاية فيرمونت الشمالية التقدمية في مجلس الشيوخ، يجد نفسه أمام امتحان صعب يوم الثلاثاء مع تصاعد الحملات السياسية ضده، خصوصاً من منافسيه الديمقراطيين ومن مسؤولي الحزب، بعد تعليقاته السياسية التي أدلى بها في برنامج «ستين دقيقة»، ودفاعه عن الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو. قال ساندرز في المقابلة: «عندما تسلّم فيديل كاسترو السلطة، أتعلمون ماذا فعل؟ لقد خلق برنامجاً ضخماً لمحو الأمية. هل هذا أمر سيئ؟ على الرغم من أن كاسترو هو مَن قام به؟».
تصريح أثار غضب الديمقراطيين، الذين هاجموه بشدة معتبرين أن أفكاره انقسامية ومثيرة للجدل، وأن استمراره بالترشح بوصفه ديمقراطياً اشتراكياً سيؤدي إلى وصم الديمقراطيين كلهم بالتشدّد اليساري، ما قد يهدد بخسارتهم غالبيتهم في مجلس النواب. وبين قيادات الحزب الديمقراطي المُعربة عن قلقها، قال السيناتور الديمقراطي مايكل بينيت: «أعتقد أن الفوز بالانتخابات التمهيدية والفوز بالانتخابات الرئاسية أمران منفصلان. على الديمقراطيين اختيار مرشح يستطيع الفوز بولايات متأرجحة، ككولورادو، ويساعدنا على الفوز بغالبية المقاعد في مجلس الشيوخ، وهذا غير سهل».
وانهالت الانتقادات على ساندرز من منافسيه الديمقراطيين فسخر الملياردير مايكل بلومبرغ (عمدة نيويورك السابق) من تصريحاته، وغرّد قائلاً: «إن ميراث فيديل كاسترو القاتم يتألف من مخيمات الاعتقال والقمع الديني والفقر المدقع وفرق الإعدام وقتل الآلاف من شعبه». أما المرشح بيت بوتيجيج، فقارن ساندرز بترمب، وركّز في الأيام الأخيرة على مهاجمة ساندرز بشكل مكثّف لإقناع الديمقراطيين بأنه هو الخيار الأنسب لانتزاع ترشيح الحزب. وقال بوتيجيج في رسائل إلكترونية تهدف إلى جمع التبرّعات، قبل يوم «الثلاثاء الكبير»، إن «حملتنا حملة فائزة، ونحن الحملة الوحيدة التي تمكّنت من هزيمة ساندرز حتى الساعة، وهذا دليل على قدرتنا على توحيد غالبية الأميركيين».
ثم إن السيناتور بوب منينديز، المتحدّر من أصول كوبية، وكبير الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، قال: «أنا متأكد من أن المعتقلين السياسيين في سجون كاسترو، الذين أعدموا بإطلاق الرصاص، والذين عذبوا لا يرون برامج محو الأمية بأهمية خسارتهم حرياتهم وحقوقهم. ساندرز مخطئ للغاية، وآراؤه ستؤثر سلباً على السباق الرئاسي».
وأخيراً، شكّك السيناتور الجمهوري المعتدل ميت رومني، أبرز منتقدي ترمب داخل حزبه، بقدرة ساندرز على التغلب على ترمب قائلاً: «لا أعتقد أنه سيتمكن من قهر ترمب؛ فبيرني قال أموراً مثيرة للجدل في الماضي، وعندما تُصرف ملايين الدولارات لنبش الماضي في الحملة الرئاسية، لن يكون ما قاله مناسباً لكثير من الأميركيين».

ما يجب رصده قبل الثلاثاء

ومع تصاعد أسهم عدد من منافسي ساندرز، تتجه الأنظار نحو بلومبرغ الذي حصل على قوة دفع، بحسب استطلاعات الرأي، مع أنه لم يشارك في تمهيديات آيوا ونيوهامبشير ونيفادا؛ إذ أنفق ما يقارب 450 مليون دولار من أمواله الخاصة على الدعايات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي والمنشورات والندوات الشعبية. لكن اتهامه بسياسات عنصرية مثيرة للتفرقة خلال رئاسته بلدية نيويورك وتعليقاته وتمييزه ضد النساء في شركاته، تثير شكوكاً في تمكُّنه من تحقيق نتائج قوية يوم «الثلاثاء الكبير». أيضاً تتجه الأنظار نحو نائب الرئيس السابق جو بايدن، والسيناتورة إليزابيث وارين في تجاوز «الثلاثاء الكبير»، بعد النتائج المخيبة لهم في ولايتي آيوا ونيوهامبشير.
بايدن يراهن على تصويت السود في انتخابات ساوث كارولينا، اليوم (السبت)، بينما تحذّر حملة وارين من أن السباق لا يزال طويلاً، وتتطلع إلى ولايات «الثلاثاء الكبير» لتحقيق إنجاز قوي. (ستصوّت وارين في ولايتها ماساتشوستس، وهي ولاية ديمقراطية بامتياز، وتأمل أن تأتي في المركزين الأول أو الثاني في كثير من الأماكن الأخرى). ولكن ماذا لو خاب أمل بايدن ووارين في 14 ولاية، وهل سيتمكنان من إقناع المانحين والممولين بالاستمرار في دعمهما في السباق؟
حتى حظوظ بوتيجيج (عمدة مدينة ساوث بند السابق في ولاية إنديانا)، الذي حافظ على أداء معقول في الانتخابات التمهيدية الأخيرة، لا تبدو كبيرة لهزيمة ساندرز، وانتزاع ترشيح الحزب له، بعدما سرق الأخير الأضواء من كل المرشحين، بمن فيهم بايدن، الذي يأفل نجمه.
لكن بعض استطلاعات الرأي في عدد من الولايات المشاركة في انتخابات «الثلاثاء الكبير» تثير مخاوف ساندرز وانزعاجه من منافسيه الآخرين. ولا يزال أمامه كثير من الجهود لإقناع المؤسسة الحزبية الديمقراطية بأنه يستطيع قهر ترمب، وأن التشطيب خارج المراكز الثلاثة الأولى في عدد كبير من ولايات «الثلاثاء الكبير» يمكن أن يهدّد بجدّية حجته بأنه يستطيع كسب الانتخابات الوطنية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

أحدث التقديرات

وبحسب أحدث الاستطلاعات في هذه الولايات تحديداً يحقق بلومبرغ تقدماً بنسبة 1 في المائة على بايدن و4 نقاط مئوية على ساندرز وبوتيجيج في ولاية أركنساس. وفي ولاية كاليفورنيا، حيث سيُصار إلى اختيار 415 مندوباً يتقدم ساندرز على بقية منافسيه بنسبة 4 إلى 18 نقطة. وفي ولاية ماساشوستس، معقل وارين، يتقدم ساندرز عليها بنقطة واحدة، في حين أن السيناتورة آيمي كلوبوشار تحقق تقدماً في ولايتها (مينيسوتا)، متقدمة بـ6 نقاط على ساندرز.
وفي ولاية نورث كارولينا، يتقدم ساندرز على بايدن بشكل طفيف، ويأتي بلومبرغ خلفهما مباشرة، في حين استطلاع آخر يشير إلى تقدم بايدن على ساندرز بـ4 نقاط. وفي ولاية أوكلاهوما يتقدم بلومبيرغ بـ6 نقاط على بايدن وساندرز. وفي ولاية تكساس، التي تُعد من الولايات الكبرى مع 228 مندوباً، تتقارب نتائج بايدن مع ساندرز ويتقدمان على وارين بـ3 نقاط وعلى بلومبرغ بـ5 نقاط. وفي ولاية فيرمونت، معقل ساندرز، يحقق ساندرز تقدماً كاسحاً، بفارق 38 نقطة عن أقرب منافسيه، مسجلاً 51 في المائة من نسبة التفضيل، يليه بوتيجيج ثانياً بـ13 في المائة. وفي ولاية فيرجينيا يتقارب ساندرز وبلومبرغ بـ22 نقطة يليهما بايدن بـ18 نقطة.

مناظرة ساوث كارولينا

المناظرة الأخيرة التي أُجريت الثلاثاء في ساوث كارولينا، واعتُبِرت آخر فرصة للمرشحين لتحسين مواقعهم الانتخابي قبل «الثلاثاء الكبير»، توسّط فيها ساندرز المنصة، للمرة الأولى، بسبب تقدمه في استطلاعات الرأي. إلا أنه جُوبِه بسيل من الهجمات من منافسيه، ولذا تساءل عن سبب تكرارهم اسمه وهجومهم عليه. ولم يوفّر أفكاره التقدمية والأنباء التي تحدثت عن تدخل روسي لدعمه وبرامجه للرعاية الصحية والسلاح والشؤون الخارجية.
في أي حال، اعتُبِرت المناظرة محطة مهمة في مسيرة ساندرز. وهو بعدما عُرف لعقود منتقداً للمؤسسة الحزبية، صار في موقف المدافع، في حين تخشى المؤسسة الديمقراطية من تمكُّن اليساري المسنّ، من التقدم على منافسيه الديمقراطيين، خصوصاً مع اقتراب يوم «الثلاثاء الكبير». وقال بلومبرغ إن كلاً من ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يعتقد أن ساندرز هو الحلقة الأضعف لدى الديمقراطيين لمواجهة ترمب.
وفي الأسبوع الماضي، أقر ساندرز بأن مسؤولين استخباراتيين أبلغوه بأنهم سيطلعونه على أن روسيا تحاول التدخل في الانتخابات لصالحه.


مقالات ذات صلة

ترمب: على إسرائيل إنهاء الحرب في غزة بسرعة

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (أ.ف.ب)

ترمب: على إسرائيل إنهاء الحرب في غزة بسرعة

دعا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إنهاء الحرب في غزة بسرعة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس بايدن وزوجته جيل بايدن خلال فعالية انتخابية في ولاية جورجيا الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

حملة بايدن تكثف الجهود لحشد الأصوات في الولايات المتأرجحة

بعد فوزه بترشيح الحزب الديمقراطي، يُكثّف الرئيس الأميركي جو بايدن نشاطه الانتخابي، مُعيراً اهتماماً خاصاً للولايات المتأرجحة.

هبة القدسي (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز)

بايدن يمزح بشأن عمره ويشيد بخطاب حالة الاتحاد «الناجح»

ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن نكاتاً حول عمره وحالته الذهنية خلال تجمع مأدبة عشاء بواشنطن.

إعلام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب خلال تجمّع حزبي في فانداليا بولاية أوهايو (أ.ف.ب)

ترمب يعد الانتخابات المقبلة «أهم موعد» في تاريخ الولايات المتحدة

وصف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب انتخابات الرئاسة الأميركيّة بأنّها ستكون نقطة تحوّل في تاريخ البلاد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ صورة مركبة تجمع دونالد ترمب (يمين) ومايك بنس (أ.ف.ب)

بنس لن يدعم ترمب في الانتخابات الرئاسية

أعلن مايك بنس، الذي شغل منصب نائب الرئيس دونالد ترمب لمدة أربع سنوات، أمس (الجمعة)، أنه لن يؤيد رئيسه السابق قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

جهود الأردن لإغاثة قطاع غزة في مرمى «القصف» والتشكيك

مواد إغاثية منقولة جواً (الشرق الأوسط)
مواد إغاثية منقولة جواً (الشرق الأوسط)
TT

جهود الأردن لإغاثة قطاع غزة في مرمى «القصف» والتشكيك

مواد إغاثية منقولة جواً (الشرق الأوسط)
مواد إغاثية منقولة جواً (الشرق الأوسط)

لم يشفع للأردن تحرّكه المبكّر ومواقفه السياسية والدبلوماسية والإغاثية الحثيثة لمواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وخلّف للآن حصيلة غير مسبوقة من الضحايا في تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، لتواجه هذه التحركات والجهود بحملات «موجّهة» عبر وسائل التواصل الاجتماعي «مشككة» بسلامة نية الدوافع وراء مد جسر جوي إغاثي، دشّنه سلاح الجو الأردني الملكي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لكسر الحصار عن القطاع. التشكيك لم يقتصر على جهود مد الجسر الجوي الذي دفع بدول عربية وأجنبية للمشاركة فيه، بل شملت حملات «التشكيك والشيطنة»، مختلف المواقف الدبلوماسية والسياسية، رغم المحاولات الرسمية الكبيرة لإعادة مسار القضية الفلسطينية السلمي. ولم يكن ظهور زوجة العاهل الأردني، الملكة رانيا العبد الله، في مقابلة ثالثة لها قبل أيام عبر شبكة «سي إن إن» CNN، من قلب قاعدة الملك عبد الله الجوية التي تُعدّ مركزاً لانطلاق عمليات الإنزال الجوية للمساعدات إلى غزة، سوى محطة جديدة للمشككين، حيث تحدثت الملكة بصراحة عن أولوية وقف إطلاق النار، وأن عمليات الإنزال «هي إجراءات يائسة لمعالجة الوضع البائس» في القطاع الذي يضربه الموت جوعاً.

العاهل الأردني عبدالله الثاني يشرف على عمليات إنزال الإغاثة (الشرق الأوسط)

تدرك السلطات الأردنية الحاجة المضاعفة إلى تكثيف الجهود الإغاثية للقطاع لإنقاذ أكثر من 2.5 مليون مواطن غزّي يتعرضون لحرب الجوع والقنابل، وسط تمسك مسؤوليها بتقديم المتاح على الأرض للقطاع وعبر مختلف الوسائل براً وجواً. وبعيداً عن استعراض المواقف، تصرّ عمّان على كسر حصار غزة، وإضعاف التعنت اليميني المتطرف الحاكم في تل أبيب، على ما أفادت مصادر محلية علّقت على «رمزية ما يفعله الأردن، رغم محدوديته».

وحقاً، حمل الأردن الرسمي خلال أشهر الحرب الخمسة على عاتقه مسؤولية البحث عن ثغرات لإيصال المساعدات الإغاثية إلى غزة. وكسر الحصار الجوي على القطاع بطائرات محمّلة بالأدوية والغذاء التي أنزلها بالمظلات، لتقف إلى جانب هذه الجهود دول عربية وأوروبية، قبل أن تلتحق الولايات المتحدة بسلاسل التزويد بالإغاثة عبر إنزالات جوية؛ معلنة يأسها من القدرة في تحقيق وقف فوري للنار، بحسب ما يرى مراقبون.

وفي سياق ما تسعى له عمّان، نقلت مصادر مطلعة إلى «الشرق الأوسط» عن اجتماعات برئاسة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وحجم انفعاله من إحباط جميع محاولات إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، و«خيبة أمله» من ضعف جهود واشنطن في الضغط على حكومة الحرب الإسرائيلية، سواء لجهة الوقف الفوري لإطلاق النار، أو لصالح ضمان وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة، بشكل مستدام.

ولعل المصادر ذاتها، أوضحت لـ«الشرق الأوسط» مسوّغات عدم شمول الأردن بزيارة الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة، في زيارته السادسة والأخيرة إلى الشرق الأوسط قبل نحو شهر. وتحدثت المصادر أيضاً، عن لهجة رسمية حادة استخدمها عبد الله الثاني خلال لقاءاته مع قيادات أميركية رفيعة المستوى في زيارته الأخيرة إلى واشنطن، وحديثه مع قيادات في الكونغرس، حيث قال أحدهم عن ما صرّح به الملك عبد الله إنه «يتحدث بكلام لا نريد سماعه، لكنه يصارحنا في حديثه عن الواقع كما هو».

حملات تشكيك وإساءة

ولكن، على الرغم، توالي الجهود الأردنية على صعيد تقديم المساعدات العاجلة والفورية للمدنيين في قطاع غزة، قوبلت الجهود بحملات «تشكيك وإساءة» أطلقت عبر منصات التواصل الاجتماعي. وكان منها اتهامات ومزاعم ضد الأردن عن سعيه «لخلق مبررات للاحتلال الإسرائيلي بإدامة الحرب»، وإيصال مساعدات لا تكفي للقطاع».

وتشير عمليات الرصد من جهات مختلفة، إلى أن هذه الحملات «منظمة صادرة من حسابات خارج الأردن». لكنها باتت «مقلقة ومثيرة للفتن» - بحسب مصادر أردنية - من شأنها «إشاعة البلبلة» والتأثير على الجبهة الداخلية في ظل وجود أكثر من مليونَي لاجئ فلسطيني يقيمون في البلاد؛ الأمر الذي «يعدّ» مصلحة إسرائيلية ترى في إيقاف الجهود الدبلوماسية الأردنية هدفاً استراتيجياً، وتخفيفاً من حملات التحريض ضدها.

في المقابل، تتمسك القيادة الأردنية باستمرار هذه الجهود في ظل انعدام وسائل الحياة في قطاع غزة، في وقت تعرّي هذه الجهود «سوأة الاحتلال وهمجيته» المغرق في عمليات التجويع الممنهج والقتل البطيء بالتزامن مع عمليات القصف والاغتيالات للمدنيين العزّل.

الملكة رانيا على شاشة "السي إن إن" ("السي إن إن")

حسابات وهمية إسرائيلية

!وفي هذا الصدد، تحدثت هنا مصادر متطابقة لـ«الشرق الأوسط»، بأن حسابات «وهمية بمرجعية إسرائيلية» تخوض معركة إثارة الفتنة، وثمة حسابات أخرى «بمرجعية إيرانية» تؤدي الدور عينه. هذا يعني تقاطع مصالح العدوين (إسرائيل وإيران) في استهداف استقرار المملكة، وتسلّل الفوضى التي تعيد ترتيب أولويات مراكز القرار محلياً، والتركيز فقط على الملفات الداخلية، حيث «تستفيد طهران من (تكذيب) الموقف الرسمي الأردني أمام الشارع»، كما تستفيد تل أبيب من «تخفيف حدة هجوم عمّان الدبلوماسي»، وفقاً للمصادر. إلا أن «تحييد الثابت في العلاقة بين عمّان وتل أبيب من بوابة التنسيق الأمني الوثيق بينها» غير ممكن وفقاً للمصادر أيضاً، لتظل متمسكة بموقفها من قطع الاتصال سياسياً مع حكومة اليمين المتطرف.

وحقاً، لدى الجهات المسؤولة الأردنية اطلاع واسع على مصادر الحملات الإلكترونية ضدها، لكنها «تتغاضى مرحلياً» عن تسمية الأطراف التي ترعاها بحسب ما علمت «الشرق الأوسط». بيد أنها في الوقت ذاته، بحسب مراقبين، لا تواجه هذه الحملات بشكل فاعل ومؤثر، في حين يقرّ مسؤولون أردنيون «بضعف» ردود الفعل في مواجهة الحملات المنظمة للتغريدات والمنشورات المسممة الآتية من منصات التواصل الاجتماعي. وهي تزعم وتروّج «لتناقض المواقف الأردنية»، بحجة استمرار تصدير البضائع التجارية عبر الحدود البرية من الأردن إلى إسرائيل، عبر تجار أردنيين أو شركات أخرى، محمّلة الحكومة الأردنية مسؤوليتها عن ذلك.

وتؤكد مصادر مطلعة، أن كل المحاولات «لن تعرقل الجهد الأردني عما يقوم به تجاه الأشقاء»، حيث يتركز «الهجوم المنظم»، وفق تأكيدات رسمية لـ«الشرق الأوسط»، بالحسابات الخارجية وأخرى داخلية في منصتَي التواصل الاجتماعي الأشهر «فيسبوك» و«إكس». وتتزامن هذه الحملات مع مسيرات تُنظم كل يوم جمعة، تطالب بوقف خطوط التجارة مع دولة الاحتلال، على الرغم من تأكيد وزراء عاملين بأن التجارة مع إسرائيل مرتبطة بعقود مع تجار أردنيين، وليس مع الحكومة، وأن مطالب المسيرات يجب أن توجه للتجار وليس للدولة.

الحركة الإسلامية... وبرزت احتجاجات عدة تطالب الحكومة الأردنية بـ«إغلاق «الجسر البري» - وفق تسمية نشطاء وقوى إسلامية - ونظّمت «الحركة الإسلامية» في الأردن وقفات واحتجاجات في مناطق مختلفة من المملكة منددة بالسياسة الرسمية. وأعلنت «الحركة» تنظيم حراك يومي عقب صلاة العشاء في ساحة الجامع الكالوتي، بمنطقة الرابية العمانية، حيث يقع مقر السفارة الإسرائيلية.

وبحسب مصادر أردنية مطلعّة، فإن «الحركة الإسلامية» التي «تشاغب» على الموقف الرسمي، «تبالغ بمديح حلفاء لها لم يقدّموا أي فعل حقيقي لصالح وقف الحرب على غزة سوى الاستعراض»، في حين «أوقفت» السلطات الأردنية عدداً من النشطاء، وفقاً لتقرير لمنظمة العفو الدولية صدر الشهر الماضي؛ بسبب دعواتهم إلى تنفيذ احتجاجات عامة أو إضرابات أو بسبب مواقف منددة بالاتفاقيات المبرمة مع إسرائيل.

"حسابات وهمية بمرجعيات إسرائيلية وإيرانية تخوض معركة إثارة الفتنة"

جهود إغاثية...أرقام وإحصاءات

مدّ الأردن منذ بداية العدوان على غزة جسوراً جوية وبرية. وكانت أول طائرة تابعة لسلاح الجو الملكي كسرت الحصار في 6 نوفمبر الماضي، واستطاعت إنزال مواد إغاثية عاجلة للمستشفى الميداني العسكري الأردني في شمال غزة.

تلك الطائرة حملت معها دلالة عسكرية استثنائية، عندما قادها رئيس هيئة الأركان المشتركة اللواء الطيار يوسف الحنيطي، وقد وُصفت تلك الرحلة حينها «بالمغامرة الخطرة». وتبع ذلك إنزال جوي على كنيسة القديس بروفوريس عشية عيد الميلاد المجيد.

وقبل أن تصبح طائرات الإغاثة مهمة أردنية يومية، وخبراً دائماً على شاشات التلفزيونات، كان قد شارك في تنفيذ الإنزالات الإغاثية على غزة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، رغم مخالفة ذلك ضمانات استقرار النظام السياسي وأمنه على حساب رحلة محفوفة بالمخاطر، على الرغم من إبلاغ الجانب الإسرائيلي بالأمر. وكذلك شاركت الأميرة سلمى بنت عبد الله الثاني في واحدة من تلك الرحلات، ليحمل ولي العهد الأردني الأمير الحسين مستلزمات المستشفى العسكري الثاني في غزة وفي منطقة خان يونس، ويطير بها إلى مطار العريش مشرفاً على إدخال معدات المستشفى عبر معبر رفح.

لقد دفعت خطوة الملك الأردني، في إنزال المواد الطبية على المستشفى العسكري الأردني بشمال غزة في بداية الحرب على تطوير هذا الجهد، لتصبح عمليات إنزال المساعدات الإنسانية والإغاثية بالمظلات، مشهداً يومياً. وهذا رغم تعقيدات المهمة من النواحي العسكرية والأمنية، حيث عكفت القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي) وسلاح الجو على فتح الباب أمام الطواقم الصحفية بمرافقة طواقمها في عمليات الإنزال للتوثيق، ونقل وقائع وتحديات عمليات الإنزال من شمال القطاع إلى جنوبه، وعلى ارتفاعات متباينة.

إحصائياً، تفيد أرقام العمليات البرية والجوية في إيصال المساعدات إلى أهالي قطاع غزة عبر سلاح الجو الملكي، بأن 44 إنزالاً جوياً أردنياً بالمساعدات نُفّذ حتى يوم الخميس الماضي على قطاع غزة، ونُفذ 59 إنزالاً جوياً بالتعاون مع دول صديقة وشقيقة، وفق بيان صدر عن القوات المسلحة الأردنية. في حين أن 472 شاحنة دخلت إلى غزة آتية من الأردن عبر جسر كرم أبو سالم البري محملة بمواد إغاثية يبلغ وزنها (4812 طناً)، بدعم من الأردن ومؤسسات إغاثة دولية ودول صديقة وشقيقة.

مقال غاضب لمستشار الملك السابق

وأمام هذه الجهود، وتكرار «حملات التشكيك والافتراء» هذه كما تصفه مراكز القرار الرسمي، كتب فهد الخيطان، الخارج لتوه من موقعه مديراً لإعلام القصر ومستشاراً لمطبخ القرار، مقالاً رد فيه بغضب على حملات «التشكيك والتشويه». إذ كتب: «القول إن في هذا الأسلوب من إيصال المساعدات تواطؤاً مع الحصار الإسرائيلي على القطاع فهو ضرب من الجنون... إن الطائرات التي تلقي المساعدات من السماء تفضح جرائم الاحتلال أمام العالم وتظهر وجهه الوحشي وهو يحاصر شعباً بأكمله، وتشكل وسيلة للضغط عليه وعلى داعميه للتوقف عن حرب الإبادة التي يرتكبها».

وكشف الخيطان في مقالته، التي نشرها في يومية «الغد» عن كواليس قرار الأردن في تنفيذ الإنزالات الجوية، موضحاً أن الأردن «لجأ للضغط عبر كل القنوات الدبلوماسية والإعلامية لفتح طريق بري للشاحنات من أراضيه عبر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل مع قطاع غزة، وتمكن فعلاً من إدخال عدد من الشاحنات». وأردف: «إن حكومة الاحتلال عادت وأغلقت هذه النافذة إمعاناً منها في حصار أهلنا في غزة وتجويعهم لدفعهم إلى هجرة القطاع، ورداً لئيماً على موقف الأردن المتصاعد ضد العدوان الوحشي».

وذكر الخيطان أن الملك عبد الله الثاني اتخذ «قراره بالبدء بإنزال شحنات الدعم الطبي للمستشفى الميداني الأردني في شمال غزة، حيث كانت المعارك على أشدها هناك». وشدّد بحكم موقعه السابق الذي غادره نهاية العام الماضي على «أن الملك اتخذ قراره كما قلت ولم يطلب إذناً من أحد وطلب من المسؤولين المعنيين إبلاغ الجانبين الإسرائيلي والأميركي بذلك، وكان له ما أراد».

ثم أضاف أن إنزال شحنات الدواء للمستشفى الأردني بنجاح «هي التي دفعت بالملك للعمل على توسيع التجربة لتشمل إنزال المساعدات الغذائية والطبية جواً لأهلنا في غزة. لم يكن هذا النهج بديلاً عن نقل المساعدات برا للقطاع، وهي بالتأكيد الطريقة الأنجع، لكن حين سُدت الطرق في وجهنا كان لا بد أن نتمسك بهذا الخيار الوحيد والمتاح».

أقلام صحافية بمواجهةشيطنة التواصل الاجتماعي

وفي إطار محاولات الرد على جانب من الحملات الإلكترونية المموّلة من الخارج، والتي تلقى رواجاً في الداخل، سارعت أقلام صحافية للدفاع عن الموقف الرسمي ولمناقشة الأزمة من حيث الأسباب والنتائج. وكان من أبرز ما كُتب كمدخل لمناقشة النتائج ما كتبه الصحافي مالك العثامنة في يومية «الغد»، عن الإنزالات «لم يكن الأردن يبحث عن بطولات استعراضية، ولا كانت تلك الإنزالات موجهة للاستهلاك المحلي، لكنها كانت رسائل مثقلة بالرمزية تبحث عن (مرسل إليهم) وصناديق بريد غربية مقفلة بسبب تراكم (المواقف المسبقة) والتضليل الإسرائيلي». وتابع: «وسائل التواصل صارت قطيعاً من أحصنة طروادة الخشبية بيننا، وفي جوفها ما يريب ويجعلنا نتلمس ونتحسس».

ومن حيث الأسباب، طرح الصحافي ماهر أبو طير، أسئلة قد تذهب لمعالجة الأسباب بالعمق من خلال إجابات صريحة، فهل المشكلة في الأساس «مشكلة الإعلام المحلي وإخفاقاته، وعدم وجود مشروع إعلامي عربي للأردن؟ أم أنها مشكلة المطبخ الإعلامي في الدولة، والتباينات فيه؟ أم أنه مشكلة الشخصنة وغياب المبادرة؟ أم أنها مشكلة الاعتياد، وعدم فهم كُلف الإساءات التي تنهمر علينا، حيث نكتفي كل مرة بالحديث عن المؤامرة، وأولئك الذين يستهدفون الأردن، دون أن نقدم حلاً لوقفهم أيضاً؟ أم أنها مشكلة عمّان السياسية التي لا تريد أن تقف عند كلفة هذه الحملات، ولا تريد تبني أي مشروع؟».

طائرة شحن أردنية تشكل جزءاً من الجسر الجوي (الشرق الأوسط)

«مأكول مذموم» تتسبب في دعوات للتوجه للداخل

> في سياق الرد على حملات «التشكيك والتشويش» بمواقف الأردن الرسمية في مواجهة العدوان الإسرائيلي الذي خلّف أكثر من (30) ألف شهيد، ومئات آلاف الجرحى وملايين النازحين، خرجت أصوات نخبوية تطالب بالاهتمام بالداخل الأردني، وإعادة ترميم الشرخ الذي أحدثته العواصف الإلكترونية على منصات التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض. والتي وضعت الأردن على خريطة منصات التواصل الاجتماعي في «حرب افتراضية»، لكن ثمة مخاوف من انتقالها واقعياً.النخب السياسية تحدثت عن مفهوم الموقف الرسمي «المأكول والمذموم»، وتساءلت عن استهلاك جميع الأوراق السياسية خلال الحرب على غزة، ولم تُجب عن سؤال: ماذا تبقى لدينا من أدوات في حال تدهورت الأوضاع في الضفة الغربية والقدس؟!وهنا تسرّبت أحاديث عن صالونات سياسية محلية، تقول إن البرنامج الوطني خلال العام الحالي سيشهد انتخابات نيابية، ستجرى وفق أحكام قانون جديد خصص نحو ثلث مقاعد مجلس النواب للأحزاب. وأن هناك أحزاباً تشكلت تحتاج لاختبار مع قواعدها الانتخابية، ومدى جدوى تنفيذ مخرجات لجنة التحديث السياسي بعد تبني الدولة للتعديلات الدستورية الموصى بها وقانوني الانتخاب والأحزاب.وبحسب ما رصدته «الشرق الأوسط» من تلك الحوارات البعيدة عن الإعلام، شهدت تلك الحوارات انقسامات في الرأي وتباينات في التقدير؛ بين ضرورة إجراء الانتخابات بوصفها استحقاقاً دستورياً، وضرورة تأجيلها خوفاً من استحواذ لون سياسي واحد (جماعة الإخوان المسلمين غير المرخصة وذراعها السياسية حزب جبهة العمل الإسلامي) على حصص مضاعفة من المقاعد نتيجة استثمارهم حرب غزة على أنها «حملة انتخابية».وأمام الجدل النخبوي، فإن مركز القرار يبدو متأنياً بالإجابة عن المسار الدستوري المتوقع للعام الحالي. ورغم ترجيح إجراء الانتخابات، غير أن تأثيث الخريطة السياسية بقوى حزبية مناظرة للتيار السياسي السائد في البلاد، يحتاج إلى تقييم، كما يحتاج لمساعدة في تجاوز إرث ضعف الثقة بالعمل الحزبي في البلاد. والمخاوف من أن تكون الولادة غير الطبيعية لبعض الأحزاب ستضعف الفكرة برمتها.


أمادو با... «مفتش الضرائب» الخارج من تحت عباءة ماكي سال

امادو با
امادو با
TT

أمادو با... «مفتش الضرائب» الخارج من تحت عباءة ماكي سال

امادو با
امادو با

يؤمن أمادو با، رجل المال و«مفتش الضرائب» السابق الخارج من تحت «عباءة ماكي سال» أن الهدف الوحيد لبرنامجه هو تحقيق «الرخاء للجميع». وهو يقول ويكرر في جولاته الانتخابية، إنه «يعتزم تسريع التحول الهيكلي للاقتصاد، وتعزيز النمو لبناء اقتصاد تنافسي وشامل ومرن يخلق فرص عمل لائقة»، واعداً بـ«خلق أكثر من مليون فرصة عمل بحلول عام 2028».

لقد جاء ترشيح با، للمنافسة على مقعد الحكم في 9 سبتمبر (أيلول) من العالم الماضي، بعد مرور سنة على تعيينه رئيسا للوزراء. وخلال ساعات من إعلان سال ترشيحه، كتب با رسالة نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي، تقول «أتقبل بمسؤولية وتواضع الاختيار الذي اتُّخذ». والواقع أن با، السياسي والخبير الاقتصادي الاشتراكي، المرشح الأوفر حظا في الانتخابات المقبلة رغم قصر حملته الانتخابية التي تسارعت خطاها عقب إعفائه من منصبه كرئيس للوزراء في 6 مارس (آذار) الماضي. وهو يسعى من واقع خبرته العملية إلى تنفيذ رؤيته الطويلة المدى للسنغال.

خبرة مالية واسعةولد أمادو با يوم 17 مايو (أيار) 1961 في العاصمة السنغالية داكار، وحصل على البكالوريا الفنية عام 1980، ثم درس الاقتصاد في جامعة «الشيخ أنتا ديوب» في داكار، وبعدها حصل على درجة الماجستير في العلوم الاقتصادية.

وفي سن الـ27، تخرّج في المدرسة الوطنية للإدارة (ENAM)، وهو حاصل أيضاً على الدبلوم العالي في المحاسبة، وسبق له تدريس المحاسبة لعدة سنوات في «المدرسة الوطنية للإدارة» منذ عام 1992، وكذلك عمل في التدريس والتدريب أيضا خلال الفترة ما بين عامي 1995 و2000، في مركز غرب أفريقيا للتدريب والدراسات المصرفية، التابع للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا.

با رجل عملي ميداني معروف في عالم الاقتصاد، بدأ مسيرته المهنية من مدينة ديوربل عام 1989 بوظيفة مفتش ضرائب متدرب. وبعدها عيّن في وظيفة كبير مفتشي القطاع الأول لضريبة القيمة المضافة في المديرية العامة للضرائب بالعاصمة.

ثم تولى بعد ذلك مهام مفوض مراقب التأمين في إدارة التأمين بين عامي 1992 و1994، فمفتش مدقق في قسم التدقيق الضريبي والتحقيقات حتى عام 2002. ولقد ساعد با في إصلاح النظام الضريبي السنغالي، ما أدى إلى زيادة إيرادات الدولة وتمويل مشاريع التنمية المختلفة.

لاحقاً، استمرت المسيرة صعوداً، فرقي با إلى منصب المدير العام للضرائب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى 2 سبتمبر (أيلول) 2013، حيث عين وزيراً للاقتصاد والمالية في السنغال.

وواقع الأمر، أن فترة عمل با وزيراً للاقتصاد، التي امتدّت 6 سنوات حتى عام 2019، تميزت بالإدارة الصارمة للمالية العامة، الأمر الذي أدى إلى خفض الدين الوطني، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي للبلاد.

خلال تلك الفترة ذهب با إلى فرنسا مرتين عامي 2014 و2018، ووقف أمام «نادي باريس» مدافعا عن خطط الحكومة السنغالية وبرنامجها الاقتصادي، وكذلك برنامج الحوكمة للنظام الحالي، وهو «إطار مرجعي جديد يهدف إلى قيادة السنغال نحو النمو بحلول عام 2035»، واستطاع أن يحصل على عدَّة وعود بالتمويل والاستثمارات. وهنا، يقال إن شعبية با المتزايدة في تلك الفترة كانت سببا في تركه وزارة الاقتصاد، ليتولّى حقيبة الخارجية من 2019 إلى نهاية 2020. ورغم قصر فترة عمله على رأس وزارة الخارجية، فإن البعض يرى أنه «بنى علاقات متينة مع عدة دول وعزّز مكانة السنغال على الساحة الدولية».

رئاسة الحكومة

تولى أمادو با رئاسة الحكومة السنغالية في سبتمبر (أيلول) 2022، بعدما أعاد الرئيس ماكي سال هذا المنصب خلال ديسمبر (كانون الأول) 2021. ويذكر أن المنصب كان قد ألغي في أبريل (نيسان) 2019، عقب انتخابات تشريعية متوترة، خسر فيها حزب سال الحاكم غالبيته الكبيرة في البرلمان. وعلى الأثر، عزز با موقعه وحضوره في المناصب الحكومية، وأصبح شخصية سياسية بارزة، يراه من يعملون تحت إدارته «مديراً متمكناً وخبيراً في السياسات الاقتصادية». وحقاً، يبدو الرجل هادئ الطباع، يخفي جسده الضخم في بدلات أنيقة، وتعطيه النظارات مظهر الأكاديمي أو رجل الدولة التكنوقراط، بحسب مراقبين.

مناصروه ومحبوه يتفقون على اعتباره «سياسياً بارعاً»، صقل مهاراته كزعيم اشتراكي في ظل نظام الرئيس الأسبق عبده ضيوف خلال الفترة ما بين عامي 1980 و2000، وكانت له مسيرة مهنية في أعلى المستويات الحكومية. إلا أن البعض يتساءل عما إذا كان سيتمكن من التخلص من بدلته التكنوقراطية. وفي تقرير نشرته صحيفة «لوبزيرفاتور»، أخيرا، قالت إن «با ليس جيد التواصل، لأنه تكنوقراطي أكثر من اللازم». وأضافت أنه رغم «مهارته الاقتصادية يفتقر إلى الخبرة كقائد سياسي للحزب، ما قد يشكل قصوراً في حملته الانتخابية».

دعم ماكي ساللكن با، في المقابل يحظى بدعم كبير من الرئيس سال، الذي وعد ببذل قصارى جهده لدعم الغالبية وتحقيق النجاح في الانتخابات الرئاسية المقبلة. إذ قال سال، في بيان إعلان ترشيح با إن «معايير الاختيار استهدفت مهارات مهنية ومهنة متنوعة... قرارنا كان مدفوعاً بصفات التواضع والاستماع للقيادة. وبهذه الروح اخترنا أمادو با».

الأمر نفسه أكده، وفي اليوم ذاته، رئيس الوزراء السنغالي السابق مصطفى نياسي بقوله، «بعد مشاورات واسعة النطاق، وهي مهمة كانت معقدة وصعبة... بما في ذلك النظر في إجراء انتخابات تمهيدية رفضها المرشحون المهتمون والقادة في الائتلاف، اعتمدنا اختياراً توافقياً وجماعياً».

وبالنسبة لبا نفسه، رغم إدراكه أنه لم يكن مرشحاً بالإجماع عن الائتلاف الحاكم، فإنه يبدو أنه واثق من قدرته على حسم المعركة الانتخابية في الجولة الأولى من الاقتراع. ولذا بدأ على الفور في حشد المؤيدين، وقال في أحد خطاباته «أناشد رفاق الدرب الشعبي الثوري والائتلاف الحاكم والمؤيدين وجميع السنغاليين الذين يؤمنون بقيم الجمهورية، أن يتّحدوا من أجل مواصلة وتسريع مسيرة بلادنا نحو التقدم». وضمن هذا السياق، يرى مراقبون أن كون با تكنوقراطياً يؤمن له شبكة كبيرة من العلاقات قد تكون مفيدة لائتلاف «بينو بوك ياكار» الحاكم. ومن الممكن أن تؤدي قدرته على حشد الدعم السياسي والاقتصادي إلى تعزيز تماسك التحالف وتوسيع قاعدته الانتخابية.

تحت عباءة سال

في المقابل، أثار إعلان ترشيح با ضجة عند الغالبية، إذ عارض البعض تأييده على أساس أنه إضافة إلى الحزب في اللحظة الأخيرة، بحسب تقرير نشره موقع «أفريكا ريبورت»، خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. لكن با نفسه لا يبدو قلقاً... بل يقول «هناك الكثير من القضايا المُلحّة التي تحتّم علينا تجنيب بلادنا الدخول في حملات سياسية تستغرق وقتاً طويلاً».

أيضاً، من خلفيات انتقاد البعض لترشيحه، كون با «يشكّل استمراراً للسياسة الاقتصادية التي ينتهجها سال». حتى إن الرئيس السنغالي قال، في بيان إعلان الترشيح إن «با سيكون شخصية موحدة داخل حزبه والائتلاف، وسيضمن استمرارية السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية».

كذلك، بينما ترى قوى المعارضة أن «كل ما سيفعله با هو إدامة سياسة سال في التعامل مع الموارد العامة للدولة... التي لم تكن موفقة»، وفق «أفريكا ريبورت»، فإن ثمة من يعد عمله مع سال لسنوات طويلة «منبعاً للثقة». وفي حفل أقامه با في ديسمبر الماضي، وضم مجموعة من أنصاره، قالت إحدى الحاضرات، التي سافرت لحضور الحدث من مباو في ضواحي داكار، لإذاعة فرنسا الدولية «كان أمادو با مع رئيس الجمهورية لفترة طويلة جداً... وبالتالي، لدي ثقة به». والمعنى ذاته كرره آخر بقوله «إنه رجل يعرف كيف يمارس السياسة. إنه مثقف. وهو يعرف ما يفعله. ولهذا السبب نحن هنا من أجله».

وعود وتحديات

من جانب آخر، بينما يحفل تاريخ با المهني بإنجازات طيبة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فإن خصومه السياسيين يوجّهون له تهم التربح من وظيفته، الأمر الذي يحتم عليه مواجهة هذه الصورة النمطية السلبية التي رسمها له معارضوه حول «الموظف المدني الملياردير». وما يذكر في هذا الصدد، أن با لم يصمت إزاء تهم خصومه وانتقاداتهم، بل رد عليها مشدداً على أنه أنجز مهمته كرئيس للوزراء، وكان دائما في خدمة الرئيس، متابعاً «الشيء المهم هو أن تكون فعالاً، وليس أن تظهر للجميع ما تفعله أو لا تفعله».

أيضاً، يظهر بوضوح أن في رأس ما يهمه أن يكون «المرشح الموحِّد من أجل سنغال مستقرة ومزدهرة وآمنة». وهو يروي أنه منذ دخل سلك الخدمة العامة كان «خادماً للدولة» في مجالات الضرائب والمالية العامة والشؤون الحكومية والاقتصاد والدبلوماسية». ثم يضيف «لقد فهمت ضرورة إعطاء الأولوية لتوقع المشاكل، واحترام كرامة الإنسان، وحرمة العمل المنجز، والحفاظ على الموارد العامة، والتوزيع العادل للثروة، وتنمية الإنسان دون تمييز».

انتخابات في ظل التوترات السياسية

في أي حال، يأتي ترشيح أمادو با للانتخابات الرئاسية في ظل توترات سياسية داخلية. فمنذ عام 2021 اهتزت السنغال تحت ضغط الاضطرابات السياسية والقضائية التي أدت إلى استقطاب المجتمع. وأدت المظاهرات وقضايا الفساد إلى اشتباكات بين متظاهرين والسلطة، ما يضع على با عبء تخفيف هذه التوترات، وتعزيز الحوار السياسي، كعنصر حاسم في حملته الانتخابية.

كذلك خارج حدود السنغال، تنتشر التهديدات الإرهابية في عدد من البلدان المجاورة، والسنغال ليست بعيدة عن هذه المخاوف. ولهذا السبب غدت مسألة الأمن القومي قضية مركزية في الانتخابات الرئاسية، وهو ما يحتم على با العمل على ضمان استقرار وأمن البلاد. وحالياً، يعتزم المرشح الرئاسي، بالفعل، التركيز على «الثروة البشرية» لتعزيز قدرة المجتمعات على الصمود في مواجهة مخاطر الكوارث.

وهو يعد، في برنامجه الانتخابي، حال فوزه بالرئاسة، بالعمل على «تحقيق الاستقرار والأمن معتمداً ممارسات الحكم الرشيد»، التي يقول إنها «تساهم في فعالية وكفاءة السياسات العامة».

أكثر من هذا، رغم تمسك با حتى الآن بشعار «مرشح الاستمرارية»، فإنه يؤكد على «ضرورة إحداث تغيير حقيقي والانفصال عن الماضي، مع الحفاظ على مكتسبات الوطن والحفاظ على قيمه وتراثه». ولذان في بيانه الانتخابي، وعد بأن 63.5 في المائة من سياسة الإصلاح ستركز على تطوير البنية الأساسية وخدمات الطاقة، والزراعة، والصناعة، والبنية الأساسية والخدمات الخاصة بالنقل البري.

ووفقا له، فإن تكلفة مشاريع وبرامج الإصلاح التي يعتزم تنفيذها حتى عام 2028 تقدر بـ27.182 مليار فرنك أفريقي، منها 14.511 مليار للقطاع العام (الدولار بـ599 فرنك أفريقي). رغم أنه لم يكن مرشحاً بالإجماع عن الائتلاف الحاكم

يبدو أمادو با واثقاً من قدرته على حسم المعركة الانتخابية

في الجولة الأولى من الاقتراع


أبرز التحديات التي تواجه رئيس السنغال المقبل

اضطرابا في داكار (آ ب)
اضطرابا في داكار (آ ب)
TT

أبرز التحديات التي تواجه رئيس السنغال المقبل

اضطرابا في داكار (آ ب)
اضطرابا في داكار (آ ب)

> ينتظر السنغاليون إجراء الانتخابات الرئاسية المؤجلة يوم 24 مارس (آذار) الجاري، ليختاروا خليفة للرئيس الحالي ماكي سال الذي يحكم البلاد منذ عام 2012.

من بين 19 مرشحا يتنافسون على مقعد الحكم، لكن سيكون على الرئيس المقبل التعامل مع عدة قضايا وتحديات رئيسة على رأسها:

نقص الوظائف

تعد قضية البطالة بين الشباب إحدى القضايا الملحة في السنغال التي كافحت الإدارات المتعاقبة للحد منها، في ظل نمو متزايد لعدد السكان، حيث أصبحت أعمار أكثر من 60 في المائة منهم تحت سن 25 سنة، وفقا لإحصائيات رسمية. وبلغت نسبة الشباب السنغالي خارج سوق العمل والتدريب والتعليم 35 في المائة عام 2019. ثم إنه أدت التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة «كوفيد - 19» إلى زيادة الضغط على سوق العمل. وصارت البطالة ومعها نقص فرص العمل من أهم أسباب بروز المعارضة، واستحواذها على دعم الشباب.

الرئيس ماكي سال (آ ف ب)

تكلفة المعيشة

أضرت الصدمات الخارجية، من جائحة كوفيد-19، إلى الحرب الروسية الأوكرانية، بمعدلات النمو الاقتصادي، ما ساهم في زيادة تكاليف المعيشة، في بلد يعد ثلث سكانه البالغ عددهم 17 مليون نسمة فقراء، بحسب بيانات البنك الدولي.

لقد بلغ معدل التضخم ذروته عام 2022، بنسبة 14 في المائة. وقلصت تلك الصعوبات الاقتصادية من شعبية الحكومة، إذ رأى ما يقرب من ثلاثة أرباع السنغاليين أن الحكومة تسيء إدارة الاقتصاد، وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» عام 2023. وأظهر الاستطلاع نفسه أن عدد الأشخاص الذين يعتقدون بأن الوضع الاقتصادي سيئ ارتفع إلى 62 في المائة عام 2022 مقارنة بـ33 في المائة عام 2017.

الهجرة غير الشرعية

تعد الهجرة من التحديات الرئيسة التي تواجه السنغال، ففي ظل أوضاع اقتصادية صعبة، يضطر الشباب للمخاطرة بحياتهم سعياً إلى آفاق أفضل في الخارج. وازدادت الهجرة من غرب أفريقيا إلى أوروبا عبر الطريق الأطلسي بأكثر من الضعفين عام 2023 مقارنة بعام 2022 مع وصول أكثر من 39 ألفا و900 مهاجر غير شرعي إلى جزر الكناري الإسبانية، معظمهم من السنغال وجارتها غامبيا، وفقًا لبيانات وزارة الداخلية الإسبانية. ولا توجد بيانات موثوقة عن عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في رحلة محفوفة بالمخاطر على ظهور قوارب خشبية في المحيط.

إنتاج النفط والغاز

يأمل السنغاليون أن يؤدي إطلاق إنتاج النفط والغاز في وقت لاحق من عام 2024 إلى تعزيز الاقتصاد، وسط تساؤلات حول ما إذا كانت ثروة الموارد الطبيعية ستفيد السكان على نطاق أوسع وتخلق فرص عمل. هذا، وبدا واضحاً تركيز المرشحين خلال حملاتهم الانتخابية على هذه القضية، إذ وعد ائتلاف المعارضة المدعوم من عثمان سونكو بإعادة التفاوض على عقود الطاقة لتعظيم الإيرادات، في حين أكد مرشح الائتلاف الحاكم أمادو با أنه يسعى لتحقيق «الرخاء المشترك».

الاضطرابات السياسية

تعصف التوترات بالسنغال منذ أوائل فبراير (شباط) عندما أثارت محاولة من الرئيس الحالي ماكي سال لتأجيل الانتخابات، التي كان من المقرّر إجراؤها في 25 فبراير، لعشرة أشهر، احتجاجات واسعة النطاق وتحذيرات من المعارضين بأن ذلك سيؤدي إلى «تراجع الديمقراطية»، في بلد تعد واحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارا في غرب أفريقيا. إذ ظل التناوب فيها على السلطة يجري بطريقة سلمية منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960.

ويبدو أن أسوأ ما في الأزمة انتهى بعدما خلص «المجلس الدستوري» إلى ضرورة إجراء التصويت قبل انتهاء ولاية سال في الثاني من أبريل (نيسان) المقبل، وبناءً على ذلك حدّد 24 مارس موعداً لإجرائها.

وبين عامي 2021 و2023، شهدت السنغال أعمال شغب واشتباكات ونهب، قُتل فيها العشرات وجرح مئات واعتقل مئات آخرون، بسبب المواجهة بين الحكومة وأنصار المعارض عثمان سونكو.


نكسة اليسار في البرتغال تعيد ترتيب أولويات اليمين المعتدل الأوروبي

لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
TT

نكسة اليسار في البرتغال تعيد ترتيب أولويات اليمين المعتدل الأوروبي

لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)

القراءة الأولى لنتائج الانتخابات البرتغالية، و«مفصليتها» في المشهد السياسي البرتغالي، ضرورية، ولا سيما مع إمكانية أن تتكرر عناوينها في الانتخابات الأوروبية، مطلع يونيو (حزيران) المقبل. وفي مقدم الاعتبارات أن الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة على الصعيد الداخلي، والظروف الخارجية - من تضخّم وارتفاع في أسعار الفائدة وحروب - كانت وراء تراجع الاشتراكيين الذين، على الرغم من ذلك، تعادلوا تقريباً مع مُنافسهم الرئيس.

الفائز في هذه الانتخابات كان لويس مونتينغرو، زعيم «التحالف الديمقراطي» الذي يضمّ مجموعة من الأحزاب اليمينية المحافظة والوسطية، إلا أن فوزه بفارق ضئيل ينذر بوضع سياسي مضطرب وضبابي، ذلك أن حصوله على الغالبية المطلقة في البرلمان مشروط بائتلاف مع الحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي أسّسه آندريه فنتورا عام 2019، والذي كان المنتصر الأكبر في هذه الانتخابات.

ومع أن كثيرين في «التحالف الديمقراطي» يؤيدون مثل هذا الائتلاف؛ رغبة بإعطاء الحكومة المقبلة «قاعدة برلمانية» تؤمّن لها الاستقرار والاستدامة حتى نهاية ولايتها - وأيضاً لأسباب عقائدية - أوضح مونتينغرو، ليلة صدور النتائج الأولى للانتخابات، أنه سيبقى على الوعد الذي قطعه في الحملة الانتخابية برفض الائتلاف مع المتطرفين. لكن مونتينغرو يعرف أيضاً أن مثل هذه الوعود التي قطعتها قبله أحزاب أوروبية أخرى سقطت أمام التعقيدات التي كانت تعترض تشكيل الحكومات. وبالتالي، فمهمته ستكون في غاية الصعوبة من غير الاعتماد على دعم اليمين المتطرف.

آنا مينديس (موقع الحكومة البرتغالية)

تقدم «شيغا» الكبيرالنصر الواضح الذي حصده حزب «شيغا»، يوم الأحد الماضي، بحصوله على ما يزيد عن مليون صوت، قد لا يعني بالضرورة أن 18 في المائة من البرتغاليين عنصريون ويكرهون الأجانب، بل إن ثمة نسبة عالية من الناخبين ناقمة على الأحزاب السياسية التقليدية التي تتعاقب على الحكم منذ عودة الديمقراطية.

من ناحية ثانية، ليس واضحاً حتى الآن ما سيكون عليه موقف فنتورا من الحكومة الجديدة، خصوصاً أنه سارع بعد ظهور النتائج إلى شنّ هجوم عنيف على رئيس الجمهورية مارسيلو دي سوسا، والصحافة ومؤسسات استطلاع الرأي، مشدّداً على حق حزبه بالمشاركة في الحكومة.

أما الزعيم الاشتراكي بيدرو نونو سانتوس فقد اعترف بالهزيمة، عندما اتضحت نتيجة التعادل بين حزبه وبين «التحالف الديمقراطي»، مع الإشارة إلى أن نتائج المقاعد الأربعة المخصصة للمهاجرين لن تظهر قبل بضعة أسابيع، ومن غير المستبعد أن تحمل مفاجأة تضع الحزب الاشتراكي في الطليعة. ولكن، في أي حال، قال سانتوس إن حزبه سينتقل إلى المعارضة، وأنه لن يقف حجر عثرة في وجه تشكيل «التحالف الديمقراطي» حكومةً أقلية دون «شيغا».

الحصيلة بالأرقام...في حسابات الأرقام نال «التحالف الديمقراطي» 79 مقعداً، مقابل 77 للحزب الاشتراكي، ما يترك المشهد البرلماني البرتغالي موزّعاً على ثمانية أحزاب (ثلاثة يمينية وخمسة يسارية)، مع ترجيح واضح لكفّة القوى اليمينية. أما حزب «شيغا» فقد ارتفع عدد نوابه من 12 إلى 48، وأصبح ممثلاً في جميع المحافظات، باستثناء واحدة في الشمال، لا، بل حلّ هذا الحزب المتطرف أولاً في مقاطعة «الغربي» المعقل التاريخي للحزب الاشتراكي، واليسار عموماً. لذا عدّ فنتورا أن نتائج هذه الانتخابات «كرّست نهاية ثنائية الأحزاب في البرتغال»، وأظهرت رغبة واضحة لدى المواطنين في تشكيل ائتلاف حكومي بين التحالف «الديمقراطي» وحزبه، كما تعهّد بـ«تحرير» البلاد من اليسار المتطرف الذي قال عنه إنه «اختطف المؤسسات الديمقراطية».

بهذه النتيجة يغدو «شيغا» - الذي خاض هذه الانتخابات تحت شعار «تنظيف البرتغال» - القوة الثالثة في البرلمان البرتغالي، علماً بأنه أُسس منذ خمس سنوات فقط، ويكاد تمثيله في الحكومات المحلية والبلديات يكون معدوماً.

في الواقع، بينما أظهرت هذه النتائج أن «شيغا» من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأسرع صعوداً في أوروبا، وتجمعه أوجه شبه كثيرة بحزب «إخوان إيطاليا» - الذي رفع نسبة أصواته من 8 في المائة إلى 29 في المائة في الانتخابات الأخيرة التي حملت نتائجها مؤسِّسته جورجيا ميلوني إلى رئاسة الحكومة، توقّف المراقبون عند تزامن صعود «شيغا» مع الاحتفالات بـ«اليوبيل الذهبي» لـ«ثورة القرنفل» التي أطاحت الديكتاتورية البرتغالية في العام 1974.

في هذا السياق، دعت وزيرة الداخلية الاشتراكية آنا مينديس إلى حشد الجهود من مقاعد المعارضة للحكومة الجديدة؛ «لمنع سقوط الديمقراطية بيد اليمين المتطرف». أما رئيس الوزراء السابق أنطونيو كوستا، الذي توقّع، إبّان الحملة الانتخابية، ألا يحقق اليمين المتطرف النتائج الكبيرة التي كانت تتوقعها استطلاعات الرأي، فقد دعا، مطلع هذا الأسبوع، إلى تحليل الأسباب التي أدّت إلى حصول «شيغا» على هذه النتيجة. وأضاف: «يجب أن نحاول معرفة نسبة الأسباب البنيوية، وتلك التي أفرزتها ظروف مرحلية استثنائية ناجمة عن التضخم وارتفاع كبير في أسعار الفائدة؛ أي أن نتبيّن مدى التحوّل العميق في المجتمع البرتغالي من الأصوات المعبّرة عن الاحتجاج والاستياء العميق».

أيضاً، داخل المعسكر الاشتراكي، قالت آنا غوميش، مسؤولة التنسيق بالحزب الاشتراكي، إن «المسؤولية الرئيسة عن صعود اليمين المتطرف تقع على عاتق الحزب الاشتراكي الذي أخفق في معالجة المشاكل الكبرى التي تعاني منها البلاد، خصوصاً في مقاطعة (الغربي) التي كان دائماً معقل الأحزاب اليسارية». ثم تساءلت: «كيف نفسّر فشل الحكومة الاشتراكية في تأمين المياه لمقاطعات الجنوب، طيلة هذه السنوات، علماً بأن ذلك سيؤدي إلى قطعها بشكل جذري لأغراض الزراعة والسياحة اللذين يشكّلان عماد الاقتصاد في هذه المناطق...».

ووصفت غوميش، الزعيم اليميني المتطرف آندريه فنتورا بأنه «انتهازي يدافع عن الشيء وضده بهدف استقطاب الدعم». وهذا رأي يشارك غوميش فيه نونو ألفونسو، نائب الرئيس السابق لحزب «شيغا»، الذي استقال من الحزب عام 2022 على خلاف مع فنتورا، إذ يقول عنه: «ليس يمينياً ولا يسارياً، بل يتحرك بدافع السلطة فقط».

إعلام ومناصرون ... من الانتخابات البرتغالية الأخيرة (رويترز)

تسمية مونتينغرو أمام المشاورات الرئاسيةبعد صدور النتائج النهائية بدأ رئيس الجمهورية البرتغالي مارسيلو دي سوسا مشاوراته مع الأحزاب السياسية؛ تمهيداً لتكليف لويس مونتينغرو بتشكيل الحكومة العتيدة، وهذه مهمة أقرّ زعيم «التحالف الديمقراطي» بأنها ستكون تحدياً كبيراً يتطلب منه قدرات حوارية وإرادة جامعة.

يُذكر أن مونتينغرو كان قد لجأ إلى استعادة صيغة «التحالف الديمقراطي» التاريخية التي سمحت لحزبه بالفوز، للمرة الأولى في الانتخابات بعد نهاية الحكم الديكتاتوري، إلى جانب كل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وحزب الوسط الديمقراطي، والحزب الشعبي، والحزب الملكي. غير أن مونتينغرو لم يفصح حتى الآن، في تصريحاته، عما إذا كان سيدعو للمشاركة في الحكومة حزب «المبادرة الليبرالية»، المعروف بأفكاره الليبرالية المتطرفة في الاقتصاد والسياسات العامة، والذي تربط زعيمَه روي روشا علاقةٌ متينة وصداقة بزعيم «التحالف الديمقراطي»، وكان قد حصل على ثمانية مقاعد في هذه الانتخابات.

على صعيد آخر، على مسافة ثلاثة أشهر من الانتخابات الأوروبية، مطلع يونيو (حزيران) المقبل، تحمل نتائج الانتخابات البرتغالية رمزية عالية، في ضوء المخاوف المتزايدة من صعود اليمين المتطرف على الصعيد الأوروبي. وبالأخص، ما قد يعنيه ذلك للتحالفات التي ستعقدها الأحزاب والقوى المحافظة والديمقراطية المسيحية لحسم المعارك المقبلة في المؤسسات الأوروبية، ورسم خريطة الطريق أمام الاتحاد في السنوات المقبلة. ولا شك في أن المشهد الذي ستتمخّض عنه تلك الانتخابات سيحدد مصير «التفاهم العريض» الذي ساد بين الكتلتين الشعبية والاشتراكية في البرلمان الأوروبي منذ خمسة عقود، والذي يترنّح على شفا الانهيار منذ سنوات.

إن النتائج التي أسفرت عنها انتخابات البرتغال تضع المحافظين الأوروبيين أمام معضلة العلاقات مع اليمين المتطرف ونسج التحالفات معه. وهذه مسألة تثير بلبلة كبيرة في صفوف القوى اليمينية المعتدلة حول تحديد القوى اليمينية المتطرفة الصالحة للتحالف معها، وتلك التي يجب إبقاؤها داخل دائرة الحجْر الصحي لرفضها المبادئ والقيم الأساسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي.

وضمن هذا الإطار، نشير إلى أن الحزب الشعبي الأوروبي كان قد وافق، الأسبوع الماضي، خلال المؤتمر الذي عقده في العاصمة الرومانية بوخارست، على «خريطة طريق» جديدة يكاد مضمونها يتماهى مع مواقف اليمين المتطرف من الهجرة وعدد من مطالب تعديل طرائق العمل، واتخاذ القرار في المؤسسات الأوروبية. ومع أن الاستطلاعات ما زالت حتى الآن تتوقع أن يبقى الحزب الشعبي في صدارة المشهد الأوروبي المحافظ، فإن الأحزاب الرئيسة اليمينية المتطرفة تُواصل صعودها السريع منتقلة من مفاجأة إلى أخرى، كما دلّت الانتخابات البرتغالية التي أسقطت من «المجلس الأوروبي» على صوت الاشتراكي أنطونيو كوستا.

بالتوازي، فإن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الطامحة لتجديد ولايتها بعد الانتخابات الأوروبية، فتحت نيران حملتها الانتخابية على من سمّتهم «أصدقاء بوتين» - أي الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة - مع أنها تدرك جيداً أن شعبية هذه الأحزاب في ارتفاع مطّرد لنسبة تتراوح بين 10 في المائة و40 في المائة.

ولكن، بينما اتهمت فون دير لاين (التي تنتمي إلى الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا) هذه الأحزاب بأنها «عازمة على تدمير أوروبا»، فإن زعيم الحزب الشعبي الأوروبي مانفريد فيبر (وهو ألماني محافظ أيضاً) لا يتردد في الدعوة إلى عقد تحالفات مع الأحزاب المتطرفة، بما في ذلك لتشكيل حكومات.

وفي أول تعليق لفيبر على نتائج الانتخابات البرتغالية، قال السياسي الألماني المحافظ إنه يفضّل حكومة يشكّلها «التحالف الديمقراطي» وحده، لكنه لم يعترض على فكرة الائتلاف الحكومي مع «شيغا»، بحجة «تأمين الاستقرار ودوام الحكومة حتـى نهاية الولاية الاشتراعية». وينطلق فيبر في موقفه هذا من «المختبر» الإيطالي والحكومة التي ترأسها ميلوني، زعيمة حزب «إخوان إيطاليا»، الذي ينتمي إلى أسرة «الأوروبيين الإصلاحيين والمحافظين» التي تضمّ عدداً من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي يحاول الحزب الشعبي الأوروبي استمالتها للانضمام إلى الكتلة الشعبية.

مونتينغرو كان قد لجأ إلى استعادة صيغة «التحالف الديمقراطي» التاريخية التي سمحت لحزبه بالفوز للمرة الأولى في الانتخابات بعد نهاية الحكم الديكتاتوري


«شيغا» كلمة تعني «كفى»... وتعبّر عن النقمة على الواقع السياسي

فنتورا ... وجه اليمين المتطرف البرتغالي (رويترز)
فنتورا ... وجه اليمين المتطرف البرتغالي (رويترز)
TT

«شيغا» كلمة تعني «كفى»... وتعبّر عن النقمة على الواقع السياسي

فنتورا ... وجه اليمين المتطرف البرتغالي (رويترز)
فنتورا ... وجه اليمين المتطرف البرتغالي (رويترز)

>كلمة «شيغا» CHEGA تعبير اصطلاحي مركّب بالبرتغالية يقصد به «كفى» في معرض الإعراب عن النقمة والاستياء من وضع معيّن. وهي من ثم الاسم الذي يحمله الحزب اليميني المتطرف الذي ضاعف في انتخابات الأحد الفائت عدد المقاعد التي يحتلها في البرلمان البرتغالي.

في عام 2018 اتصّل آندريه فنتورا بصديقه نونو ألفونسو لطلب المساعدة والتعاون من أجل تأسيس حزب جديد في البرتغال، بعدما انشق الرجلان عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يمين الوسط)، بسبب خلافهما مع زعيمه المعتدل روي ريو، وبعدما كان فنتورا قد فشل في قيادة تمرد داخل الحزب لإطاحته.

ألفونسو يقول إنه لم يكترث للأمر كثيراً في البداية «لأن رأس فنتورا كان يحفل دائماً بالمشاريع الغريبة، مثل أن يكون رئيساً لنادي بنفيكا الرياضي الشهير بكرة القدم، أو أن يصبح أفضل كاتب في العالم، أو أن يتولّى رئاسة بلدية مدينة سينترا التاريخية».

ولكن، بعد إلحاح فنتورا تجاوب ألفونسو مع طلبه. وخلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام (2018) عُقد الاجتماع الأول للحزب الذي لم يكن يعرف بعد باسمه الحالي، وضمّ ذلك الاجتماع عدداً ضئيلاً من «الليبراليين الجدد» من المدرسة النمساوية، والمعجبين بدونالد ترمب، ومؤيدي الإجهاض والمعارضين له. وهنا يقول ألفونسو إن فنتورا ما كان يهتمّ بشيء من ذلك، «... بل كان يهمّه أننا جميعاً من أصدقائه الذين درسوا معه في إسبانيا وآيرلندا، ولم نكن نعارض آراءه». وبالفعل، تولّى ألفونسو منصب نائب الرئيس بعد تأسيس الحزب، ثم صار مديراً لمكتب فنتورا، قبل أن يفترقا في عام 2022 إثر خلافات متكرّرة.

هذا، وتلقّى فنتورا دراسته الجامعية الحقوقية في جامعة نوفا البرتغالية، ثم نال شهادة الدكتوراه من جامعة كورك الآيرلندية (كلية كورك الجامعية التابعة لجامعة آيرلندا الوطنية). وقرر تسمية الحزب الذي أسسه عام 2019 تيمناً باسم الحركة اليمينية التي قادها داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي... وفشل يومذاك في إزاحة زعيمه. لقد نشأ «شيغا» بوصفه مشروعاً شخصياً لزعيمه الذي يرى أن «الله كلفّه مهمة إنقاذ البرتغال من براثن اليسار»، كما ردد في غير مناسبة. ولكون فنتورا أمضى سنوات دراسته التكميلية والثانوية في مدرسة لاهوتية، فإنه جعل من الإيمان المسيحي الركيزة العقائدية الأساسية لحزبه، فيما كان «يفصّل» آراءه السياسية وفقاً للظروف والمقتضيات المرحلية. وهنا يقول الباحث السياسي ميغيل كارفايو: «فنتورا لا يؤمن بنصف ما يصدر عنه من تصريحات، لكنه يتكيّف كالحرباء مع جمهوره ببراعة مذهلة لا يجاريه أحد فيها».

وحقاً، كثيرون من رفاق الرعيل الأول انشقوا عن الحزب بسبب خلافاتهم مع فنتورا، وهي خلافات غالباً ما كانت تصل إلى المحاكم، حتى إن المحكمة الدستورية قضت بإلغاء مؤتمر الحزب العام الماضي، وتعديل دستوره. وللعلم، كان فنتورا يدعو إلى معاقبة المغتصبين بالخصي الكيميائي، وتخصيص حجر صحي للغجر إبان جائحة «كوفيد - 19»، ويرفع لواء الحملة التي يقودها الفرنسي رينو كامو لمواجهة ما يراه محاولة لتغيير الوجه الديموغرافي لأوروبا عن طريق الهجرة غير الشرعية. ثم إنه اختار لحملته الانتخابية الأخيرة شعار «تنظيف البرتغال»، موضحاً في خطبه أنه يقصد «تنظيفها من السياسيين الاشتراكيين والمتهمين بفضائح الفساد».

يبقى القول إن فنتورا، قبل دخوله البرلمان عام 2019، كان معروفاً بتعليقاته الرياضية بوصفه مشجّعاً لنادي بنفيكا، أعرق الأندية البرتغالية الرياضية والكروية، وكان يقول إن الرياضة هي أفضل منصة لدخول المعترك السياسي. ومن جهة أخرى، يرى السينو كوستا، الباحث السياسي في جامعة سينترا، أن مناصري فنتورا «يؤمنون بفكرة أو اثنتين فقط من أفكاره، لكنهم جميعاً قد سئموا السياسة الراهنة... وهم مصممون على وضع حد لها مهما كان الثمن». ويبدو اليوم أن الثمن هو السير في ركاب هذا «المُلهِم» حتى يصل إلى رئاسة الحكومة في الانتخابات المقبلة بعد أربع سنوات.


جبهة جنوب لبنان مفتوحة على كل الاحتمالات... والعين على هدنة غزة

هوكستين  يتباحث ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي (الشرق الأوسط)
هوكستين يتباحث ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي (الشرق الأوسط)
TT

جبهة جنوب لبنان مفتوحة على كل الاحتمالات... والعين على هدنة غزة

هوكستين  يتباحث ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي (الشرق الأوسط)
هوكستين يتباحث ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي (الشرق الأوسط)

بعد ستة أشهر على المواجهات العسكرية بين «حزب الله» وإسرائيل لا تزال جبهة جنوب لبنان مفتوحة على كل الاحتمالات مع تصاعد العمليات العسكرية ورفع سقف التهديدات من قِبل الطرفين. وبالتوازي، تتجه الأنظار إلى ما ستفضي إليه المفاوضات الجارية حول هدنة غزة كي يُبنى على الشيء مقتضاه، مع أنه ليس ثمة ضمانات بانسحاب التهدئة في غزة - إذا ما تحققت - إلى لبنان. والحال، أنه على الرغم ربط «حزب الله» التفاوض ووقف العمليات بوقف إطلاق النار في غزة، فإن إسرائيل لا تزال ترفض - عبر مواقف مسؤوليها - هذا الأمر، فارضة شروطاً لا يزال «حزب الله» ولبنان الرسمي يرفضانها؛ ما يعني بقاء احتمال توسّع الحرب موجوداً مع تفاوت في التقديرات.

تحت شعار «مساندة غزة» أطلق «حزب الله» نيرانه الأولى من جبهة جنوب لبنان، يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 باتجاه إسرائيل، بعد إطلاق عملية «طوفان الأقصى». وحصل ذلك عبر تنفيذ مجموعات «الشهيد القائد الحاج عماد مغنية» هجوماً على ثلاثة مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا، «على طريق تحرير ما تبقى من أرضنا اللبنانية المحتلة وتضامناً مع المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني...»، بحسب ما أعلن في بيان له.

يومذاك، أعلن «حزب الله» أنه على اتصال مباشر مع قيادة حركة «حماس» في الداخل والخارج. وقال مسؤول الإعلام في لجان المقاومة في فلسطين «أبو مجاهد» إن «مؤازرة (حزب الله) منسّقة مع المقاومة الفلسطينية ورسالة للعدو»، قبل أن يعود أمين عام الحزب حسن نصر الله لينفي علمه بالعملية، وينفي أيضاً مسؤولية إيران عنها، قائلاً: «عدم علم أحد بمعركة (طوفان الأقصى) يثبت أنها فلسطينية بالكامل».

غير أن هذه المساندة تحوّلت مواجهات مفتوحة بين الحزب وإسرائيل، التي لم تكتفِ باستهداف مراكز عسكرية للحزب، بل اعتمدت سياسة الاغتيالات. ومن ثم، وسّعت نطاق القصف الجغرافي داخل العمق اللبناني كاسرة قواعد الاشتباك مرات عدة. وهي أيضاً اعتمدت توسيع إطار «حرب الاغتيالات» التي تجاوزت خطوط المناطق الحدودية والجنوبية، بحيث وصلت إلى قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. وفي الضاحية نفذت إسرائيل عملية اغتيال نائب رئيس حركة «حماس» صالح العاروري وستة آخرين بواسطة صواريخ موّجهة أطلقتها طائرة حربية إسرائيلية.

الشيخ نعيم قاسم (رويترز)

توسّع عمليات الاستهداف

وعادت آلة الحرب الإسرائيلية، لاحقاً، لتغتال عدداً من القياديين عبر استهدافهم في سياراتهم أو منازلهم. ولقد نفّذت إحدى العمليات في منطقة جدرا، التابعة لقضاء الشوف بجبل لبنان شمال شرقي مدينة صيدا، على الطريق التي تربط بيروت بالجنوب، على مسافة نحو 60 كيلومتراً عن الحدود، حيث استهدفت قيادياً في حركة «حماس». وأيضاً، قصفت بعلبك إلى الشمال من محافظة البقاع في أول عملية تستهدف العمق اللبناني بهذا الحجم منذ «حرب تموز/يوليو» 2006، بالإضافة إلى استهداف مدينة النبطية وبلدة كفررمّان، المجاورة لها، في عمليات وُصفت بالنوعية طالت مسؤولين في الحزب داخل شقق سكنية.

لقد تركّز هذا القصف على بنى تحتية لـ«حزب الله» في محاولات يبدو أن الغاية منها لقطع خطوط الإمداد، ومنها مخازن أسلحة ومراكز عسكرية، وهو ما أعلنته مرات عدة إسرائيل. ولكن كذلك، طال القصف الكنائس والجوامع والمدارس والمراكز الصحية بما يخالف القوانين والأعراف الدولية.

... وأسلحة جديدة

عسكرياً، كشف «حزب الله» الذي نفّذ أكثر من ألف عملية خلال خمسة أشهر، من جهته، عن أسلحة جديدة للمرة الأولى، أبرزها صواريخ «بركان» ومنصة الصواريخ «ثأر الله» و«فيلق»، قبل أن يسجل تطوراً جديداً نهاية الشهر الماضي، تمثل في استخدامه منظومة دفاع جوّي متطوّرة أدت إلى إسقاط مسيّرة إسرائيلية كبيرة من نوع «هرمس 450» بصاروخ أرض - جو فوق منطقة إقليم التفاح بشمال جنوب لبنان، وهذا بعدما سبق له أن أسقط مسيّرات صغيرة عبر استخدام تقنيات الحرب الإلكترونية. وللعلم، المسيّرة «هرمس 450» هي الثالثة من حيث الحجم التي تمتلكها إسرائيل بعد «هرمس 900» (الثانية)، في حين تعد طائرة «إيتان» أو «هيرون تي» الأخطر والأكبر من حيث الحجم، وينفذ بواسطتها معظم عمليات الاغتيال الإسرائيلية في لبنان. وفي حينه، ردّت إسرائيل بقصف ما ادعت أنها مستودعات أسلحة في بعلبك.

استمرار التصعيد... مقدمة لحرب واسعة؟

التصعيد المستمر بين «حزب الله» وإسرائيل يضع المواجهات بينهما أمام كل الاحتمالات، لا سيما مع التهديدات المستمرة من قِبل إسرائيل. وهذا ما عبّر عنه أخيراً وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد لقائه قبل أيام المبعوث الأميركي آموس هوكستين؛ إذ قال: «التوتر المستمر مع (حزب الله) على الحدود اللبنانية يقرّب الوضع من التصعيد العسكري». ولكن في المقابل، يعتبر «حزب الله» على لسان نائب أمينه العام نعيم قاسم «أنه بنسبة 90 في المائة لن تكون هناك حرب واسعة في لبنان»، وإن كان يؤكد في الوقت عينه استعداد الحزب لها «في ما لو حصلت غداً!»، ولقد جدّد قاسم أخيراً القول: «نحن في موقع دفاعي وليس في موقع هجومي... جبهة دفاعية ومحدودة ونقوم بالتضحيات من أجل عدم جر لبنان إلى حرب»، مجدداً القول: «موقفنا واضح... فما دامت الحرب موجودة على غزة فهذا يعني أن جبهة لبنان متأثرة بها، وعندما تتوقف في غزة تتوقف في لبنان».

وبينما يرفض الجانب الإسرائيلي ربط أي هدنة قد تتحقق في غزة بوضع جبهة الجنوب، على عكس ما يعلنه «حزب الله»، أبدى مسؤولون أميركيون خشيتهم من تنفيذ إسرائيل توغّلاً برّياً في لبنان خلال أشهر. فقد نقلت شبكة الـ«سي إن إن» الأسبوع الماضي، عن مسؤولين أميركيين كبار قولهم إن هناك قلقاً داخل الإدارة الأميركية من أن تكون إسرائيل تخطط لتوغّل برّي في لبنان يمكن حدوثه في غضون أشهر إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في إبعاد جماعة «حزب الله» اللبنانية عن الحدود مع إسرائيل.

مع هذا، ورغم إمكانية توسع الحرب، يستبعد اللواء الركن المتقاعد عبد الرحمن شحيتلي، خلال حوار مع «الشرق الأوسط»، احتمال التوغّل البري الإسرائيلي في جنوب لبنان لأسباب عدة. وهو يرى أنه، في حال حدث، سيكون مقتصراً على القرى الأمامية القريبة من الحدود بنحو 5 إلى 6 كيلومترات تحت دعم النيران المباشر للقوى المهاجمة، ولكن ليس أبعد من ذلك.

شحيتلي وصف ما يحصل اليوم بالحرب التحضيرية، وأوضح «إسرائيل تريد الحرب على الجبهة الشمالية... إنما لم يتكوّن لديها الإمكانيات والمعطيات الكافية حتى الآن لخوضها، وهذا في وقت لم تتغير فيه المعادلة القتالية لدى (حزب الله) الذي خسر حتى الآن نحو 250 مقاتلاً في ما كان نصر الله أعلن أن لديه مئة ألف مقاتل».

في الوقت عينه، يعتقد الدكتور سامي نادر، مدير «معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» بأن احتمالات استمرار الحرب لا تزال مرتفعة. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» أشار نادر إلى أن «إسرائيل ستتفرّغ أكثر للجبهة الشمالية في حال التوصل إلى هدنة في غزة». واعتبر أن الأمور «مرتبطة بموازين القوى التي لم تتبدَّل حتى الساعة، والتي لا تسمح بإقفال الجبهة وتطبيق القرار 1701، كما أن إسرائيل لم تحقق أهدافها لغاية الآن، إلا إذا حصلت عملية عسكرية مفاجئة وتغيّرت الموازين لصالح أحد الطرفين».

ومن جهته، يتكلّم العميد المتقاعد خليل الحلو عن «حرب استنزاف يتعرّض لها (حزب الله) في الجنوب من قِبَل الإسرائيلي الذي يملك زمام المبادرة في الجنوب، ويقصف بشكل ممنهج وتدميري، وليس فقط رداً على الصواريخ التي يطلقها (حزب الله)». ثم يذكّر الحلو بالموقف الإسرائيلي الرافض ربط جبهتَي الجنوب وغزة، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إن «مسار المفاوضات والتصعيد العسكري في غزة والتهديد بتنفيذ عملية في رفح لا يعكس أن هناك اتجاهاً للتهدئة».

مفاوضات التهدئة...العين على هدنة غزةفي أي حال، منذ اليوم الأول لاشتعال جبهة جنوب لبنان بدأت تنشط الجهود السياسية على خط التهدئة والسعي لمنع توسّع الحرب التي قد تخلّف تداعيات كارثية على لبنان الذي يعاني أصلاً أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة. ولقد سجلت في هذا الإطار زيارات لوفود أجنبية ودبلوماسيين تحت العناوين نفسها، وتحوّل المسؤولون في لبنان إلى «سعاة بريد» بين هؤلاء و«حزب الله» الذي يملك القرار بشأن الحرب، وهو ما لاقى بدوره رفضاً من قبل بعض الأفرقاء.

وبينما يؤكد المسؤولون اللبنانيون على ضرورة تطبيق القرار 1701 من قبل جميع الأطراف ووقف الانتهاكات الإسرائيلية، تطالب إسرائيل بإخلاء المنطقة الحدودية من مقاتلي «حزب الله» وتراجع مقاتليه إلى مسافات تتراوح بين 7 و10 كيلومترات، وهو ما رفضه «حزب الله» ولبنان.

وفي سياق موازٍ، زار خلال الأشهر الخمسة المبعوث الأميركي آموس هوكستين بيروت ثلاث مرات كان آخرها بداية هذا الأسبوع، حين أطلق «رسالة تهديد» إلى المسؤولين اللبنانيين بأن «الهدنة في غزة لن تمتد بالضرورة تلقائياً إلى لبنان... والتصعيد أمر خطير ولا شيء اسمه حرب محدودة». وبعد مغادرة هوكستين بيروت، قال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إن الأخير قدّم مقترحاً بالتهدئة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وهو ما يتولى درسه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، على أن تبدأ مباحثات غير مباشرة لوقف الأعمال القتالية على حدود لبنان مع إسرائيل خلال شهر رمضان المبارك الأسبوع المقبل، لكن نائب أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم كان حاسماً في موقفه حول مساعي هوكستين بالقول: «لا أجوبة لدينا قبل وقف إطلاق النار في غزة... وهوكستين يستطيع أن يقول ما يشاء ولن نقبل بأن يفرض علينا الإسرائيلي شروطه».

للعلم، طرح هوكستين، الذي لا يختلف كثيراً عما عُرف بـ«الورقة الفرنسية» للحل، يتضمن انتشار الجيش اللبناني في منطقة عمل قوات «اليونيفيل» وإخلاء المنطقة من المظاهر المسلحة والمراكز العسكرية، أي إبعاد عناصر «حزب الله» عن الحدود. ويتضح من كل الطروحات، أنها لا تشمل حسم الأمر بالنسبة إلى المناطق المحتلة من إسرائيل في جنوب لبنان، وبالذات القسم الشمالي من بلدة الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا، بل التركيز على تكريس الهدوء على جبهتي الحدود.

رفض الانزلاق للحرب ... واستثمارها سياسياً

على صعيد آخر، منذ الأيام الأولى لبدء المواجهات بين إسرائيل و«حزب الله» في جنوب لبنان ارتفعت أصوات معارضة رفضاً لزج لبنان بالحرب وتفرّد الحزب بقرار السلم والحرب. ثم تزايدت التحذيرات من «استثمار» الحرب في الداخل اللبناني للحصول على مكاسب سياسية في المرحلة المقبلة، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية والفراغ المستمر منذ سنة ونصف السنة والحكومة المقبلة واستحقاقات سياسية واقتصادية، وذلك في ظل تمسّك كل فريق بموقفه، ورفض «حزب الله» وحلفاؤه التخلي عن مرشحهم رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية.

إذ قال رئيس حزب «القوات» اللبنانية سمير جعجع: «في المفاوضات الجارية بين محور الممانعة والموفدين الغربيين، وخاصة الأميركييّن، حول إعادة انتشار (حزب الله) في الجنوب وأمور أخرى، فإنّ محور الممانعة ينهي حديثه بالقول: هذه الأمور لكي تتمّ تحتاج إلى وضع داخلي يتّصل بملفّ رئاسة الجمهوريّة والحكومة... الأمر الذي يُفهَمُ منه أنّ هذا المحور يضع رئاسة الجمهورية والحكومة المقبلة في إطار المفاوضات الجارية حول وضعه في الجنوب. ولكن رئاسة الجمهوريّة ليست بدلاً عن ضائع، ولن تكون جائزة ترضية لمحور المقاومة، ولن تكون أمراً ملحقاً لأيّ صفقة لا من قريب ولا من بعيد».

وفي الإطار نفسه، حذّر رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» النائب سامي الجميل من غياب لبنان الرسمي عن الاتصالات والمفاوضات التي تحصل للوصول إلى حل بين «حزب الله» وإسرائيل، مؤكداً أن «الأولوية تبقى ألا تحصل أي تسوية على حساب سيادة الدولة...». ولم يكن موقف «التيار الوطني الحر» - الحليف السابق لـ«حزب الله» - مختلفاً عن معارضيه المسيحيين، وهو ما كرّس التباعد أكثر بينهما. إذ قال رئيس «التيار» جبران باسيل: «نحن مع (حزب الله) لحماية لبنان، أما تحرير القدس فمن مسؤولية الفلسطينيين». وكان لافتاً أيضاً موقف الرئيس اللبناني السابق ميشال عون منتقداً فتح جبهة الجنوب ضد إسرائيل تضامناً مع غزة. وحذّر عون أيضاً من صفقة رئاسية قائلاً: «ترجمة تطورات غزة والجنوب بصفقة رئاسية أمر غير جائز سيادياً، وإلا تكن تضحيات الشهداء ذهبت سدى، وتكون أكبر خسارة للبنان».

مع هذا، في هذا الإطار، يعتبر المحلل السياسي علي الأمين في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «حزب الله» سيستثمر الحرب في الداخل اللبناني وبشكل أساسي في الانتخابات الرئاسية. ويتابع: «لا شكّ أن الحزب الذي يمسك بالسلطة سيقلب المعادلات وسيقول إنه انتصر حتى لو كان مهزوماً، وسيحاول بذلك أن يحصل على المكاسب السياسية والدليل أن الحرب تستثمر اليوم لمنع إجراء الانتخابات الرئاسية».

خسائر الحرب... بشرية واقتصادية

> شملت خسائر الحرب، لبنانياً، خلال خمسة أشهر خسائر بشرية واقتصادية وزراعية وسياحية وغيرها؛ ما سينعكس سلباً على قطاعات أخرى في المرحلة المقبلة. إذ أسفرت المواجهات عن مقتل 302 شخص على الأقل في لبنان، غالبيتهم من مقاتلي «حزب الله» و51 مدنياً بينهم ثلاثة صحافيين، وفق حصيلة جمعتها «وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما أحصى الجيش الإسرائيلي مقتل عشرة جنود وسبعة مدنيين. وتعرّض الاقتصاد اللبناني لخسائر تقدر بين 7 و10 مليارات دولار، وفق ما أعلن وزير الاقتصاد أمين سلام. وقدّرت الخسائر التي أصابت القطاع الزراعي بـ2.5 مليار دولار أميركي، وأعلن وزير الزراعة عباس الحاج حسن، القضاء على عشرات الآلاف من الدونمات الزراعية نتيجة القصف الإسرائيلي بالفوسفور الأبيض، إضافة إلى نحو 5 آلاف شجرة زيتون، وإن كان المسح الميداني الدقيق لا يزال صعباً مع استمرار القصف، وفق الحاج حسن. وإضافة إلى نزوح أكثر من 90 ألف شخص من بلدات الجنوب، سجّل تدمير حتى الآن نحو ألف منزل، وفق ما أعلن وزير الداخلية بسام مولوي، وتضرّر نحو خمسة آلاف منزل. وبحسب تقرير أولي لـ«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، سجل خسائر كبيرة في الماشية والدواجن وتربية الأحياء المائية، وأدى القصف بقذائف الفوسفور إلى زيادة تلوث المحاصيل ومصادر المياه؛ مما يشكّل تهديداً للماشية وصحة الإنسان، كما عانت محاصيل رئيسية مثل الزيتون والخروب والحبوب والمحاصيل الشتوية كثيراً، كما أدى العنف إلى تقييد وصول الصيادين المحليين إلى مناطق الصيد. وتضرّرت القطاعات الاقتصادية الرئيسية، كالسياحة والخدمات والزراعة، أكثر من غيرها، وهي التي توفّر فرص العمل والدخل لنسبة كبيرة من سكان لبنان، كما أن احتمال انكماش الاقتصاد بات مرتفعاً، بحسب التقرير نفسه. ولم يسلم أيضاً القطاع الطبي من الحرب؛ إذ استهدفت إسرائيل مراكز صحية مرات عدة، وقُتل سبعة عمال إنقاذ ومسعفين جراء القصف الإسرائيلي، بحسب وزارة الصحة اللبنانية. وحذّر فابريتسيو كاربوني، المدير الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط، من أن تصعيد القتال على الحدود الجنوبية للبنان سيفاقم معاناة المستشفيات التي تعاني أصلاً نقص النقود في البلد الذي يمر بأزمة مالية. أما مدير مستشفى مرجعيون، فذكر أن في المستشفى 14 سرير طوارئ، وهو يعاني لمواصلة العمل بسبب نقص الموظفين ونقص الوقود الضروري. ويعمل المستشفى بمولدات الكهرباء الخاصة به 20 ساعة يومياً وينفق 20 ألف دولار شهرياً على الوقود.


فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين
TT

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

«من واجبنا أن نمنع استخدام المعونة الإنسانية كسلاح في الحرب»... «لا بد من وقف المذبحة؛ فقد أزف وقف إطلاق النار في غزّة»... «يجب أن تسود الإنسانية في غزّة». هذه مقتطفات من بعض التصريحات التي أدلى بها فيليب لازاريني، المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خلال الأسابيع الأخيرة المنصرمة. وتوّج لازاريني مواقفه مطلع هذا الأسبوع بتوجيه اتهام صريح ومباشر لإسرائيل بأنها تشنّ حملة للقضاء على هذه الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة في عام 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على النزوح من أراضيهم في أعقاب «النكبة»، والتي تحوّلت على مرّ السنين الجهة الوديعة الرئيسية لمنفى فلسطيني الشتات الذين يحلمون بالعودة يوماً إلى ديارهم، أو إلى ما تبقّى منها.

التصريحات التي صدرت أخيراً عن فيليب لازاريني، مدير «الأونروا»، الذي يتمتّع بصدقيّة إنسانية عالية على الصعيد الدولي ويحظى بتقدير كبير بين زملائه في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية، أثارت استياء السلطات الإسرائيلية التي تقود حملة ممنهجة ضد المنظمة الأممية وصلت حد اتهامها بأنها مخترقة من عشرات الموظفين الذين تقول إنهم ينتمون إلى منظمة «حماس».

في غضون ذلك، وبعدما علّقت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية مساهماتها لتمويل «الأونروا» في انتظار نتائج التحقيق المستقل الذي باشرت به اللجنة المستقلة التي شكّلها الأمين العام للأمم المتحدة وكلّف رئاستها وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا لتقييم حيادية الوكالة، يردد لازاريني أمام زملائه في مجالس خاصة: «إن العالم لم يشهد بعد كل الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، والتي وثّقت الوكالة العديد منها».

الخلفية والمسيرة

منذ أن تخرّج فيليب لازاريني في جامعتي لوزان ونيوشاتيل السويسريتين، حيث درس الاقتصاد وإدارة الأعمال، كرّس الرجل نشاطه للعمل الإنساني. فالتحق خلال عام 1989 بـ«اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، التي يعتبرها السويسريون المفخرة الدولية لنظامهم ورمزاً لحياده، وكان مندوباً لها في بلدان عدة، منها جنوب السودان، ولبنان، والأردن وغزّة. ثم أشرف على إدارة أنشطة «اللجنة» في كل من البوسنة وأنغولا ورواندا، ثم انتقل أواخر تسعينات القرن الفائت إلى القطاع المصرفي الخاص في سويسرا، حيث شغل منصب المسؤول عن ترسيخ قواعد المسؤولية الاجتماعية والاستثمار الأخلاقي.

بعد ذلك، في عام 2003 انضمّ لازاريني إلى «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانية» (أوتشا) كمنسّق للعمليات في العراق، ثم انتقل إلى أنغولا والصومال، ومنها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وعام 2010 أصبح مديراً لقسم التنسيق والاستجابة في «المكتب»، ثم مساعداً للأمين العام ومنسقاً خاصاً للشؤون الإنسانية في «برنامج الأمم المتحدة للتنمية». ومن ثم، في عام 2005 عيّنه الأمين العام منسّقاً خاصاً لأنشطة المنظمة الإنسانية في لبنان، ومشرفاً على الجوانب الإنسانية لـ«برنامج الأمم المتحدة للتنمية» حتى عام 2020، عندما قرّر الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش تعيينه مفوّضاً عاماً لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) في الشرق الأوسط.

المتاعب مع إسرائيل

بدأت متاعب لازاريني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية عام 2023 عندما انتقد الحصار الذي فرضته على قطاع غزة. وكان في الواقع أول من وصف القطاع بأنه «مقبرة لسكّان يعيشون رهائن الحرب والحصار والحرمان». وقال: «ستعرف الأجيال الآتية أننا كنا شهوداً على تطور هذه المأساة الإنسانية على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية، ولن يكون بوسعنا أن نقول: لم نكن نعرف. والتاريخ سيسألنا لماذا لم يمتلك العالم الشجاعة اللازمة للتصرّف بحزم من أجل وضع حد لهذا الجحيم على الأرض».

وفي مطلع العام التالي أكّد أمام وسائل الإعلام أن إسرائيل منعت دخول المساعدات الغذائية إلى اكثر من مليون شخص في القطاع.

مواجهة التهم الإسرائيلية

في أواخر يناير (كانون الثاني) الفائت ردّ فيليب لازاريني على الاتهامات التي وجّهتها السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة، بأن 12 من موظفيها شاركوا في عملية «طوفان الأقصى»، بقوله: «قدّمت السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة معلومات حول المشاركة المزعومة لعدد من موظفيها في الاعتداءات البشعة ضد إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت»، ليضيف: «ومن أجل حماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدة الإنسانية، قررت إنهاء عقود أولئك الموظفين والمباشرة بتحقيق سريع لمعرفة الحقائق». وأكد أن أي موظف يكون قد شارك بشكل أو بآخر في أعمال إرهابية سيتعرّض للملاحقة الجنائية.

بعدها، في أواسط فبراير (شباط) الماضي، أعلن لازاريني أنه لا ينوي تقديم استقالته كما كان يطالب عدد من أعضاء حكومة نتنياهو، مؤكداً أن إسرائيل «لم تقدّم بعد أي أدلّة تدعم الاتهامات الخطيرة التي سبق وجهتها إلى بعض موظفي الوكالة». وكانت السلطات الإسرائيلية، ضمن حملتها المركزة على لازاريني قد ادعت أن المنظمة الحقوقية التي أسستها وتديرها زوجته البريطانية أنطونيا مولفي قد وضعت تقارير منحازة ضد إسرائيل، وطالبت بإبعادها عن التحقيقات الجارية.

ومع احتدام الحملة الإسرائيلية على «الأونروا»، وإطلاقها سيل الاتهامات ضدها، صرّح لازاريني يوم الاثنين الفائت أمام جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً: «تواجه الوكالة حملة ممنهجة ومقصودة لعرقلة عملياتها بهدف القضاء عليها نهائياً». وتابع في تصريحاته - التي أثارت غضب البعثة الإسرائيلية التي حاولت مقاطعته خلال الجلسة -: «تقوم هذه الحملة على إغراق الجهات المانحة بمعلومات مُضلّلة مُصمّمة لزعزعة الثقة بالوكالة وتشويه سمعتها».

وفي حديثه لاحقاً أمام الصحافيين، شدّد لازاريني على أن الاتهامات ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»، مؤكداً أن «هذه الاتهامات التي نشرتها السلطات الإسرائيلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة لم تقدّمها بصورة رسمية إلى الأمم المتحدة».

تحقيقات داخلية

جدير بالذكر، أنه قبل بدء اللجنة المستقلة تحقيقاتها أواسط الشهر الفائت، كانت «الأونروا» قد باشرت تحقيقاتها الداخلية في المزاعم الإسرائيلية. وتضمّ ثلاث منظمات إسكندينافية متخصصة في تقييم الحياد، ومن المنتظر أن تقدّم تقريرها النهائي أواخر أبريل (نيسان) المقبل.

وفي هذا الشأن، قال لازاريني إن الوكالة «تواجه ظرفاً مفصلياً أمام عجزها عن استيعاب الصدمة المالية الناجمة عن تعليق التمويل في خضمّ الحرب بعدما قرّرت 16 دولة وقف ضخ المساعدات بقيمة 450 مليون دولار؛ ما يهدد بقطع المساعدات الأساسية ليس فقط لسكان القطاع، بل أيضاً إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا».

هذا، ومنذ وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل، دأبت السلطات الإسرائيلية على توجيه الاتهامات للوكالة، مدّعية أن «حماس» تستخدم مدارسها للأنشطة الإرهابي، وتخزين السلاح وحفر الأنفاق تحتها، وأنها تروّج للأفكار المناهضة للسامية في مناهجها التعليمية.

وبعد عملية «طوفان الأقصى»، ازدادت حدة هذه الاتهامات حتى بلغت مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بتفكيكها وإنهاء خدماتها، زاعماً أنه حتى قبل 7 أكتوبر... «كانت (الأونروا) دائماً جزءاً من المشكلة ولم تكن أبداً جزءاً من الحل». وفي آخر التصريحات التي صدرت عن مكتب نتنياهو عن الوكالة، جاء تهديده «أن (الأونروا) لن تواصل بعد الآن أنشطتها في غزة كما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر الفائت، وأن دورها قد انتهى... ولا بد من إبدالها فوراً وقطع تمويلها وتفكيكها».

ولكن، في حين علّقت بعض الدول تمويلها للوكالة، قررت دول أخرى، مثل المملكة العربية السعودية، وقطر، وتايلاند، والمكسيك، وماليزيا، وإندونيسيا وإسبانيا، زيادة حجم مساهماتها.

أين محاسبة إسرائيل؟

كذلك، في ردّه على المزاعم والاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة، تساءل رياض منصور، المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة: «ماذا عن محاسبة إسرائيل على قتلها 158 موظفاً كانوا يعملون في (الأونروا)، ومن بينهم أمهات وأمهات، قُتلوا مع أفراد عائلاتهم؟ وأين هي محاسبتها على تدمير 155 من منشآت الوكالة؟ والأخطر من كل ذلك، عن قتلها وجرحها مئات المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يسعون إلى اللجوء تحت شعارات الأمم المتحدة لكنهم حُرموا من حمايتها؟». وللعلم، كان 400 فلسطيني قد قُتلوا منذ بداية الحرب بينما كانوا يحتمون في مبانٍ تابعة لوكالة الدولية.

ومنذ أيام شكا لازاريني من أن السلطات الإسرائيلية تتخذ إجراءات عقابية ضد الوكالة وموظفيها تتعارض مع الاتفاقات الموقّعة من الأمم المتحدة. وأردف أنه يطّلع على هذه الإجراءات عن طريق وسائل الإعلام؛ لأن السلطات الإسرائيلية لا تبلّغه رسمياً بها. وكان وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش - الذي ينتمي إلى تكتل اليمين المتطرف - قد غرّد أخيراً على حسابه: «إن إسرائيل ستوقف تطبيق الإعفاءات الضريبية عن الذين يتعاونون مع الإرهاب»، بعدما كان قد أعطى تعليماته بإلغاء المزايا التي يتمتع بها عادة موظفو الأمم المتحدة بموجب الاتفاقات الدولية، وكان أحد المصارف الإسرائيلية يلغي حساب الوكالة من غير إبلاغ المفوض العام بذلك.

تجاهل كامل لموقعه

من جهة ثانية، كان فيليب لازاريني قد أوضح أمام الجمعية العامة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تسلّمه التقرير الذي وضعته الاستخبارات الإسرائيلية ويتضمن الاتهامات الموجهة إلى الوكالة وموظفيها، والذي حصلت عليه بعض وسائل الإعلام الأميركية، ويزعم «أن 10 في المائة من موظفي الوكالة يقيمون علاقات ما مع منظمتي (حماس) و(الجهاد الإسلامي)...».

ثم أنه، بعد لقائه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عقب اتخاذه القرار بإنهاء عقود اثني عشر موظفاً في الوكالة، اعترف لازاريني بأنه تصرّف «بعكس ما تقتضيه المحاكمة العادلة» التي أساسها أن المتهم بريء إلى أن تثبت تهمته. وتابع أنه إنما اتخذ قراره انطلاقاً من «المخاطر الكبيرة على سمعة الوكالة في ضوء الاتهامات، ومن أجل الحفاظ على قدرتها لمواصلة أنشطتها وتقديم الخدمات الإنسانية الحيوية في مثل هذه الظروف على أبواب مجاعة محدقة بسبب من عرقلة دخول المساعدات الغذائية».

في المقابل، في خطابه السنوي الأخير أمام الكنيست، واصل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الزعم أن «الأونروا» «مخترقة كلّياً» من «حماس»، وأنه «لا دور لها على الإطلاق في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب». شدّد لازاريني في حديث إلى الصحافيين على أن الاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»


«الأونروا»... تاريخ حافل ومشرّف من الإغاثة والتأهيل

إحدى مدارس الوكالة (ألأونروا)
إحدى مدارس الوكالة (ألأونروا)
TT

«الأونروا»... تاريخ حافل ومشرّف من الإغاثة والتأهيل

إحدى مدارس الوكالة (ألأونروا)
إحدى مدارس الوكالة (ألأونروا)

> يوم 18 يوليو (تمّوز) 1948، أي بعد شهرين على إعلان قيام دولة إسرائيل، كتب رئيس الوزراء الإسرائيلي (يومذاك) ديفيد بن غوريون في مذكراته: «يجب علينا التأكد من أنهم لن يعودوا».

ذلك «الضمير الغائب» كانوا السكان الفلسطينيين البالغ عددهم 700 ألف، الذين طردوا من ديارهم أو أجبروا على النزوح خوفاً من المذابح التي ترتكبها الميليشيات الصهيونية.

شعار "الأونروا" على شاحنة إغاثة (رويترز)

وذلك الجرح الجماعي يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأيضاً من تاريخ إنشاء «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» في الشرق الأوسط، المعروفة بـ«الأونروا» نسبة إلى اسمها الإنجليزي المختصر، والتي تقدّم المساعدات الإغاثية والإنسانية من خدمات صحية وتعليمية وفرص عمل إلى اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة ولبنان والأردن وسوريا.

لقد تحوّلت هذه الوكالة - التي لها صفة المؤقتة منذ إنشائها - بأرشيفها البصري وسجلاتها، إلى الجهة الدولية الوديعة لما يشكّل «جواز السفر» الذي من المفرض أن يضمن للفلسطينيين حق العودة الذي اعترفت به الأمم المتحدة عام 1948... بالرجوع إلى الأراضي التي تحتلها اليوم إسرائيل، واستعادة ممتلكاتهم أو الحصول على تعويض ما تضرّر أو اندثر منها، وهو الحق الذي ما زالت الدولة العبرية تصرّ على رفضه.

من أولئك اللاجئين الذين أحصتهم الأمم المتحدة عام 1948 لم يتبقّ سوى قلّة قليلة، لكن الباقين منهم على قيد الحياة والمتحدّرين منهم يبلغ عددهم اليوم قرابة 6 ملايين مسجّلين لدى «الأونروا» في قطاع غزة، والضفة الغربية، وسوريا، ولبنان والأردن.

دافيد بن غوريون (آ ب)

وهنا تقول الباحثة المكسيكية جوليتا أوكامبو، المتخصصة في شؤون اللاجئين والمحاضِرة في الجامعة الأوروبية، إن عودة الفلسطينيين إلى ديارهم من شأنها أن تترك اليهود في موقع الأقلية، وتهدّد طابع «الدولة الأمّة للشعب اليهودي»، أي أنها ستكون خطراً يتهدّد وجود الدولة العبرية.

وبالتالي، تعتقد أوكامبو أن أحد الأسباب الرئيسية وراء الاتهامات التي وجّهتها إسرائيل إلى عدد من موظفي الوكالة بمشاركتهم في عملية «طوفان الأقصى»، هو أن «الأونروا» هي أيضاً الجهة الشرعية الوديعة لحق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.

وجاء في تقرير وضعه «مركز الموارد لحقوق اللاجئين الفلسطينيين وإقامتهم» (بديل)، وهو منظمة استشارية لدى الأمم المتحدة مقرّها في رام الله، إن الاتهامات التي توجهها إسرائيل منذ سنوات ضد «الأونروا» تهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي تفاقمت خلال حرب غزة، أبرزها:

أولاً، قطع المساعدات الإنسانية من أجل دفع الفلسطينيين خارج القطاع من أجل ضمّه لاحقاً إلى إسرائيل التي تهدف إلى فرض ما يسمّى في القانون الدولي «الإطار القهري». وذلك أن قطع الطعام والماء والخدمات الطبية والكهرباء والمأوى يجعل الناس أمام خيارين لا ثالث لهما: تبقى وتموت... أو ترحل.

وثانياً، القضاء نهائياً على «حق العودة» لما يقرب من ستة ملايين فلسطيني الذي رفض المفاوضون الفلسطينيون دائماً التنازل عنه في جميع المفاوضات.

وتؤكد لبنة شمالي، الباحثة في المركز المذكور، أن «مجرد وجود هذه الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة لتقديم المساعدات إلى اللاجئين الفلسطينيين، بحد ذاته تهديد لسردية إسرائيل وإصرارها الدائم على أن اللاجئين الفلسطينيين لا وجود لهم، وبالتالي، لا وجود لحق العودة».

هذا، وفي تغريدة على حسابه مطالع الشهر الفائت، قال الناطق بلسان الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي: «إن حق العودة الذي يطالب به الفلسطينيون هو بمثابة حق مطلق للهجرة يعطى لستة ملايين شخص». مع العلم أن قوانين الدولة العبرية تنصّ على هذا الحق المطلق لجميع اليهود حيثما كانوا وأيّاً كانت الجنسية التي يحملون.

وعلى الرغم من أن ولاية «الأونروا» لا تشمل مساعدة الفلسطينيين على العودة إلى ديارهم، فإن نص القرار 302 الذي أنشئت بموجبه عام 1949 يشير إلى قرار آخر هو القرار 194 الذي يعترف بحق العودة.

وهنا توضح الباحثة أوكامبو، التي وضعت أطروحتها في العلاقات الدولية حول «الأونروا» قائلة: «ينقل عن بن غوريون قوله بعد النكبة: الكبار سيموتون والشباب سينسون»، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي (يومذاك) لم يتنبّه لقوة المشاعر القومية لدى الفلسطينيين وإصرار اللاجئين على العودة. ولم يكن يتوقع أن تساهم «الأونروا» بشكل غير مباشر في الحفاظ على ذاكرة الشعب الفلسطيني وبناء القومية الفلسطينية».


السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
TT

السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)

عودة السنغال إلى المسار الديمقراطي، لا ينقذ البلاد فقط من الأزمة السياسية والشعبية، بل يمتد أثره ليؤكد سمعة الدولة التي اشتهرت كواحة ديمقراطية في الغرب الأفريقي، الذي بات عنواناً للتغييرات غير الدستورية في الحكم، والذي تعززت صورته تلك بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية خلال السنوات الأربع الأخيرة. صحيح، أن السنغال لا تبدو على الخريطة الأفريقية دولة شاسعة المساحة أو هائلة الموارد، لكنها استطاعت أن ترسم لنفسها صورة مختلفة عن جيرانها في الغرب الأفريقي عبر تجربة سياسية اعتمدت الانتقال السلمي للسلطة سواء من الاشتراكية إلى الليبرالية، أو عبر الالتزام باحترام التعددية الحزبية وحرية المنافسة؛ ما جعلها تبدو «حالة نادرة» في منطقة لم تعد «الانقلابات» بها خبراً لافتاً. ولكن للمرة الأولى منذ ستة عقود تعرّضت الانتخابات الرئاسية في السنغال لتأجيل بدا مفاجئاً لكثيرين، وتسبب في احتقان الأفق السياسي، وإشعال ردود فعل غاضبة سواء على مستوى الشارع أو القوى الحزبية والمدنية، عندما أصدر الرئيس ماكي سال مطلع فبراير (شباط) الماضي قراراً بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى بعدما كان مقرراً إجراؤها يوم 25 فبراير 2024.

قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية السنغالية أشعل غضب أحزاب المعارضة، وسرعان ما انتقلت الأزمة إلى الشارع عبر مظاهرات شعبية سقط خلالها قتلى ومصابون إثر مصادمات مع قوات الشرطة، قبل أن يحسم المجلس الدستوري الصراع لصالح المسار الديمقراطي بقراره إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية شهر مارس (آذار) الحالي.

الآن، رغم انتهاء الفصل الحالي من الأزمة السياسية بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء فترة حكم الرئيس سال، تفتح الأزمة المجال أمام مراجعات قد تحتاج إلى مزيد من الجهد عقب وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم؛ كي لا يتكرر مشهد الارتباك الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات.

معارضون يرفعون لافتات مؤيدة لعثمان سونكو (آ ف ب)

جذور الأزمة

وبينما يحاول كثير من المحللين ربط الأزمة السياسية الراهنة بقرار الرئيس سال إرجاء الانتخابات الرئاسية، يرى البعض أن الأزمة أعمق من ذلك؛ إذ ترجع إلى نتائج التعديلات الدستورية التي اعتُمدت عام 2016، وبموجبها قُلّصت الولاية الرئاسية إلى ولايتين فقط. وحقاً أقرّت التعديلات الدستورية بعدما بدأ الرئيس سال ولايته الأولى (عام 2012)، ونصّ الدستور السنغالي المعدل على أنه «لا يمكن لأحد أن يحكم البلاد أكثر من فترتين متتاليتين»، لكن سال قال عام 2021 إنه ينوي الترشح لولاية ثالثة، معتبراً أن هذه المادة لا تنطبق عليه باعتبار أن ولايته الأولى كانت قبل التعديلات الدستورية.

هذا الأمر أثار ردة فعل عنيفة سواء على مستوى الشارع أو من أحزاب المعارضة، وبالذات من رئيس حزب «باستيف» المعارض عثمان سونكو الذي دعا إلى النزول للشارع للوقوف أمام طموحات سال. وفعلاً، شهدت السنغال مظاهرات عنيفة شملت العاصمة دكار وعدداً من كبريات مدن البلاد، راح ضحيتها قتلى وجرحى، ثم تدخلت دبلوماسية المشيخة الصوفية وهيئات العلماء وأسهمت بإنهائها. وعندها أعلن الرئيس تخليه عن فكرة الولاية الثالثة، لكن إعلانه لم يقنع العديد من قطاعات الشارع السنغالي أو الطبقة السياسية بحسن نية الرئيس.

ثم أن الإجراءات التي اتبعتها السلطة بحق عثمان سونكو، الذي يُنظر إليه على أنه منافس بارز ويحظى بشعبية كبيرة بين الشباب السنغالي بسبب خطابه الشعبوي ومواقفه القوية ضد الفساد، كانت سبباً آخر في إثارة الكثير من المخاوف إزاء صدق نوايا السلطة في إجراء انتخابات تنافسية. إذ سُجن سونكو إثر اتهامه بعدد من التهم، بينها التمرد، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها «ذات دوافع سياسية»، ولا يزال هذا المعارض البارز قابعاً في السجن؛ ما حال دون ترشحه للانتخابات.

الرئيس ماكي سال (آ ف ب)

مشهد مرتبك

لم يلهب الوضع فقط استخدام السلطة الأحكام القضائية حجة لإبعاد بعض المرشحين الأقوياء من أحزاب المعارضة، بل استفحلت الأزمة من جديد عندما أصدر «المجلس الدستوري» السنغالي القائمة النهائية التي ضمت 20 مرشحاً رئاسياً، لكنها خلت من كريم واد زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي (ونجل الرئيس السابق عبد الله واد) بحجة أنه ثنائي الجنسية، في حين أن اللائحة ضمّت مرشحة مزدوجة الجنسية هي روز ورديني (انسحبت لاحقاً). وللعلم، فإن «المجلس» هو السلطة الدستورية العليا في البلاد والجهة المخوّلة التصديق على انطباق شروط الترشح على الراغبين في خوض السباق الرئاسي.

ويوم 1 فبراير طالب نواب من الحزب الديمقراطي السنغالي بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق مع عضوين في «المجلس الدستوري» لاتهامها بالتواطؤ من أجل إبعاد كريم واد. وهذا ما استند إليه الرئيس سال لإصدار قراره بتأجيل الانتخابات؛ ما تسبب في اندلاع موجة من أعمال العنف سقط خلالها قتلى ومصابون.

مجلة «جون أفريك» الفرنسية المتخصصة في الشؤون الأفريقية، قدمت تحليلاً للمشهد المرتبك في السنغال، ليس فقط على مستوى الشارع، بل وحتى خلال إقرار البرلمان قرار تأجيل الانتخابات. إذ اشتبك النواب المؤيدون والمعارضون بالأيدي، وتدّخلت قوات الدرك لإخراج نواب المعارضة من قاعة البرلمان من أجل إصدار قرار التأجيل. وأشار تحليل المجلة الفرنسية إلى أن أفراد «المحيط السياسي» للرئيس سال أقنعوه بتأجيل الانتخابات الرئاسية حتى يتمكنوا من إيجاد وريث يكون قادراً على جمع الطيف السياسي من حوله.

وتابعت المجلة أن سال يدرك خطورة المصادقة على ترشيح باسيرو ديوماي فاي، بديل عثمان سونكو، الذي تدعمه الحركات الشبابية والنقابية، والذي بات يمثل «خطراً» على حظوظ آمادو با، مرشح حزب الرئيس، وبخاصة مع تنامي اقتناع الرئيس بأن مرشحه لن يتمكن من حسم السباق لصالحه؛ بسبب تصدّع معسكر النظام وافتقار ترشيح بالإجماع، إضافة إلى وجود مرشحيْن منشقين عن النظام الحاكم، هما الوزير الأول السابق محمد عبد الله ديون، ووزير الداخلية السابق علي نغوي ندياي.

كل هذه الملابسات أسهمت في دفع سال إلى الاقتناع بالتنسيق مع كريم واد، المقرّب من فرنسا، والذي يحظى بقبول كبير داخل دوائر «الدولة العميقة». وكان استبعاد ترشيح كريم واد، من جانب «المجلس الدستوري» قد استند إلى حمله الجنسية الفرنسية عندما قدم طلبه الترشح لمنصب الرئيس. ومع أن واد (ابن الرئيس السابق عبد الله واد من سيدة فرنسية) تخلى عن جنسيته الفرنسية، فإن الخطوة لم تتوافق مع مهل تقديم الترشيحات؛ ما فرض تأجيل الانتخابات، ثم الدعوة إلى موعد جديد، وفتح باب الترشح مجدداً «لإعادة ترتيب أوراق السباق» بما يخدم مصالح الرئيس سال، حسبما ادعاءات المعارضة. وعقب تصويت البرلمان بالموافقة على إجراء الانتخابات في ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي؛ ما يعني إدخال البلاد في حالة من الفراغ أو تمديد ولاية الرئيس سال - وهو ما تتمسك المعارضة برفضه - جاء قرار «المجلس الدستوري» بإبطال قرار البرلمان، وإلزام السلطات بإجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية مارس الحالي ليكون بمثابة «طوق نجاة».

كريم واد (آ ف ب)

لحظة فارقة

يرى عمر ندياي، الكاتب والباحث السنغالي، والمتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، أن قرار تنظيم الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي «يمثل استعادة للنهج الديمقراطي الذي اتسمت بها البلاد على مدى 6 عقود». واعتبر لـ«الشرق الأوسط» أن قرار تأجيل الانتخابات «لم يكن يحظى بالإجماع بين الطبقة السياسية وحتى بين الرأي العام السنغالي؛ لأن الأسباب المقدمة ليست قوية».

وأضاف ندياي: «هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها الديمقراطية السنغالية، التي بُنيت على مدى العقود الأخيرة، مثل هذه اللحظة الفارقة... نعم، شهدت ديمقراطيتنا توترات مرات عدة، لكن الانتخابات الرئاسية كانت دائماً لحظة ساعدت في وضع حد لكل هذه الأزمات». وتابع أنه لم يسبق للسنغال من قبل اللجوء لتأجيل الاستحقاق الرئاسي في ظل أزمات سابقة، مستشهداً بما حدث عام 2012، عندما حدث انقسام في الطبقة السياسية حول الترشيح الثالث المتنازع عليه للرئيس عبد الله واد، مع توترات شديدة تسببت في سقوط قتلى. ولكن، يومذاك أُجريت الانتخابات بسلام وانتُخب ماكي سال. وأردف ندياي: «ما كان لهذا التأجيل أي سبب، خاصة أن الأسباب المذكورة (فساد مزعوم للقضاة الدستوريين) لا تصمد. نحن في وضع فريد من نوعه في تاريخنا السياسي الحديث، ولا نعرف إلى أين قد يقودنا».

تقويض الاستقرار

وتتشارك نسرين الصباحي، الباحثة بوحدة الدراسات الأفريقية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، خلال تعليق لـ«الشرق الأوسط»، الرؤية المحذّرة من خطورة الوضع السابق الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات على مستقبل التجربة الديمقراطية في السنغال. إذ تشير إلى أن تأجيل الاستحقاق الرئاسي «كان بمثابة دفع للبلاد إلى مزيد من تصعيد المشهد المضطرب»، على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية العديدة. وازداد الوضع تعقيداً مع استبعاد زعماء المعارضة الرئيسيين من الانتخابات؛ ما أسهم بتقويض الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي في دولة اعتُبرت طوال العقود الماضية «جزيرة الاستقرار ونموذجاُ للديمقراطية في منطقة غرب أفريقيا».

وأضافت الصباحي: «السنغال لم تتعرض لأي انقلاب عسكري منذ الاستقلال، فجرى تداول انتقال السلطة بشكل منتظم، كما أن تاريخها حافل بالتعددية الحزبية والانتقال السلمي من خلال صناديق الاقتراع»، وبالتالي، إجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء ولاية سال يأتي «انتصاراً لقيم الدولة ومسارها السياسي الديمقراطي».

وبالفعل، حافظ الجيش في السنغال على حياده سياسياً؛ إذ التزم منذ الاستقلال بالابتعاد عن التدخل في السياسة، وكان هذا من بين السمات المميزة للسنغال عن جيرانها في غرب أفريقيا. ثم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن 85 في المائة من السنغاليين يعربون عن ثقتهم بالجيش، وهذه النسبة من بين أعلى المعدلات في القارة.

«سيناريو» فراغ السلطة

عودة إلى عمر ندياي، الذي يرى أن قرار إجراء الانتخابات قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي في 2 أبريل (نيسان) المقبل «مثّل إخراجاً للبلاد من سيناريو فراغ السلطة الذي كان يهددها»، لا سيما وأن كل الحلول التي طُرحت سابقاً للخروج من الأزمة مثل تنظيم الانتخابات في يونيو (حزيران) المقبل، أو إمكانية بقاء الرئيس المنتهية ولايته لتنظيمها، كانت جميعها «موضع خلاف».

ويضيف الكاتب السنغالي: «كل السيناريوهات عدا إجراء الانتخابات تحمل بذور أزمة مؤسسية، وما كان ليقبلها أحد». ومن جهة ثانية، فإن الاهتمام بمسار الأحداث في السنغال لم يقتصر فقط على أبناء البلاد التي اجتازت العديد من أزماتها عبر احترام مبدأ التعايش السلمي والتعدد السياسي - فضلاً عن المسحة الصوفية التي تغلب على شعبها - بل امتد إلى كثيرين، في القارة الأفريقية. ولقد كان على السنغال أن تحسم خياراتها، فإما الحفاظ على إرث التداول السلمي للسلطة، أو الاستسلام لعدوى الاضطرابات المنتشرة بقوة في الغرب الأفريقي... ويبدو أن «مؤسسات الدولة» السنغالية حسمت بالعودة إلى إقرار الانتخابات الرئاسية مسارها المعتاد، حتى وإن انحرفت الأمور قليلاً.

وهكذا، قد تكون استعادة المسار بحد ذاته خبراً ساراً للسنغاليين وللمراهنين على إمكانية أن تترسخ تجربة ديمقراطية في «القارة السمراء».

على المستوى القاري، وقبيل العدول عن قرار التأجيل، حث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي، السنغاليين على حل «خلافهم السياسي من خلال التشاور والتفاهم والحوار»، داعياً السلطات إلى «تنظيم الانتخابات بشفافية وسلام ووئام وطني». أما «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، التي لطالما اتخذها الرئيس ماكي سال منبراً للمطالبة بالديمقراطية في دول أفريقية تعاني عدوى الانقلابات، فكانت أعربت عن أسفها لما تمر به دكار من «خروج على مبادئ الديمقراطية»، وطالبت بالإسراع في الخروج من حالة «الانسداد السياسي الذي يؤدي إلى الفوضى».

وخارج أفريقيا، دخلت على الخط الولايات المتحدة، التي تعدّ أحد أبرز حلفاء السنغال، فاعتبرت الخارجية الأميركية التصويت لإرجاء موعد الانتخابات الرئاسية السنغالية «لا يمكن أن يعتبر شرعياً»، كما انتقدت كل من فرنسا وألمانيا ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي قرار تأجيل الانتخابات. وعليه، لعل إعلان موعد إجراء الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي سيسعد تلك الأطراف المترقبة، بحسب عمر ندياي، الذي يرى أن التأثير الإقليمي للأزمة السنغالية كان «هائلاً»، ويلفت إلى معاناة جيران السنغال خلال السنوات الخمس الماضية من أزمات مؤسسية ناجمة عن الانقلابات العسكرية. ويضيف: «الجميع كان يأمل أن تقدّم السنغال درساً في الانتقال الديمقراطي والسلمي للسلطة... وكان من شأن تعذّر ذلك إعطاء العسكريين في بلدان غرب أفريقيا الفرصة لطرح أنفسهم كحل لأزمة الديمقراطية هذه».

أما الصباحي، فترى أن تداعيات الأزمة في السنغال لم تكن لتقتصر على إمكانية تقويض عقود من التقدم الديمقراطي في البلاد، بل ستنعكس أيضاً على المنطقة ككل، فهي ليست مجرد قضية داخلية، بل تحمل آثاراً إقليمية كبيرة، بل تُشكّل الأزمة السياسية في السنغال «اختباراً حاسماً للديمقراطية في عموم غرب أفريقيا؛ لكون السنغال نموذجاً قارياً للحكم الديمقراطي».


تداول السلطة في السنغال... محطات فارقة

عبدالله واد (آ ف ب)
عبدالله واد (آ ف ب)
TT

تداول السلطة في السنغال... محطات فارقة

عبدالله واد (آ ف ب)
عبدالله واد (آ ف ب)

> مثّلت السنغال واحدة من الدول الأفريقية الأكثر استقراراً منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. وتحولت البلاد التي كانت مستعمرة فرنسية منذ القرن الـ17، جمهورية ذات حكم ذاتي من بين مجموعة المستعمرات الفرنسية.

وبالفعل، عكست التجربة السياسية السنغالية نضجاً للديمقراطية في البلاد وقدرة على تحقيق الانتقال السلمي للسلطة وإجراء الإصلاحات السياسية، مع أن هذه التجربة مرّت بالعديد من المنعطفات التي رسخت إيمان السنغاليين وتمسكهم بأهمية احترام الخيار الديمقراطي.

ليوبولد سنغور (آ ف ب)

منذ عام 1960 إلى عام 2000 هيمن على حكم السنغال حزب واحد هو «الاتحاد التقدمي السنغالي» الذي سُمي منذ عام 1976 «الحزب الاشتراكي»، وقاد هذا الحزب في البداية الرئيس السابق ليوبولد سيدار سنغور، الشاعر والمفكّر الذي تنحى عام 1981، ليرث بعده الحكم رئيس الوزراء السابق عبده ضيوف.

لقد أنشأت السنغال بين عامي 1970 و1980 مؤسسات ديمقراطية وأقرّت تعددية الأحزاب، وأعيد انتخاب الرئيس ضيوف مرات عدة أعوام 1983 و1988 و1993، قبل أن يقرّ بهزيمته عام 2000 أمام خصم الاشتراكيين «الأدائم» عبد الله واد، الذي تزعم منذ عام 1974 «الحزب الديمقراطي» السنغالي وهو حزب ذو نزعة ليبرالية.

وخلال عقدَي الثمانينات والتسعينات تمكّنت المعارضة السنغالية، التي كان واد أبرز رموزها من تحقيق مكاسب ديمقراطية ملموسة، من بينها إيجاز قانون انتخابي متفق عليه، وإنشاء جهاز مستقل للإشراف على الانتخابات، ثم تحقيق التعددية الشاملة التي مهدت الطريق لظهور مئات الأحزاب السياسية في البلاد.

كان فوز عبد الله واد بالرئاسة عام 2000 أول تداول سلمي للسلطة بعد 40 سنة من النظام الاشتراكي، واعتُبر «نموذجياً» بين الحالات الانتقالية الديمقراطية في أفريقيا.

وفي يناير (كانون الثاني) 2001، وافق السنغاليون، عبر استفتاء، على الدستور الجديد الذي طرحه الرئيس واد بنسبة فاقت 90 في المائة من الأصوات، وتضمن ذلك الدستور ضمانات عديدة لترسيخ الانتقال السلمي للسلطة.

عبده ضيوف (آ ف ب)

ويوم 25 فبراير (شباط) 2007 أعيد انتخاب واد في الجولة الأولى من الانتخابات بنسبة 55.9 في المائة من الأصوات، عقب عملية اقتراع جرت بإشراف مراقبين دوليين صادقوا جميعهم على نتائجها.

وفي الانتخابات التي أجريت عام 2012، خاض الرئيس واد سباقاً محموماً مع المعارضة بقيادة ماكي سال، ففاز سال يومذاك جامعاً 65.8 في المائة من الأصوات ليغدو الرئيس الرابع للسنغال منذ الاستقلال.

أما آخر انتخابات رئاسية، في 24 فبراير 2019، فحظيت بمشاركة واسعة من الناخبين تجاوزت نسبة 66 في المائة من إجمالي من لهم حق التصويت وتنافس فيها خمسة مرشحين، يتقدمهم الرئيس سال، الذي ترشح لولاية ثانية، ورغم من ارتفاع حدة المنافسة جرت عملية التصويت بهدوء وشفافية، وانتهت بفوز سال من الجولة الأولى بعد حصوله على 58 في المائة من الأصوات الصحيحة.