ليس أفضل من الكرنفال واستعراضاته الملّونة لنزع رداء الكآبة عن جسد مدينة البندقيّة وإعادة البهجة إلى «مليكة البحار» التي منذ عقود ترزح تحت خطر الماء الذي بنت عليه مجدها وكان مصدر ثرائها الذي سخرّته لصناعة الجمال.
ولكرنفال هذه السنة نكهة خاصة بعد الفيضانات التاريخية التي غمرت المدنية مطلع الشتاء الماضي وأوقعت خسائر فادحة في التراث الفني والمعماري، وأعادت إلى الأذهان مخاطر الغرق النهائي الذي تعيش على كابوسه منذ عقود.
يعود تاريخ كرنفال البندقيّة إلى أواخر القرن الثالث عشر عندما كان مناسبة لسكّان المدينة يتحرّرون خلالها من الضوابط الاجتماعية الصارمة التي كانت تفرضها الحكومة، فيستسلمون للملذّات ويطلقون العنان لرغبة التنكّر والتبرّج الراسخة منذ القِدم عند الإنسان.
تقول الدراسات الأنثروبولوجية إنّ الأعياد التنكرية كانت معروفة وشائعة عند قدامى السومريين والمصريين، وإنّها كانت لازمة في حياة البذخ والإسراف يوم أصبحت الإمبراطورية الرومانية على أبواب سقوطها النهائي. لكنّ المعلومات الوحيدة الموثّقة عن نشأة أعياد الكرنفال كما نعرفها اليوم، تفيد بأنّ حاكم البندقية استجاب لنصيحة مستشاره الأول في عام 1296 ليكون للنبلاء والأرستقراطيين، في تلك الجمهورية التي كانت قد بلغت أوج مجدها وأصبحت القوة البحريّة الأولى في العالم، عيداً يجولون فيه بين عامّة الشعب فيتسقطّون أخبار المواطنين ويقفون منهم على حقيقة مشاعرهم وما يعتمل في المجتمع من منازع ومشكلات.
ومع مرور الوقت تطوّرت احتفالات الكرنفال، وراح الفنّانون يتنافسون على إلباس استعراضاته أجمل الحلل والابتكارات إلى أن بلغ شهرة واسعة وأصبح إحدى الوجهات السياحيّة المفضّلة لدى المسافرين الأوروبيين، وبخاصة منهم النبلاء والأثرياء والأدباء والفنّانون والرحّالة الذين كانت تجذبهم مفاتن البندقية وتراثها الفنّي الفريد.
حافظ كرنفال البندقيّة على رونقه وشهرته حتى أواخر القرن الثامن عشر إلى أن دخل نابوليون بونابارت إيطاليا وفرض سلطانه عليها، فأمر في عام 1796 بإلغاء احتفالات الكرنفال خشية أن يستغلّها أعداؤه لتدبير المؤامرات والاغتيالات، وبقيت محظورة رسمياً حتى عام 1979، رغم أنّ المواطنين كانوا قد استأنفوا الاحتفال بهذه الأعياد في عدد من المدن قبل ذلك بسنوات.
وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي قرّرت بلديّة البندقيّة إعلان الكرنفال عيداً رسميّاً، وخصّصت له ميزانية كبيرة بهدف استعادة بريقه السابق وطقوسه العريقة التي تميّزه عن احتفالات الكرنفال الأخرى التي كانت قد انتشرت في العديد من المدن الأوروبية والأميركية اللاتينية، لكنها كانت دون المستوى الرفيع الذي بلغه كرنفال البندقيّة في السابق.
في عام 1987، قرّرت منظمة اليونيسكو إدراج كرنفال البندقيّة على لائحة التراث العالمي، بعد أن أصبحت احتفالاته الحدث السنوي الأهمّ في المدينة ومقصداً لأعداد كبيرة من السيّاح ومسرحاً يتبارى عليه الفنّانون في استعادة الطقوس الاستعراضية القديمة والصناعات الحرفيّة التي اشتهرت بها البندقيّة مثل الأقنعة والأزياء التنكرّية. يستمرّ الكرنفال عشرة أيام تتزامن خواتيمها مع بداية فترة الصوم عند المسيحيين التي ينقطعون خلالها أربعين يوماً عن زفر الطعام، ومن هنا اشتقاق عبارة كرنفال التي تعني باللاتينية: وداعاً أيها اللحم!
تبدأ الاحتفالات باستعراض تنكرّي كبير في ساحة القديس مرقس، من ثمّ تتوالى الاستعراضات كل يوم وتتخللها مسابقات في الأقنعة والأزياء التنكرية والملبوسات التقليدية. وفي ثاني أيام الكرنفال تحتفل المدينة عند انتصاف النهار بِعيد «تحليق الملاك» الذي يستقطب جماهير غفيرة إلى ساحة الكاتدرائية المطلّة على البحيرة، وفي المساء يجري الاحتفال بعيد «المريمات» الذي يعود في تاريخه إلى قرار حاكم المدينة بتكريم 12 فتاة من «المليحات الفقيرات» كل سنة وتنكّر النبلاء والأثرياء بألبسة العامّة والفقراء. كما تشهد المدينة أيضاً خلال الكرنفال احتفالات موسيقية كل ليلة تُختتم في اليوم الأخير باحتفال «تحليق النسر» الذي ينذر بنهاية الأعياد وبداية الصوم.
وفي الليلة الأخيرة يخرج سكّان المدينة في مواكب تنكريّة مهيبة وينتشرون في شوارع المدينة وأزقتها الضيّقة وعلى مئات الجسور التي تربط بينها، ثم يتجمّعون في الساحات الفسيحة بينما تكون الأقنية مكتظّة بالقوارب النحيلة التي تتهادى عليها أحلام الذين يعرفون أنّ البندقيّة كانت وستبقى أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع.
كرنفال البندقية ينزع عن «مليكة البحار» كآبتها باستعراضات ملوّنة
بعد الفيضانات التي غمرتها وأوقعت خسائر فادحة بالتراث الفني والمعماري
كرنفال البندقية ينزع عن «مليكة البحار» كآبتها باستعراضات ملوّنة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة