دمج التقنيات الحديثة مع الفنون التشكيلية في معرض جماعي بالقاهرة

من أجواء المعارض الفنية
من أجواء المعارض الفنية
TT

دمج التقنيات الحديثة مع الفنون التشكيلية في معرض جماعي بالقاهرة

من أجواء المعارض الفنية
من أجواء المعارض الفنية

على غرار الفنون والوسائط التي تأثرت بالتقنيات التكنولوجية الحديثة، فإن الأعمال التشكيلية لم تستطع الابتعاد كثيراً عن هذا التأثير، بل استفادت منه في التعبير عن المشاعر المتناقضة والأفكار المتدفقة في مساحات واسعة يتنافس فيها عدد كبير من الفنانين الشباب، وجيل الوسط. وفي مركز التحرير الثقافي، بالجامعة الأميركية بوسط القاهرة، دمجت 3 معارض فنية بين التقنيات الحديثة، والفنون التشكيلية المتنوعة... عنوان المعرض الأول «جلتش»، وعنوان الثاني «بيت أم أمل»، أما الثالث فعنوانه «على ناصية الحلم»، وتستمر المعارض الثلاثة حتى الحادي عشر من شهر مارس (آذار) المقبل.
تماهي الأنماط التشكيلية التقليدية مع التطور التقني يعد السمة الغالبة على معرض «جلتش»، الذي يشارك فيه 12 فناناً مصرياً وأجنبياً، يستعرضون خلاله تجاربهم عبر أربعين عملاً بأساليب فنية مختلفة.
«أنا الألعاب النارية»، عنوان لعمل فني متميز للفنانة الفرنسية الشابة تاليسكر، تظهر خلاله تشكيلات متعددة للمستطيل الهندسي بخامات مختلفة، كرمز لسطوة الهواتف النقالة على حياتنا اليومية، وتشكيلها لمفهومنا عن العالم. كما يشارك الفنان البريطاني كور بور، في المعرض ذاته بـ9 لوحات بأحجام صغيرة وألوان صاخبة حملت عنوان «رسم سفريات»، يعارض خلالها عدم قدرة التقنية الحديثة على وقف التميز ضد البشر على أساس عرقي.
لوحات معرض «جلتش» تضم تشكيلات لونية مميزة، تختلط بأحرف الكتابة المتعددة، وما يشبه أختام المرور على جوازات السفر، والتي تقول عنها شيفا بلاجي، مستشارة رئيس الجامعة الأميركية بالقاهرة، ومنظِّمة المعارض الثلاثة لـ«الشرق الأوسط» إنها «تعكس المطارات التي تعرض خلالها الفنان كور بور، للتوقف بسب ملامحه غير الأوروبية». ويخطف أنظار زائري معرض «جلتش» أيضاً عمل نحتي من المعدن للفنانة المصرية منى عمر، حمل اسم «بلا عنوان» يثير الفضول ككتلة صامتة تتخللها الفراغات، تطرح فكرة الصراع بين الحياة والعدم بعيداً عن منطق التقنيات الحديثة والقوالب الثابتة، وتقول مي لـ«الشرق الأوسط»: «أفضّل ترك أعمالي النحتية بلا هوية محددة»، مشيرة إلى «أن كل عمل يفرض عليها شكله النهائي دون تخطيط مسبق منها».
فيما يعارض الفنان المصري المقيم بأميركا باسم مجدي، التقنيات الحديثة عبر عملين من مشروعه الطويل «شخصٌ ما حاول سجن الوقت»، والذي ينادي من خلالهما بالعودة لاستخدام الكاميرات الفيلمية، والتحميض اليدوي بدلاً من الكاميرات الرقمية الحديثة، ويُظهر أحد العملين صورة جبهة رجل مبتورة عن باقي ملامحه، يبدو عليه الانفعال، فيما تظهر أسفل الصورة جملة «لقد توقفنا عن النظر في أعين بعضنا البعض»، ويقول باسم: «شَغَلَتْنا التقنية الحديثة عن التواصل الإنساني الفعّال... واكتفينا باللقاءات العابرة خلال مواقع التواصل الافتراضية».
وبالانتقال إلى معرض «بيت أم أمل»، نجد أن التلاعب ببرامج التصميم الإلكترونية للخروج بأعمال إبداعية كان من أبرز ما قصدته الفنانة الأميركية من الأصول المصرية ليلى شيرين صقر، والتي حوّلت تجربتها خلال فترات الحمل ورعاية أطفالها إلى ساحة لعرض تصور عن حياة النساء باستخدام الفنون الرقمية.
تعتمد أعمال صقر على تحليل عناصر الصور الفوتوغرافية، وتغيير تفاصيلها بواسطة برامج التصميم المختلفة: «جاءتني الفكرة خلال حملي الأول، وقتها كنت ألتزم البيت بتعليمات من الطبيب، وأيقنت أن أسلوب حياتي يجب أن يتغير ليناسب طبيعة مرحلة الأمومة».
تعرض صقر في معرضها صورة التُقطت خلال الثورة المصرية عام 2011 تم تعديلها رقمياً ليظهر أعلاها تشكيل يمثل صقر نفسها خلال حملها الأول الذي تزامن مع الحدث، وقتها تابعت صقر كل التفاصيل بشغف دون قدرة منها على المشاركة الفعالة.
في السياق ذاته، كانت قصائد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش حاضرة من خلال المعرض السمعي البصري «على ناصية الحلم»، للفنانة المصرية بهية شهاب، التي قررت خلال معرضها الجديد تحويل شغفها بفن الغرافيتي إلى فيديوهات مصورة. وعبر أربعة أفلام قصيرة، تستعرض شهاب قضايا الهجرة والغربة والوطن على قصائد وعبارات شعرية لدرويش، من بينها «وطني ليس حقيبة»، و«من لا بر له لا بحر له»، و«نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً».
الطريقة المبتكرة لعرض الأفلام الأربعة التي لا تزيد مدة كل منها على دقيقة واحدة، عكست أهمية استخدام التقنيات الحديثة في كسر الحواجز بين المتلقي وصانع الفيلم، إذ تم تصوير المشهد الواحد من عدة زوايا، واستخدمت جدران قاعة العرض الأربعة كشاشات لكل زاوية ومشهد.
فكرة المعرض التفاعلية نبعت من رغبة بهية في إشراك المتلقي في العمل الفني، وهي فكرة مستمدة من عملها في عدد من مشاريع الغرافيتي (الرسم الفني على الجدران)، كما أرجعت استعانتها بقصائد درويش إلى تأثرها بقصائده منذ صغرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)